“كرسي مفرد بجوار النافذة”

Spread the love

مايكل بشرى/
ياله من يوم متعب !
منذ أن تسلمت وظيفتي الجديده لم أبت في بيتي ليلتين متتاليتين. الأيام تهرول ولا أدري بها، ولولا وجود فواتير التحصيل المؤرخه في يدي، التي أدور بها من بلدة إلى أخرى، لتحلل الزمان في ذهني وتبخر في الهواء.

حين عبرت فوق سطح منزلنا طائرة وأنا صغير، راقبتها من بداية صفحة السماء إلى آخرها. نقطة بيضاء معدنية ضئيلة، أحدق فيها وأنا أثبت رأسي ناحيتها حتى يكاد عنقي أن ينكسر. لا أفلتها إلى أن تختفي من مدى البصر. لا أكف عن الدعاء: “يارب، حين أكبر أريد أن أسافر هكذا. أريد أن أجوب العالم بالطائرة.”

يبدو أن السماء استجابت الدعاء نصف استجابة. ها أنا اليوم أسافر كثيرًا بالفعل. لا تكاد الأريكة في بيتنا تتشبع بسخونة جسدي، حتى يأتي إذن تحصيل الفواتير من البلاد البعيدة، فأقوم وأسافر إلى مختلف أقاليم الجمهورية.
أصبح لي في مختلف الأقاليم مقاهٍ بعينها أتردد عليها؛ أتمم فيها الصفقات، وأقابل التجار، وأعرض عليهم قائمة منتجات شركتنا من البضائع الجديدة، وفي النهاية أحصل منهم المال.
كل هذا يتم بسرعة. إن تحركت وسافرت من إقليم إلى آخر بصورة أسرع، حققت المستهدف الذي عينته لي الشركة، ما يعني حصولي على الحافز أخيرًا. الحافز الذي يسند راتبي الهزيل.

أفضل الحافلة للتنقل بين الأقاليم. نظرًا لأني لا أبيت في بيتي منذ فتره، ولا أذكر متى كانت آخر مره مددت فيها ظهري على فراشي.

كلما سافرت، وقفت أمام شباك التذاكر، أطلب من الموظف كرسيًا مفردًا جوار النافذة. بمجرد أن أدخل الحافلة، أستمتع بهواء المكيف البارد فتسترخي أعضائي التي أنهكها حر النهار. أدخل إلى حمام الحافلة الصغير، أغسل وجهي وشعري وأقضي حاجتي، وأخرج لأجد جسدي كله يستمتع بالبرودة. أفرد الكرسي على استقامته، وأفرد عليه ظهري المتعب وأغفو ثم أنام نومًا عميقًا لا أستيقظ منه إلا على موعد عملي في الإقليم التالي.

ليس هذا فقط ما يجعلني أفضل الحافلة عن باقي أنواع المواصلات، فيكفي أن الحجز متاح دومًا للمسافرين في أي وقت. هناك حافلة تخرج من موقف الشركة كل ساعة. على النقيض، كراسي القطار محدودة العدد. كما أن سيارات الأجرة قد تكون مزعجة جدًا إن استخدمتها للسفر في المسافات الطويلة. أيضًا في الحافلة تعرض أفلامًا سينمائية حققت نجاحًا تجاريًا.

أسطول الحافلات الرابض في موقف الشركة طويل يوحي بالرهبة. ياله من عدد ضخم من الأجسام المعدنية. حجم جسدي الصغير يزيدني شعورًا بالرهبة والإكبار أمام هذه الأجسام المعدنية العظيمه الحجم. كم كنت أشعر بالهيبة حين أتأمل جبلًا على الطريق الصحراوي في أثناء سفري، أو حين أحدق في صفحة البحر الزرقاء إن استدعى عملي السفر إلى مدينة ساحلية.

رؤية هذا الأسطول الحديدي تلقي في قلبي الروع والرعب؛ فإضافة إلى هول حجم الحافلات وكثرتها، مجرد حشدها بهذه الطريقة يذكرني باصطفاف المركبات التي تتجمع عن وقوع مصيبة، مثل المدرعات وقت الحرب، وعربات الإسعاف في الحوادث، وسيارات المطافئ عند نشوب الحرائق.

لكل الحافلات نفس اللون الأبيض والأزرق، وعليها شعار الشركة: “العاصمة”.

ونظرًا لتطابق هذه الأجسام الحديدية البيضاء، أصبحت مع الوقت أحفظ أرقام لوحات الحافلات. أعرف أن رقم 699 هو رقم الحافلة التي سأستقلها إلى الوادي الجديد، و رقم 700 هو رقم الحافلة التي أستقلها إلى مرسى مطروح، و رقم 12 هو رقم الحافلة التي أستقلها إلى القاهرة، أما رقم 156 فهو رقم الحافلة التي أستقلها إلى بلدي أسيوط عند العودة.

استقبلت توًا مهاتفة من مديري في العمل، كاد أن ينفطر لها قلبي من شده الفرح.

على غير العادة، أخبرني أن قسم الحسابات أبلغه أنني حققت الرقم المستهدف الشهر الماضي، وتمت الموافقة على صرف مكافأة لي هذا الشهر. ليس هذا فقط، بل قال لي أيضًا إنه سيسمح لي بالإجازة لمدة ثلاثة أيام مكافأة على مجهوداتي المتواصلة.

لم أعرف متى توقفت عن الدعاء له بصوت عال وهو يستمع لي. رصدت دمعتين تنحدران من عينيّ بعد انتهاء المكالمة. لم أتوقع مثل هذه المكافأة إطلاقًا. إنه لشيء مرض للنفس أن تشعر بالتقدير إزاء ما بذلت من تضحيات.

حسن، لن أضيع إجازتي في التأمل في بعض المعاني المجردة. سوف ألقي بكل الأوراق التي في يدي في الحقيبة ولن أفتحها إلى بعد انتهاء الإجازة بعد ثلاثة أيام. سأتوجه على التو إلى موقف الحافلات لكي أحجز كرسيًا مفردًا بجوار النافذة في الحافلة رقم 156 المتجهة إلى أسيوط.

أخيرًا سأعود إلى بلدي. أخيرًا، سأتمكن من مشاهدة الفيلم الذي سيعرض في الحافلة ولم أستطع أن أستكمله في المرة الماضية من شدة التعب. سوف أشاهده كاملًا وحين أصل إلى بيتي سأنام قرير العين قدر رغبتي.

لا يعكر فرحتي بالعودة إلى بلدي سوى خوفي من زحام موقفي الحافلات وسيارات النقل الجماعي المتقابلين. هناك تتكتل الأجساد بطريقة مقززة. لضيق مساحة الإقليم، لم يجازف المحافظ بتخصيص ساحة انتظار لكل وسيلة مواصلات على حدة، فقرر أن يجمعها على ضفة واحدة خلف محطة القطار.

يسبب الزحام لي حالة شديدة من التوتر العصبي. أصادف عند وصولي عددًا لا بأس به ممن لا أحب مقابلتهم؛ هؤلاء الأشخاص الذين جمعتني بهم علاقة واهية سحقتها الحياة العملية أو أقارب بت لا أذكر أسماءهم من طول المسافات التي قطعتها سعيًا وراء الرزق. لن أضيع وقت الإجازة في الخوف من موقفي الحافلات وسيارات النقل الجماعي (الميكروباصات) المتقابلين. بالطبع أنا أكثر عقلًا من هذا.

وصلت حافلتي إلى المحطة وصفت بتؤدة بجوار باقي وحدات الأسطول. تفضل السائق مشكورًا بالهتاف في المذياع ليوقظنا من النوم. كان الوقت بعد الفجر بقليل، ومعظم ركاب الحافلة يغطون في نوم عميق.

حين أسمع صوت هذا الرجل يصرخ في وجوهنا في كل مرة نصل فيها إلى المحطة، أكاد أجزم أنه يحترف هذه المهنه بالذات، لأنه لا توجد وظيفة أخرى تجعله يوقظ بعض الأبرياء بفظاظة من النوم، كأحد متطلبات المسمى الوظيفي. إنه يؤدي عمله بحنكة وحرفية شديدتين. أشعر به يسقط كل ما بداخله من قهر مجتمعي علينا نحن الركاب المساكين الذين نفرك عيوننا من شدة التعب.

رباه، ياله من تعب فعلًا! اختلطت عليّ الأيام، وأصبح الوقت مادة هلامية مرنة لا معنى لها. لا أذكر في أي يوم نحن، وبالكاد أستطيع أن أتلمس أثر الوقت من لون السماء. الساعة لا تتجاوز الخامسة صباحًا على أقصى تقدير.

حسن جدًا، في هذا الوقت من اليوم لا يكون هناك زحام في الموقفين المتقابلين.

ستخرج الحافلة المتجهة إلى القاهرة في تمام السادسة صباحًا. فقط النازحون القلائل من أسيوط إلى العاصمة سوف يجتمعون في موقف الحافلات، يقابلهم نفر غير قليل من الفلاحين القادمين من القرى المجاورة لبيع بضائعهم في السوق في موقف الميكروباصات.

أخذت حقيبتي وذهبت إلى موقف الميكروباصات وجلست في المقعد الأمامي وأخرجت مشغل الموسيقى لأستمع إلى موسيقى “كايروكي” المفضلة فطابعهم الهادئ يذكرني بحديث أبي عن السلام النفسي الذي كان يعم البلاد في الخمسينات.

ما هذا الحافلة الخارجة من المحطة المقابلة!؟ الوقت لايزال مبكرًا على خروج أي حافلة، وحافلة القاهرة سوف تخرج بعد ساعة، إلى أين يتجه هذا السائق المجنون؟!

لن أنشغل بهذا الآن فأنا في إجازة لأستريح من عملي المضني وليس لإنتحل شخصية “شيرلوك هولمز”. لكن الحافلة تعبر أمامي، حاجبة بحجمها المهيب المشهد. رغمًا عني أتفقد شعار الشركة ولا أجد شيئًا غريبًا فيه، فألتفت التفاتة لا إرادية إلى لوحة الأرقام المعدنية.

رباه! ما هذا؟ هل هذا الرقم صحيح؟ 156 ؟ الحافلة المتجهة إلى أسيوط؟ لقد نزلت من هذة الحافلة للتو، إلى أين سيذهب هذا السائق المغفل والركاب قد تركوا الحافلة؟

ضحكت من حماقة السائق، ورفعت يدي لأثبت السماعة في أذني وألقي برأسي إلى الوراء لأستمتع بالموسيقى ريثما تمتلئ السيارة بالركاب.

قبل أن أغلق عيني رأيت شيئًا أثار فزعي…
من هذا الذي يجلس في كرسي مفرد بجوار النافذة؟

Optimized by Optimole