خمسُ صور

Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: رغد جديد** |

-صورة 1:
– كم كنتُ ضئيلَ الحجمِ وقتَها! يا إلهي!! ما هذه الابتسامة السخيفةُ التي تشعُّ اصفراراً؟
– أقرّبُ الصورةَ من عينيّ أكثر وأمعنُ النّظرَ فيها وهنا أكتشفُ الحقيقةَ المرّة؛ “قزّوم” –وهذا كانَ لقبي في المدرسة_ معصورٌ بإتقان بين أضخمِ صبيّين في الصفّ “سامي” و”مهنّد” وأصابعُ قدميهِ لا تقلّ ثباتاً عن ساقيهِ النّحيلتين في محاولةٍ حثيثةٍ للظّهور في الصّورةِ.
– يومَها فقط توقفتُ عن السخريةِ من فتيات الباليه، لا أدري لمَ كنتُ أسخرُ أساساً من حبوهنّ الشّاعري على رؤوس أصابعنّ.
إنّ العصرَ بهذه الوحشية بين عملاقين ربما كان العقوبةَ التي أستحقّها لما فعلتُه بـ”سامي” و”مهنّد” إذ قبلَ ثلاثةِ أيامٍ فقط من التقاطِ هذه الصورة انتقمتُ من خالقَي “قزّوم” الّلذين جعلا منه فاصلاً كوميديّاً مرفِّهاً لكلّ الفتيةِ في كل الأوقات:
وقت الاستراحة، ولحظة وصولي إلى المدرسةِ، ولحظة دخولي إلى الصفّ وإخراج كتبي من الحقيبةِ، وأيضاً عند محاولتهما شدّ انتباه الفتياتِ اللواتي يلعَبْنَ “نطّ الحبل” في الباحةِ الخلفيّةِ، حتّى الدّروس المملّة لم تكن تخلو من ذلك الفاصلِ المنشّط ولا سيّما عندما كنتُ أرفعُ يدي متحمّساً لمعرفتي الجوابَ فيُنغّصا بسخريتهما فرحتي الصّغيرةَ بمعرفتِه التي لا تتكرّر إلّا مرّةً أو مرّتين في الشّهر.
لنعُد إلى الأيام الثّلاثة الفاصلةِ بين الجريمةِ والعقابِ، كان ذلك اليومُ هو إحدى تلك المناسباتِ التي لا تقعُ إلا مرّةً أو مرّتين في الشّهر، يبدو أنّ تسلّلاتي بعد نومِ أفراد أسرتي لمشاهدةِ مسلسل “فريندز” قد أتَت أُكلها، لقد عرفتُ الفرقَ بينَ live وlife .
يا إلهي كم أحبُّ إصبعَ معلّمتي الممشوق السّاحر وهو يشيرُ إليّ بحماسٍ لأني أجبتُ بصحّةٍ ودقّة وكم أُبغضُ إصبعَي “مهنّد” و”سامي” الثخينتين كثخانةِ ساقِ الفيل وهما تلكزان ظهورَ الفتيةِ في المقعد أمامهما كي تبدأ حلقةٌ جديدةٌ من ذلك الفاصل المنشّط:
“انظروا إلى قزّوم، سيعرفُ الفرقَ بين الكلمتين بالتّأكيد لأنهما قريبتان إلى لفّتهِ الجميلةِ اليوميّة”.
لا بدّ من التنويهِ إلى أنّني كنتُ أقولُ كلمةَ “لفّة” وأقصدُ بها “سندويشة”، لا أدري كيفَ كنتُ أفكّرُ وقتَها، المهمّ.. لنعُد إلى ساعة الانتقام:
خرجتُ إلى الباحةِ وقتَ الاستراحةِ والنّارُ تأكلُ من لحمي القليلِ أساساً لتنفذَ إلى عظامي الليّنةِ الهشّةِ القابلةِ للتّفتيتِ في أية لحظةٍ، لكن هناك شيءٌ آخر تفتّت بين أصابعي؛ إنه قلمي الحبيبِ الذي أهدتني إياه أمي لأن مذاكراتي الشهرَ الماضي ارتفعت من درجةِ متوسّط إلى جيّد.
لقد فارَ حبرهُ الأحمر بين أصابعي، ما الذي فعلتُه؟ لقد قتلتهُ بيديّ هاتين ونزفَ حتى الموت!!
لم أكُن قبل ذلك اليومِ أعرفُ طعمَ الغضب، ذلك الغضب الهائج الذي يسدّ مخارجَ السيالاتِ العصبيّة المتحكّمةِ بانفعالاتك وأفعالك، لقد سُدّت بجدارةِ لأني ركضتُ بسرعة البرقِ عائداً إلى الصفّ وعندما وصلتُ إلى مقعد العملاقَين كسرتُ القلمَ إلى نصفين ووضعتُ كلّ نصفٍ من جثّتهِ الهامدةِ النّازفةِ في حقيبةٍ، ولكم أنتم تخيّلُ منظر كلٍّ منهما عندما بدأ درسُ الرياضيّات وأخرجا كتابيهما.
لقد استطاعَ ذلك السّائلُ الأحمر الشّهي الذي أغرقَ أناملَهما أن يتفوّقَ على الماءِ في إخمادهِ للنار المستعرةِ داخلي، يا لَه من شعورٍ لذيذٍ! ظلّ طعمُه عالقاً بين ضلوعي لكنْ لفترةٍ غير طويلةٍ، إنه الطّبعُ، يا لَحقارةِ هذا الكائنِ البدائيّ الذي يأبى مغادرةَ كهفِه والتكيّفَ مع مستجدّاتِ الحياةِ العصريّةِ، لا أدري لمَ شعرتُ بالذّنبِ وأنا أتقلّبُ في فراشي يميناً ويساراً.
هل أنا فتى جيدٌ؟ هل أنا فتى سيئ؟ هل كانا يستحقّان ما فعلتُه بهما؟ هل كنتُ أستحقُّ تلك الآلام والمكابدات في أثناءِ التقاطِ هذه الصورةِ اليتيمةِ التي تجمعُني بزملائي ومعلّمتي في الصفّ الخامسِ الابتدائي؟….لا أدري.

صورة 2:
لم أستطعْ منعَ عينيّ من النزوح إلى بلاد الغربةِ التي كانت يوماً وطناً، عينان تقطُران أدغالاً لكثافةِ اخضرارِهما وشعرٌ يسدلُ أستارهُ الحالكةَ على بياضِ الصّبحِ في بشرتها ليلغيا القانون الكونيّ الذي ينصّ على تعاقبهِما فيتحدّيان الطبيعةَ بتلازمهِما، بتوءَمتهما، بتجلّيهما معاً.
والآن..، في آنيّةِ تلك اللحظةِ الجامدةِ لالتقاطِ الصورةِ كيفَ لي أن أجمّدَ ما اختبرتُه من حيواتٍ وأنا أتفقّد مشاعري كلّ يومٍ؟ كيفَ لي أن أجمّدَ عينيّ أمام الكاميرا وأقيّدهما بسلاسلِ المنطقِ والعقلِ؟
كانت درجاتُنا الممتازةُ في الشهادة الإعداديّةِ الوتدَ الذي نصبَ خيمتَنا في تلكَ الطبيعةِ الساحرةِ إذ بفضلِها سمح لنا أهالينا بالذّهابِ في رحلةِ تخييمٍ مكافأةً لنا على تفوّقنا واجتهادنا، “نا” الدالة على الجماعة أليسَ كذلك؟ من الـ”نا” هذه؟
كانت أفضلَ “نا” عرفتُها في حياتي كلّها، الـ”نا” التي لازَمتني أجملَ محطّتين في قطارِ العمرِ: الحيّ، والمدرسة.
“هادي” و”زينة” و”تالة”؛ أصدقاء الروح، إكسيرُها المخلِّد وشجرتُها المُفنية في آن- ما عدا “تالة” -.
ما الذي لدى “هادي” لا أملكُه أنا حتى تفضّله “زينة” عليّ؟ لم أكن أدري في ذلك الوقت. أمّا الآن فأنا أدرك جيداً أنّ الطلاقةَ في الحديثِ، والاهتمامَ بشؤون الفتياتِ لخلقِ مادّة كلاميّة دسمة معهنّ، والإصغاء لشكواهنّ ومخاوفهنّ، كلّ ذلك كان مواهب تمتعَ بها “هادي” ليُضافَ عنصرٌ جديدٌ إلى قائمةِ السباقِ بيني وبينه؛ السباق في المدرسة، في الرياضة، في الأصدقاءِ، و…وفي “زينة”.
تلك الصورة التي التقطناها في المخيمِ كانت الجوابَ الشّافي لسؤالٍ ظلّ يلازمني منذ شهرين: كيفَ لـ”هادي” الذي يستمتعُ باستفزازِ رجولتي والسخرية من خجلي أن يغضّ الطرفَ عن صورةِ “زينة” التي رسمتُها على الصفحةِ الأولى من كتاب العلومِ؟
دخلتُ يومها بكأسَي الشاي لأراه –من دونَ أن يراني- يقلّب صفحاتِ كتابي ليأخذَ ما فاته من أجوبة الدرس السابق الذي تغيّبَ عنه، رأيتُ تسمُّرَ عينيه على صورتِها ثمّ ارتعاشَهما بقلقٍ خفيٍّ وهنا ارتعشَ قلبي أنا خوفاً من موجةٍ جديدةٍ من مواعظه عن الرجولة التي تتناسبُ عكساً مع الخجل، ولكن الذي بدرَ عنه لم يشبه الواعظين في شيء…
استمرّ “هادي” بتقليب الصفحات متجاهلاً ما رآه وقد سرحت عيناه في عالمٍ آخر وابتسامة غير “هادية” شقّت طريقاً خبيثاً في وجهه.
صورتُنا في المخيّمِ كانت دليلَ الإدانةِ، الشعرة التي قصمَت ظهر الصّداقةِ، والدخانَ الذي فضحَ النارَ المشتعلةَ في صدري:
صُدمتُ بصديقِ عمري وهو يوبّخني لأنني كنتُ في الصّورة أحدّقُ على نحوٍ فاضحٍ بـ”زينة”، حاولتُ حياكةً ثوب البراءةِ لتلك النظرةِ لكن للأسف، قياسهُ لم يكن مناسباً فالنظرةُ كانت على عكس لساني؛ كانت كلَّ الحروفِ التي لم أقُلها لها، المشاعرَ التي ظلّت حبيسةَ مكانِ ولادتها في قلبي، والآن أنا ضحيّة هذه الرهائنِ كلِّها التي لم أُطلِق سراحَها أو بالأحرى، التي لم أسبق “هادي” في إطلاقِ سراحها.
انفجرنا ملامةً وتخويناً وكنتُ أختبرُ للمرة الأولى انفجارَ المشاعر المختلَطة على نحوٍ لم أكن لأستوعبَه في ذلك السنِّ: حقد، غيرة، غضب، كراهية، وبلغَ الانفجارُ ذروتَه عندما أنكرَ “هادي” حقيقةَ كوني معجباً بها قبله، ولمّا جعلتُ رسمتي لـ”زينة” نداً للصورةِ التي أدانني بها استمرّ بالإنكار بل استمرّ بتكذيبي على نحوٍ صاعقٍ فما أدراهُ بألّا أكونَ قد رسمتُها بعد أن باح لها بمشاعره، وفاضَ سيل ادّعاءاته ليُغرِقَ حقيقةَ الأمسية كلّها التي قضيناها معاً في التّحضير لامتحان العلوم بما فيها تلك اللحظة السحرية التي جمّدت حدقتيه على رسمة “زينة”.
لقد وقعَ الانفجارُ الكونيُّ العظيم الذي خلقَ كوني أنا، كونٌ كلّه حقد وسخط إذ بعد هذه المشادّةِ بيومين غافلتُ “زينة” ووضعتُ الرسمة في حقيبتها، الناطقة الرسمية باسمي ولـ”زينة” ديمقراطية الاختيارِ.
الطّبع.. بديكتاتوريته اللعينةِ التي حرمتني من النوم، هل ما فعلتُه صحيحٌ؟ هل خنتُ صديقي أم هو الذي خانني؟ هل أنا رجلٌ جيد؟ هل أنا رجلٌ سيئ؟… لا أدري.

صورة 3:
لولا وجودُ أمي في الصورةِ لما احتفظتُ بها ثانيةً واحدةً.
تحقّق الحلمُ أخيراً، ارتديتُ ثوبَ القضاةِ -كما كنتُ أسمّيه- بعد جهدٍ جهيد وكفاحٍ لسنواتٍ.
لقد فعلتُها وتخرّجتُ، تعودُ إلى بالي تلكَ الأعمال الشاقةُ التي حُكم بها عليّ خلال سنوات الدراسة الجامعيّة، الأيام لم تدُر لصالحنا، لم نعد كما كنّا سابقاً، أصبح تدبّرُ الأمور المعيشية عنواناً للكفاح اليوميّ، الكفاح الذي شقَّ طريقَه من رأس الهرم: ربّ العائلة، أخي الأكبر، أنا.
كان لا بدّ من الدراسة والعمل معاً لتأمين المتطلبات الهندسيّة ولوازمها التي لا تنتهي، كنتُ أعلّلُ نفسي بالثمارِ التي سأجنيها في النهاية، بثوبِ القضاةِ الذي سأرتديهِ، بالقبعةِ التي سأعتمرُها ثم سأرميها مع أصدقائي، هنا تحديداً، عند هذا الجزء من التداعي أخطفُ نظري إلى تجسيد هذا الأمل؛ صورة أخرى مع أصدقائي القضاة والقبعاتُ معلّقةٌ في الهواء، كان احتفالاً لا يُنسى، ما زلتُ أتذكرُ تزامنَ ضربات قلبي مع خطوات قدميّ عندما صعدتُ الدرج لتسلّمِ الشهادة، لا أتذكر شيئاً بسبب رهبة الموقف إلا دموع أمي، لم تكن تبكي، كانت ابتسامتُها روحاً بحد ذاتها ولكن مع ذلك استطعتُ أن أرى ذلك البريق في حدقتَيها الذي تخلّفه الدموع المتحجرةُ …يُقطعُ هذا التداعي الجميل بابتسامةٍ أخرى لا روح فيها تشاركُ الابتسامة السابقة في تلك الصورة التي لولا صاحبتها –أي أمي- لما احتفظتُ بها ثانيةً واحدةً.
أنا أتوسّطُ أمي وأبي بعد أن تسلمتُ شهادة التخرج، صورةٌ روتينية ُتقليدية موجودةٌ لدى الجميع في هذه المرحلة، ولكنّ اللمسةَ الجمالية التي أضفت الفرادةَ هي ابتسامةُ والدي المُصطنَعة، من يره يقلْ إنه لا يقلُّ فرحاً عن أمي فولدهُ الذي أنفق جهده وماله عليه يراه مهندساً “قدّ الدنيا” ولا يمكن أن يخطرَ على بال أحد الجرثومةَ التي لوّثت عقله تلك الليلة.
عندما علمَ أبي أني لن أعمل في سنة التخرج لأن ضغطَ الدراسة ومشروع التخرج لن يسمحا لي بذلك، تلبد وجهه بالغيوم المنبِئة بحجارةِ السجّيل، تغضّنَ جبينه بتجاعيد تشبه أفعى آدم وموسى، تأرجحت أصابع كفّيه راسمةً في الهواء “كن فيكُن” قبل أن ينطقَ بآياته الكريمةِ:
“إذن… لن أستطيعَ تحمّلَ تكاليفِ موادك الهندسية ولوازمك، أيُعقل أن أبحثَ عن عملٍ إضافيٍّ وأنت جالسٌ في المنزل؟!! فلتتدبّر أمورك بنفسك هذه السنةَ”
تدبّر أموري بنفسي كان يعني الآتي:
-احتيالاتٌ من أمي ومراوغاتٌ مدروسةٌ بدقة في أسعار اللوازم اليومية كي تعطيني ما يزيد على الأسعار الحقيقية لأشتري ما ينقصني.
-تكتيكاتٌ أنثوية من قبل أمي تثبّطُ من مفعول تلك الجرثومة لبضعِ ثوانٍ تستطيعُ خلالها استدرارَ بقايا عطفٍ أبويٍّ ليدرّ بدوره بقايا من محفظتهِ قبل أن يصحو من غفلته فيصرخَ ويشتم لاحقاً عند أي دفعٍ لمبلغ صغير لاعناً الأولاد والجامعة والزواجَ وتتتابعُ السلسلة وصولاً إليه نفسه.
-أما التدبّرُ الأكبر فكان يشهدُ لي بعقلي الإجرامي “المافياتي” الذي أخشى تفعيله لأنه إذا حصل ذلك…حسناً…لن أحكمَ على ما فعلتُه ولن أستطيع فعل ذلك أساساً.
في ذلك اليوم تبعتُ والدي إلى عمله بعد أن تنكّرتُ، وعندما وصل إلى محطة الحافلاتِ، وبينما هو يفتحُ حقيبته انتشلتُها من يده وأنا أركبُ بساط الريح، البساط نفسه الذي كان سيركبه مشروعي لو لم أفعل ذلك وأنقذه عند الرمق الأخير.
لقد فوجئتُ يومها بضميري، واصل نومه بهناء وبفخرٍ أيضاً ولم يصحُ إلا بعد التقاطِ هذه الصورة، هل أنا ابنٌ جيدٌ؟ هل انا ابنٌ سيئ؟…لا أدري.

صورة 4:
بياضان متقابلان، متناقضان، متوازيان، لا يلتقيان في العادة ولكنهما يتلذّذان الآن في التشابك مع بعضهما ومع شراييني وأوردتي.
بياض ذلك الفستان الأخّاذ الذي ذهب بعقلي ليلة الزفاف، وبياض ذلك الكفن الذي ذهب بروحي، أصبحت الصورةُ التي تجمعنا يوم الزّفاف كاميرا فورية تلتقطُ صورتها في ذاكرتي وهي تلفظُ أنفاسها الأخيرة أمامي وأنا أتهشّمُ أمامها عجزاً وضعفاً، أنا…هي…في ذلك اليوم كنتُ…لماذا؟…إنها رئتي أنا التي ماتت بموت رئتها فكيف بقيتُ على قيد الحياة حتى الآن؟ كيف؟..وأنا؟…
ها هو ذا بياضٌ ثالثٌ يتفشى في ذاكرتي، في حروفي، لا فائدة من كل هذه التساؤلاتِ، لا…لا تعليق على هذه الصورةِ.

صورة 5:
صُنعتا بمزيجٍ خاصٍّ متفرّدٍ من عينيَّ وعينيها، أطيلُ النظر إلى عينَي الإله الصغير فيهما، إلى ذلك الحزنِ الذي أفترضُ أنهما جُبلتا منه رغم أن سنواتِه الثلاث لا تعي رحيلَ والدته، ما أجمل أن نصل إلى تلك الدرجة من التطور التي تخوّلنا صنعَ كاميرا تلتقط المشاعر المتوارية خلف الجلد، فأنا النابضُ بالموت لا أدري لمَ كنتُ أضحكُ في تلك الصورةِ، إنها ليست ابتسامةً صغيرةً بل ضحكة نابعة من القلب الميت أساساً لكنه قويٌّ بما يكفي ليعلم أن هناك قلباً صغيراً قُدَّ من خلاياه محمولٌ قربَه فيستحثَّ مواطن الفرح والضحك الجوفية فيه.
فرحي الوحيدُ في الحياة، أملي وكلُّ المسببات المنطقيّةِ لبقائي على قيدِ الحياة ولسؤالي الذي لن أسمعَ إجابته أبداً لأنه مات بموتها:
هل أنا أبٌ جيدٌ؟ هل أنا أبٌ سيئ؟ …لا أدري.
أطيلُ تأملي لهذه الصورة التي تجمعني بابني، أتخيلها في الزاوية اليسرى وهي تومئ برأسها لي أن اطمئن فأنت أب مثاليٌّ يا حبيبي.
أتألم لدرجة الضحك، لكن تقاطعني ضحكةٌ طفولية، أتلفتُ فأرى ابني يحملُ ألبوم صور آخر التقطهُ من الجوار ووضعهُ على الكرسيّ كي يطال جنديه الصغير عن الرفِّ، أغلقُ الألبوم الذي في يدي لأضعه تحت قدميه الصغيرتين ويصبحَ بمستوى الرف ويتناول جنديّه، الجندي المندهش بعينين ينقّلهما بين ضحكتين لأبٍ وابنٍ ازدادَ طولاً.

*رغد جديد قاصة سورية.

**القصة فازت مشاركة في المركز الثالث في مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة برعاية دار الرافدين للنشر والتوزيع.

Optimized by Optimole