مطلوب موظفين للعالم الآخر

Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: شيرين فتحي** | لا أعرف بالضبط متى بدأت تلك اللافتة في الظهور قبل أن تبدأ في الانتشار بتلك الصورة المرعبة. طوال الوقت كانت اللافتة مكتوبة أمامي، كانت مكتوبة بخطٍ سميك وببنطٍ كبير على جدران العمارات الكبيرة، وبخطوطٍ صغيرة ولكن واضحة على أوراقٍ بيضاء صغيرة يلقيها الصبية علينا في الشوارع.
كان هذا قبل أن تبدأ اللافتة الأخرى في الظهور. اللافتة الأخرى كانت صغيرة نسبيا، تشبه لافتات المترو التي تظهر فجأة أمامك في الشوارع لتنبهك إلى وجود محطة مترو مختفية بأكملها تحت الأرض. كانت تشبه لافتات المترو إلى حدٍ كبيرغير أن حرف الإم الشهيرة باللغة الانجليزية لم يكن مكتوبا. كانت هناك عدة أحرف غير واضحة أو بالأدق لم تكن لتصنع كلمةً محددة، ففي كل مرة كنتُ أكوِّن من الأحرف كلمةً مختلفة، وإن ظلت الكلمات كلها في النهاية بلا معنى. كان السهم المشير إلى الأسفل هو الشيء الوحيد الواضح والمشترك في كل اللافتات، والفتحة الضيقة على سطح الأرض والتي غالبا ما تنحدر منها ممرات كثيرة بعد انتهاء تلك السلالم الطويلة كان أمرا مشتركا أيضا.
بمرور الوقت كان عدد تلك اللافتات يزداد بطريقة مريبة .. كان الورق الأبيض يتساقط عليك بالعشرات أوبالمئات في داخل السيارة الواحدة وكلما تخلصت منه هاجموك بأعداد أكثر.. كان الورق في كل مكان، يدخل إليك من شباك السيارة أو الأتوبيس أو يُلقى عليك من ركاب المواصلات إن كنت سائرا. وفي الطرقات الخاوية من المَركبات كان يتساقط من البنايات وأسطح البيوت وأحيانا أخرى كنت ألمحه يسقط مباشرة من السماء.
حاولتُ أن أسأل أحدهم في مرة عن إحدى اللافتات التي خرجت أمامي فجأة من الأرض، ولكني بمجرد ما بادءته بالحديث حتى اختفى تمامًا عن عيني. كانت تلك هي الطريقة المتبعة معي هنا في الرد على كل أسئلتي، وذلك حتى من قبل أن أصبح من ساكني القاهرة. تلك المدينة التي لم أكن أقصدها إلا لأسبابٍ ثقيلة كاستخراج ورقة حكومية متعثرة، أو لزيارة مريض من الأقرباء في طور الاحتضار. فالقاهرة كانت تبدو لي دوما هي المحطة الأخيرة التي يعرج عليها المرضى قبل الرحيل … أحيانا كان الأهل يصطحبون مرضاهم فقط إلى هنا ليثبتوا لأنفسهم وللمحيطين بانهم قد بذلو أقصى ما في وسعهم. على الرغم من الفكرة الكئيبة التي كونتها عن تلك المدينة إلا أنني كنت متحمسًا جدا حين حصلتُ على وظيفتي هنا كمحررٍ في إحدى الجرائد.
في نهاية كل أسبوع كنت أعود لمدينتي الإقليمية لزيارة أمي .. فهي لم تقبل المجيء معي إلى هنا، لم تعجبها المدينة.. تكِنُّ لها بعض الذكريات السيئة عن موت أبي وموت بعض الأقارب والجيران.
في نهاية كل عطلة وقبيل السفر بقليل كانت أمي تسألني نفس السؤال: كيف تثق في مدينة تضع إعلاناتٍ عن أحواش ومقابر بأسعار مغرية في كل مداخلها؟!!
في البداية كنت أتوه في شوارع العاصمة.. كنت أسأل الكثيرين عن أسماء الشوارع والعناوين، ولكني لم أحصل أبدا على أية إجابات..فإما ألا يجيبك من سألته من الأصل وإما ان يبتسم إليك في ود مصطنع قائلا: أنا أيضا ضائع.
أيقنت بعد عدة مرات تهت فيها أن سكان تلك المدينة أغلبهم تائهون، نصفهم لا يعرف طريقه، والنصف الآخر لا يعرف سوى طريقه فقط، وفي الحالتين لا جدوى من السؤال. بعد عدة سنوات أصبحت انا أيضا مثلهم لم أكن أجيبُ على أسئلة أحد ولم أكن أعرف سوى طريقي وأحيانا كثيرة كنتُ مثلهم لا أعرفه.
كانت اللافتات والفتحات المؤدية إلى الأسفل تزداد كل يومٍ عن سابقه.. لكن الإعلانات بدأت تظهر بها بعض التحديثات: ظهرت عبارات أخرى مثل: ” لا يشترط الخبرة” – ” من الجنسين” – ” من جميع الأعمار”.
لكنَّ تلك الجمل الإضافية لم تحمل توضيحًا أو شروطًا فاصلة للتقدم لتلك الوظيفة وكأن الأمر متاح للجميع.
لم تعد الورقة تُلقى في داخل السيارة أو خارجها أو تسقط عليك من السماء فقط. بل كنتُ أشعر بأيادٍ خفية تدسها في جيوبي، وأحيانا كنتُ أخلع ملابسي لأجد جسدي كله مغطى بتلك الأوراق والعبارات الصغيرة. وأحيانا كانت تظهر تلك العبارة فجأة على شاشة الموبايل لعدة ساعات قبل أن تختفي.
بمرور وقت آخر وبازدياد أعداد الاعلانات واللافتات بدأت الكلمة تتردد على لساني بغير انقطاع وبلا أية مناسبة حقيقية في الحديث. ففي يوم الجمعة كانت تأتي أمي لتوقظني .تقول صباح الخير
فأرد: مطلوب موظفين في العالم الآخر
الإفطار جاهز أو كيف حالك اليوم، أو هل نمت جيداً؟
كل الأسئلة لم يكن لها أي رد سوى تلك العبارة.
كانت أمي ترتبك من تكراري المستمر لتلك العبارة فتضطر للتهرب مني بالخروج من الغرفة أو بالتظاهر بالانشغال في أية أعمال منزلية، وأحياناً أخرى كانت تتجاهلني وتتابع حديثها وحكاياتها عما فعلته في غيابي طوال الأسبوع.
حتى في العمل ، حين دخلت إلى مديري الذي كان قد قرر مجازاتي بحسم يومين من المرتب لتأخري في إنجاز الأعمال المطلوبة مني وجدتني أرد عليه بنفس العبارة فارتبك وعدل عن قرار الحسم.
ولكن تلك العبارة لم تفلح معي بعدها بمدة حين فصلني المدير نهائياً من العمل بعدما واجهني بالمقالات الأخيرة التي أنجزتها أو هكذا كنت أعتقد… كانت الأوراق كلها بيضاء إلا من عبارة واحدة تتوسط كل صفحة “مطلوب موظفين في العالم الآخر”.
حاولتُ أن أركز أكثر في اللافتات والسلالم لاحظتُ بعض الناس على تلك السلالم. في الحقيقة لم ألمح أحدهم كاملاً. لم أكن ألمح إلا نهاية رأسه وهي تختفي أو أطراف أصابعه التي يشير بها كأنه يودع أحداً؟ ولكني لم ألمح إنساناً كاملاً وتلك السلالم والممرات تبتلعه معها إلى الأسفل. الغريب أيضاً أنني لم ألمح أحدًا يخرج أبدًا من تلك السلالم. من الواضح أن المخارج لم تكن معروفة أو ربما لم تكن موجودة من الأصل. أخافتني تلك الفكرة الأخيرة خاصة وقد تذكرت سؤال أمي: كيف تثق في مدينة تبتلع نصف سكانها تقريباً كل يوم في أنفاق تحت الأرض؟
لكن كل تلك الأفكار لم تمنعني من التجربة في اليوم الذي فصلوني فيه من العمل. قررتُ أن أجرب الأمر خاصةً وقد أصبحتُ بلا وظيفة. والإعلانات أيضاً كانت قد بدأت في إضافة بعض العبارات المغرية:
” بمرتبات مجزية”- “وجبات مجانية”- “توفير السكن” – “تأمين طبي شامل”.
بمجرد ما أن وضعت قدمي على أول الدرج حتى انسحب جسدي كله في أنبوب بدا وكأن أحدهم قد أفرغه حديثاً من الهواء، فانسحبتُ مع هذا الهواء أثناء تفريغه.
في داخل الأنبوب رأيت المدينة من فوقي ولكن بطريقةٍ معكوسة، سقف الأنبوب كان مصنوعاً من الزجاج الشفاف. كان الإسفلت فوق رأسي وكذلك عجلات السيارات وأقدام المارة .. ارتبكتُ في البداية محاولاً حماية رأسي من الدهس المتوقع حتى أدركت وجود هذا الحاجز الزجاجي حين عبرت أسفل أحد الكباري ولم تغرقني المياه كما توقعت.
ألقاني الأنبوب في مكان شديد الاتساع، يبدو كصالة استقبالٍ ضخمة. وجدت العديد من الموظفين في استقبالي.. وعدداً هائلاً من المداخل، والموظفين، وعدداً أكثر من طالبي الوظيفة. كانوا بالفعل من الجنسين ومن جميع الأعمار. كان الجميع باستثنائي يحملون بطاقات تعريفية معلقةً في رقابهم وتتدلى على صدورهم كما لو كانت ميداليات قد حصلوا عليها في بطولات سابقة. كان هناك أطفال بزي مدرسي أو رياضيّ، وآخرون بملابس عادية أو منزلية، كان هناك رجال وسيدات عجزة تساعدهم بعض المدربات على السير، ويرشدونهم إلى الطرقات المناسبة ليمروا من خلالها قبل أن يختفوا تماماً عن نظري. كان هناك بعض الرجال في زي كزي المستشفيات. أحدهم كان يجر وراءه جهازاً لقياس دقات القلب ..كانت صافرة الجهاز تدوي بلا انقطاع والخط الأفقي يمضي خلف الرجل بما يشير إلى التوقف النهائي للقلب، بيد أن الرجل كان يسير بطريقة طبيعية بل وبخطواتٍ سريعة نسبياً. وكانت هناك امراة تمضي وخلفها حامل المحاليل الذي نراه في المستشفيات وهو يركض خلفها على العجلات المثبتة في أسفله ويربط فيما بينهما بعض الخراطيم الطبية التي كانت تمتد من الحامل إلى ذراع المرأة، وآخرون كانوا في حالاتهم الطبيعية وآخرون على كراسي متحركة وهكذا رأيت من كل الأحوال.
.. أول ما جال في خاطري لمَ مازالوا يصرون إذن على زراعة تلك اللافتات وتوزيع الأوراق البيضاء الصغيرة بكل مكان إن كان لديهم كل تلك الأعداد الهائلة من البشر؟!!.
اصطحبني أحد الموظفين إلى أحد الممرات. حاولتُ أن أخبره انني لا أملك بطاقة تعريفٍ كالآخرين ولم أحضر حتى أية أوراق لأتقدم بها إلى الوظيفة. طلبت منه أن يسمح لي بالذهاب لإحضار تلك الأوراق من المنزل ولكنه تجاهل الأمر بابتسامة ساخرة. حين بدأ الخوف يتسرب إليّ بدأت أصر على الذهاب لكنَّ موظفيْن آخريْن قد جاءا وقيداني بحركةٍ مباغتةٍ بأيديهما الثقيلة، وأجلساني على أحد المقاعد بعدما اقتاداني إلى إحدى الحجرات. كانت هناك لافتة على باب الحجرة مكتوب عليها بخطٍ واضح: المحررون.
جلستُ بلا قدرة على الحراك. لكن بعد قليل بدأتُ أستعيد قدرتي على الحركة. وجدت أحدهم يناديني وكأنه يعرفني.. أخبرته عن أمر البطاقة والأوراق فأجاب:
لا تقلق كل أوراقك معنا. وأخرجَ لي من أحد الأدراج ملفًا لمّا فتحته وجدت فيه كل كل الأوراق الخاصة بي بداية من شهادة ميلادي وشهادات التطعيمات الصحية وكذلك كل الشهادات العلمية التي كنتُ قد حصلت عليها بالإضافة إلى سيرة ذاتية كانت تضم كل ما أعرفه وما لا أعرفه عن نفسي.
سألني: هل استعدت وعيك؟. فكلما ذهبتَ إلى زيارة أمك في أحد أحلامها عدتَ إلينا ضائعًا مشوش الفكر كما أنت الآن.
كانت الأوراق ملقاة أمامي بخطٍ بدا مألوفًا لي. كانوا يطلبون المزيد من العبارات لضمها إلى اللافتة. لم أكن بحاجة للسؤال عن أي لافتة يتحدثون .. استأنفت في الكتابة:
“مطلوب موظفين للعالم الآخر، من جميع الأعمار والجنسيات، ولا يشترط حسن المظهر أو السلوك”.

*وصلت القصة إلى القائمة القصيرة لمسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة.
**قاصة مصرية.

Optimized by Optimole