الصفعة

Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: فراس عبد الخالق عبد الكريم** |

طراااخ!
افقت من هول صدمة الصفعة وعقلي قد سافر الى بعد زمني آخر. كانت الصفعة قد استدعت كل كرياتي الحمر التي كانت تسير لا مبالية في شراييني الى حيث مكان تلقي كف الصافع، خدي الأيسر. بثانية واحدة، الكل تجمع، مما أظهر أي هيوغلوبين تحمل هذه الخلايا والتي عزمت على أن تشارك مجايليها من خلايا الدم الأخرى مسؤولية إظهار الاحمرار في خدي من خلال التزاحم والتلاصق لتركيز اللون، علّ الصافع تأخذه رأفة بحالي فلا يتبع الأولى ثانية. كانت صفعة من رجل مجهول، والسبب أنني، من غير سبق ترصد، قد دست على أصابع قدمه اليسرى، فاستدعيت كرياته الحمر الى أصابعه.
مذهولا نظرت اليه، وكعادتي فقد تزاحمت الالاف الكلمات الشاتمة والمنددة والمهددة، الا انها جميعا تلاشت حين نظرت الى عينيه. لقد كانت هولاً من الاهوال. بلعت ريقا لم اجده في حلقي وترقبت بصمت ما سيحدث بعدها. كانت الثواني حبلى بمفاجأة لم استطع تبيان ملامحها. هل سيعيد الصفع؟، هل سينفخ نارا من فيهِ؟ ام انه سيستمر “دراكولياً” في صمته حتى يتوقف قلبي عن الخفقان؟ كل الاحتمالات كانت مفتوحة، الا انني كنت اود للموقف ان يستمر حتى استطيع ان استجمع اشلاء شجاعتي وارد عليه. الثواني مستمرة بالعدو البطيء وهي تردد النظر بين كلينا، ترى هل سيرد المُستفِزُ على المُستفَزُ؟ اطرقت النظر الى الارض، مفكرا فيما يجب ان اقوله. الحوار الخلوق الذي ارد به في مثل هذه المواقف لا ينفع.
“استاذ.. انا اعتذر، احمق انا حين استعجل في مشيتي، هل تسببت لك باذى؟”
وعادة اتلقى مثل هذا الرد..
“لا ولا يهمك”
او احيانا هذا الرد..
” انت اعمى؟ تمشي وتسحق اقدام الناس مثل الثور”
هذا الحوار الافتراضي، حدث مراراً معي من قبل الى درجة انني اعتدت اداء دوري فيه من غير توقع لجائزة افضل ممثل على ادائي. انا معتذر طبيعي. هكذا كنت وهكذا ساظل. اخطيء دوما والاخرون يغضبون فاعتذر.
اثناء نظري الى الارض وانشغالي بالالم الذي احتل صدغي ودماغي، لاحظت مسألة غريبة، لقد كانت قدم الرجل تتحول، بطريقة ما، الى قدم معلمي في الابتدائية، الرجل الذي نجح في فرض شخصيته وعُصابَه علي وعلى زملائي مما علمنا احترامه وعدم احترام الرغبة في تعلم اي شيء. ومع استمراري في رفع نظري نحو الاعلى، ظهر ان اجزاءاً اخرى من ساقه قد بدأت بالتحول ايضاً وكلما امعنت النظر، كان الشكل الجديد يتحول بدوره وهكذا دواليك في حلقة مفرغة. بعض هذه التحولات كانت لأشكال بشرية، زوج عمتي، زميلي في المدرسة، بائع البطيخ. وبعضها كان لأشكال غير بشرية، ساق فيل، ركبة أسد، فخذ كلب ثم فخذ نعامة، فخذ خرتيت.. هل أثرت الصفعة بأحد مراكز التفكير والذاكرة في دماغي؟
وَجِيبُ قلبي بلغ صلعةَ ايفريست، لذا فقد فكرت بالتوقف عن الصعود الى الأعلى، كل شيء متوقع بعد هذه الصفعة، وقد اكتشف ان الرجل قد كثرت رؤوسه او انه بدأ بنفث النيران من رأسه التنيني. وبالفعل فقد نفذت ما كنت افكر فيه وجمّدت حركة رأسي. كنت قد بلغت اسفل ذقنه بالضبط ومن حركة فكه الاسفل ادركت انه سيتفوه بكلام ما. في موقف كهذا كنت اود من اعماق قلبي ان يشتمني وان يكون مؤلف قاموس السباب في البلد، لان هذا يعني انه سيفرغ شحنة الغضب بطريقة لا تؤذيني. كان سيجرح كرامتي، او ما تبقى منها، ثم يرحل. هذا ما تمنيته ولكن تعلمون ما يقال عن الرياح التي تجري والسفن. التوافق لا ينسق بين رغباتها احيانا.
سقطت قطرة من وجهه، حسبتها اول الامر قطرة من زبد فمه، ولكن تبين في ما بعد انها دمعة. تابعتُ الدمعةَ التي التهمت الاسفلت ما ان لامسته واستمرت بالنزول كمثقاب دقيق يحفر بنهم. ثم كما يتتابع المطر، تتابعت دموعه. ومن غير سابق انذار انطلقت من جوفه صرخة وحشية وكأنها نشيج طعينٍ، مزقت المُدى جنْبَه. لم يكن الوقت المناسب لي كي اضطر لاستيعاب صدمة جديدة. تلاحقت الافكار في عقلي وكأنها وابل من النيازك. هل هو يبكي؟ وان كان كذلك، فلِمَ؟ اكيد ان خدي لم يؤلم يده كما تقول الفكرة المستهلكة السخيفة. واكيد ان شخصاً مخيفاً مثله لا يبكي ولا حتى يتباكى، كما يتفلسف “المتنبي”. وعلى الرغم من ان “بوريس جونسن” اعترف بانه بكى في افتتاح اولمبياد لندن، الا ان هذا الرجل يفوقه قسوة وتبلداً. تخيلت ان الرجل قد تحول الى “بوريس جونسون” وان صفعته تمثل تفوق الغرب علينا. لم اكن بحاجة لمزيد من الاحباط السياسي للامة كي امزجه بخوفي من اللحظة الراهنة. جرعة من هذا المزيج المتوحش، تقضي على الزعماء بثوان. وانا لست منهم ويكفيني ان اخرج سالما من هذا الموقف، محتفظاً بالروح وبالدم.
انتبهت الى ان المارة لم يتوقفوا ليتابعوا هذا المشهد العجيب. قدم تدوس على اصابع غيرها، ثم صفعة مؤلمة، فذهول، فبكاء مرّ. كل هذا ولم يتوقف احدهم او احداهن. لا فضول ولا تعاطف ولا غضب في هذا الجزء من المدينة. الكل يسير في اتجاهه، متجاهلا الاخرين، حتى وان تعرضوا لبركان ثائر. كي تعيش في روما يجب ان تتجاهل الرومان والزمن له ثمن.
تذكرت الرجل ودموعه والم خدي. بدا ان الرد المناسب سيكون لجسدي وليس لعقلي، فقد لاحظت ان يدي تتحرك نحو جيب بنطالي ببطء. لم اكن اعرف السبب ولكن عجزي اوحى لي بان اتركها تفعل ما تشاء. ممدت يدي داخل الجيب واخرجت منديلا كنت قد اشتريته قبل شهرين. تحركت يدي وبين اصابعها يلوح المنديل باتجاه رأس الرجل وكذلك فعلت عيناي. كانت الحركة بطيئة ومهيبة في الوقت عينه. ومع الحركة البطيئة، بدأ جدار الخوف في داخلي يتزعزع وآملت ان ارى انساناً ضعيفاً تدرع بالتوحش كي يستر ذاته الضعيفة ومخاوفه من التواصل مع البشر. وصلت عيناي وكف يدي الى وجهه في وقتين مختلفين. لم اتذكر ايهما سبق ولكنني فوجئت بالرجل الصافع الباكي وقد تبدلت سحنته وبدا حزيناً وهادئا بعد رشقة الدموع التي بل بها الشارع وبعد صرخة الدب البري التي اطلقها في الهواء البكر.
بدأت بمسح دموعه من على خديه. كانت دموعه عصية على الالتحام بالياف قماش المنديل وكأنها قطع صغيرة من المطاط يتقافز فوق تضاريس المنديل. كم كرهت تصرفات هذه الدموع الغبية. وبمرور الثواني وبملاحظتي لزوال الخطر من ردة فعل هذا الضعيف العملاق، بدأت افكر في ان انهي نوبة التعاطف المؤقت هذه وانهال على الرجل ضرباً مستغلا انه اصيب بشلل ناجم، على حد توقعي، من ان قواه خارت بعد صرخته. كنت اريد ان اعتذر له ولغيره بطريقة تختلف عن ما سبق. كنت اريد ان انتقم من صبر آلمني واخلاق طعنتي مراراً.
كان المنديل ملتصقاً بوجهه والدموع تتقافز من حوله. لم افكر طويلاً. دفعت المنديل باتجاه فمه وانفه، كي اسد مجرى الهواء واخنقه. حاول المقاومة الا ان جسده كان قد انتحر اصلاً فلم تتحرك اي عضلة فيه لانقاذه. كنت ادفع المنديل وادفعه نحو حائط متواطيء معي. ثوانٍ مرت وبعدها سقط العملاق ارضاً. كنت هادئاً ما خلا لهاث نصر لازمني. دفعت الجثة بقدمي ومضيت في طريقي ماشياً بين الرومان الاخرين.

*وصلت القصة إلى القائمة القصيرة لمسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة.
**قاص عراقي.

Optimized by Optimole