جَنَّةُ المُنْتَهَى

جَنَّةُ المُنْتَهَى
Spread the love

قصة قصيرة*  بقلم: عبدالحكيم عامر الطويل** –

كان يتردد أسبوعياً تقريباً على كوكب المريخ ليزور مكتبة الكُفْرَة[1] Kufra هناك، تلك المكتبة الهادئة الواقفة وسط بحر من الصحراء الرملية الحمراء، التي تحاول – بإشراف جامعة المريخ الأولى[2] – تقليد مشروع جدتها التي نشأت يوماً في واحة صحراوية حملت الاسم ذاته وسط شمال أفريقيا في كوكبنا الأم، لكن المكتبة الحفيدة تختص بحفظ كل ما كُتِب عن النصف الجنوبي من كوكب المريخ، في كل صنوف العلوم من كل المستوطنات البشرية هناك، وكان هو يعمل قُرب هذه الأجواء، موظفاً في مركز القمر “فوبوس”[3] Phobos للآثار الفكرية،[4] حيث يمارس وظيفة مترجم أفكار قديمة،[5] لكنه في الواقع كان أقرب إلى وظيفة الحارس منه إلى المترجم! فالمكان صغير والأعمال كلها مؤرشفة ومحفوظة إلكترونياً في نصف مبنى المركز تحت السطح، تستثمر درجة حرارة هذا القمر الباردة (من 4 إلى 112 درجة مئوية تحت الصفر)[6] للحفاظ على سلامتها لقرون قادمة، حيث يمكن الوصول إليها لاسلكياً عبر البوابات مدفوعة الأجر مُسبقاً من سطح المريخ أو أي مستوطنة أخرى قريبة.

كان الجميع يستغرب سِر تَحَمُّله عبء هذا السفر الأسبوعي من فوبوس إلى المريخ والعكس، خصوصاً وهو يقترب من سن تقاعده، مع أن وظيفته ومكانها يؤهلانه للاتصال بمحتويات المكتبة وهو في مكتبه المُريح المُكيف الهادئ، يستمتع منه بمشاهدة شروق المريخ اليومي 3 مرات![7] ويقرأ ما يحلو له من شاشة القراءة، قُرب ألسنة شموع ضخمة على طاولته، مصنوعة عمداً كزينة لتُطلق رائحة الكُتب العتيقة! لذا أثار سفره المتكرر فضول هيئة الأمن الخارجي المريخي! لكنه كان يتحجج دائماً للجميع بأنه يريد العودة إلى المخطوطات الأصلية، فما أسهل تزوير الوثائق الإلكترونية الحديثة، وحينما أعلمه المركز بأنه لا يستطيع تَحَمُّل كل نفقات سفره – باستثناء التي تكون ضمن عطلته السنوية أو المَرَضية أو التي يطلبها المركز- بدأ يسافر على حسابه الشخصي!

نعم كانت المسافة بين مكتبه على فوبوس ومكتبة الكُفْرَة على المريخ المجاور قصيرة بشكل مغرٍ، مُجرد 6000 كلم،[8] أي كالرحلة بين نيويورك وأيرلندا على أرضنا الأم، التي يمكن أن تقطعها طائرة عتيقة كالعصفور الأسود Black Bird في أقل من ساعتين،[9] لكنه لم ينقطع عن هذه الرحلة، ثم زادت أيام زيارته لهذا المكتبة المريخية المعزولة حتى أصاب ابنه الأكبر الشك. فعلى غير عادته صار يُمضي وقتاً فيها أكثر مما يُمضيه مع أبنائه وأحفاده، ثم فاجأ الجميع حينما قَدَّم طلب تقاعده قبل أوانه بنحو سنتيْن أرضيتيْن، مُتحججاً بأنه يود التفرغ لتكملة كومة مؤلفاته التي لم يُمَكِّنه عمله الوظيفي من إتمامها، هذا ما جعل جهاز الأمن الخارجي يُكلفني شخصياً بمتابعته، لتزويده بتقرير عن تحركاته.

منذ البدء أثار قلقي مكان عمله، إذ يبدو أنه كان له تأثير ليس بالصغير عليه، فالعزلة شديدة هناك، والهدوء أكثر مما ينبغي، وحينما يضيق به الحال في مكتبه الفسيح ويريد الخروج بخوذة ولباس النزهة لا يسمح له فوبوس بالكثير من التجوال! فليس هناك شيء مُلفت يراه، لا مباني أخرى تستحق الاهتمام غير المهبط والمرآب والورشة والعيادة ومحطة الطاقة والمخزن المجاور لها، وذلك المجتمع الصغير من العمال وزملائه الموظفين الذين يعملون معه هناك، الحديقة الوحيدة هنا هي واحدة صناعية مُقَبَّبة متصلة بمبنى مكتبه عبر رواق قصير، ولا أظنها تحظى بالكثير من الجمال صراحة. في الواقع مُحيط فوبوس ذاته لا يزيد عن 69 كلم،[10] أي مُجَرد رحلة لمدة ساعة بسيارة أرضية صغيرة، ومن التاريخ البشري القديم -المريض القاتم بالذات!– تَعَلَّمْنا أن العُزلة كانت لها مؤثرات سلبية على الكثيرين، خصوصاً أولئك الذين انشغلوا بالدراسات الدينية، فالكثير منهم تحولوا إلى متطرفين مكبوتين مأزومين نتيجة عزلتهم الطويلة عن البشر، خصوصاً عن النساء، مصدر الجمال الروحي الذكوري طوال التاريخ البشري! فالعُزلة عن البشر تجعل الإنسان مشدوداً إلى الخيال سلباً كان أم إيجاباً، ولأنه أقوى الكائنات الحية التي عرفها، وأدرك كذلك أن قوتها تتسلسل من الأضعف إلى الأقوى، أدرك بالبداهة ضرورة وجود قوة إيجابية أقوى منه تُقرر مصيرهم، في مكان ما من هذا الكون، فصار التأمل في هذه القوة ملاذه الوحيد في عزلته عن البشر. لكن في الوقت الذي صارت هذه القوة مِثالاً للأخلاق والمُثُل العليا لدى الكثير من البشر المنعزلين (المتصوفة والرهبان كما يسمّيهم التاريخ الإنساني)، جعلت من بعضهم الآخر يُحِس بكراهية ونفور من الآخرين، فهم أسعد منهم وأكثر انسجاماً وتكيّفاً مع حياتهم، مما يجعلهم يحسّون أمامهم بعجزهم وانخفاض ذكائهم وضعفهم الذي يحاول لا وعيهم إنكاره. وكلما ازدادت عزلتهم زادت كراهيتهم للطبيعيين، حتى وصلوا إلى مستوى اعتقدوا فيه أن راحتهم تكمن في اختفاء منافسيهم السعداء إلى الأبد من أمامهم، هؤلاء بالذات أذاقوا البشرية الويلات طوال قرون، إذ تحولوا إلى آلات قتل وتفجير رهيبة، مسحوا البشر والحجر كما كان يُقال، وبعد أن أنهكوا حياتنا .. تم تصنيفهم تحت عنوان “كارهي الحياة”، وقررنا أن لا نسمح بعودتهم إلى تاريخنا منذ ما قبل مرحلة تلقيح بويضاتهم، ثم تعمَّدنا نشر فيض من البرامج والعلاجات والفنون والروائح العطرة والألوان الجميلة في كل مكان لمقاومة وعلاج سلبيتهم.

غير أن الانتقال إلى كواكب وأقمار أخرى وإنشاء مستعمرات جديدة عليها في أماكن تميزت بعناصر العزل البشري بشكل نموذجي أعاد لنا هذه الأزمة بعد أجيال من نسيانها وإهمال حتى دراستها وعلاجاتها، مثلما حدث قديماً مع مرض الجدري، فبعد عقود من عدم تسجيل ولا إصابة واحدة، قررنا التخلي عن التطعيم ضده، وحينما عاد إلينا بغتة نتيجة ظروف قاهرة، لم نجد درعاً واحداً يحمينا منه، فسقط الملايين من جراء ذلك.

لقد تابعت “هاشم” بشكل دقيق متواصل في حِلِّه وترحاله، من القمر فوبوس إلى المريخ والعكس، وذلك بانتحالي صفة باحث أطلب خبرته، سواء عن بُعد، أو في مكتبه، أو في جولاته المنفردة على سطح فوبوس، أو في مكتبة الكُفْرَة كذلك، بين رفوفها وأروقتها، حتى حينما يخطف بعض دقائق للسيْر وحيداً على تلك الكثبان الرملية المحيطة بالمكتبة ما بين عاصفة وعاصفة، ليتأمل “نجم المريخ القطبي”: ذَنب الدجاجة![11] كان يبدو وكأنه يود استنشاق بعض الهواء الخارجي مُتحدياً زجاج خوذته، رغم أنني لا أنصحه بذلك! فالكثيرون لا يعلمون أن رائحة جو المريخ هي كالبول والبيض الفاسد معاً!![12]

وبعد شهور من المتابعة ما وجدت فيه غير الشرود، وقليل من العفوية، فالرجل لا يكذب، يتألم بصمت، لكنه لا يُمَثِّل ولا يُراوغ، يُجيب الأسئلة وكأنه يعتقد أن الآخر يُدرك أنه صادق، في النهاية تبين لي أنه أبعد ما يكون عن التطرف، بل أنه أقرب إلى الصوفي القديم بزي حديث! تأكدت من أن كل تحركاته الأخيرة لا علاقة لها بأي تطرف فكري مريب، كان فقط يقوم – بِسِرِّية- بمحاولة أخيرة لرتق مشروع قديم له لم يُكتب له النجاح في شبابه، لم يكن حتى يهتم بِكُتُب مكتبة الكُفْرَة كما كان يوهمنا! كان في الواقع مهتم بأمينتها … “مُنتَهى”[13] .. رفيقته في رحلته إلى حزام كايبر[14] أيام دراستهما الجامعية، لمقابلة أستاذ مُعتزل في كويكب قَصِي هناك، كان عِشقاً في بداية الشباب .. تَوَهَّج في نهاية العُمر! نعم! بعد ركود طويل!

حقاً الحُب لا يموت! فمازال يراها فتاة أحلامه حتى وهي جدة أرملة! ويعيش هو أيام تقاعده الأخيرة!

مازلت أذكر أنني ختمت تقريري الأمني بجملة:

ما أجملهما! أتمنى أن تُطَوِّق حُبهما أدفأ حلقات زُحل! وتكللهما أغنى سُدُم كوننا ألواناً في جنتهما! بعد زواج بنكهة الكتب العتيقة!

 

هوامش

[1]) إسم واحة ليبية عريقة تقع في جنوبها الشرقي قرب الحدود المصرية، كانت تضم مكتبة ثرية بالمخطوطات تأسست هناك سنة 1895 قبل ضم ما بقي منها إلى مكتبة جامعة قاريونس في مدينة بنغازي الليبية في سبعينيات القرن الماضي، اعتمد اسمها الاتحاد الفلكي الدولي لإحدى حُفَر المريخ، أنظر:

https://en.wikipedia.org/wiki/Kufra_(crater).

[2]) أشرت إليها في قصة “قصاصة زمن” في مجموعتي الأولى بعنوان “مشكلة إيمانية”، ط1، 2006، مجلس الثقافة العام، سرت، ليبيا.

[3]) القمر الأقرب للمريخ من قمريْن يدوران حوله، القمر الآخر هو “ديموس”، فوبوس تعني باليونانية “خوف”، وفي الأساطير اليونانية القديمة هو أحد أبناء آرس Ares إله الحرب وافروديت (الزهرة) آلهة الجمال.

[4]) أشرت إليه في قصة “قصاصة زمن” في مجموعتي الأولى بعنوان “مشكلة إيمانية”، مصدر سابق.

[5]) هو هاشم أحد بطليْ قصة “قصاصة زمن” في مجموعتي الأولى بعنوان “مشكلة إيمانية”، المصدر ذاته.

[6]) حقيقة علمية.

[7]) حقيقة علمية.

[8]) حقيقة علمية.

[9]) حقيقة علمية.

[10]) حقيقة علمية، أنظر: https://solarsystem.nasa.gov/planets/phobos/facts.

[11]) حقيقة علمية، طالما أن محور الأرض يميل 23.5 درجة ومحور المريخ يميل بزاوية تزيد عن 25 درجة بقليل، إسمه Deneb بالإنجليزية، مُشتق من اسمه العربي “ذنب الدجاجة”، يقع في أعلى كوكبة ذنب الدجاجة التي تظهر في سماء الشتاء، شمال غرب النجم القطبي، عملاق عظيم فائق الزُّرقة، يبلغ قطره 200 مرة كقطر شمسنا، وتألقه 60 ألف مرة كتألق شمسنا!

[12]) حقيقة علمية.

[13]) أشرت إليها في قصة “قصاصة زمن” في مجموعتي الأولى بعنوان “مشكلة إيمانية”، مصدر سابق.

[14]) آخر حدود كواكب المجموعة الشمسية بعد مدار الكوكب القزم بلوتو، هو مجموعة كونية فريدة تشتمل على مئات الآلاف من الكويكبات والأقمار والنيازك وأجسام أخرى غريبة غيرها، تلف حول شمسنا في آخر حدودها المظلمة.

 

*القصة فازت في المرتبة الثانية لمسابقة القصة القصيرة لمجلة “شجون عربية”.

*قاص وعالم من ليبيا.

Optimized by Optimole