Çay House Türkiye: عن تجربة تركيا الشبابية

Spread the love

بقلم: عبد اللطيف مشرف* – الشباب هم الثروة الحقيقية لأي وطن بل هم القوة الرئيسية له، فاستغلال طاقاتهم وتوظيفها هو النجاح الحقيقي لأي قيادة تتولى الأمر، لأنهم يملكون طاقات كبيرة، وطموحاً لا ينتهي، وأحلاماً ليس لها حدود، وأفكاراً مليئة بالحيوية والنشاط. هذه الفترة يملأها الحلم لبناء الوطن ولبناء الذات، ولرسم مستقبل كلاهما، فهذه الطاقة والأفكار إما أن تكون يداً تبني وطناً، وإما أن تكون كابوساً حقيقياً على أي وطن.
ويتوقف دور الشباب على الوطن الذي إما أن يُكسب الشباب الثقة ويفعّل طاقاتهم الكامنة ويجعلهم شركاء في بناء الوطن، أو يفقدهم الثقة في أنفسهم وفي الوطن، ويجعلهم اليد التي تهدم والعقل الذي يهاجر والمنافق أو المتملق من أجل الوصول إلى مجد شخصي، والمتعلم الجبان الذي يعلّم الحقيقة ويخاف من بطش الوطن والسلطة، فتتحول طاقاتهم إلى كابوس حقيقي.
ومهما تمتلك الأوطان من ثروات فهي لن تُستثمر أبداً ما دام قد فقد الشباب الثقة في أوطانهم، وهذا ما نعانيه في أوطاننا العربية من عدم شعور الشباب بقيمتهم، بل يستشعرون دوماً بأن الخطط تُحاك ضدهم وضد طموحهم وأفكارهم.
في أوطاننا العربية يعاني الشباب من أمور كثيرة، ومن تلك الأمور عدم شعور هؤلاء بأنهم شيء ذو قيمة كبيرة لدى أوطانهم، بل يشعرون بأنهم يُحاربوَن ليل نهار وخصوصاً إذ كانوا أصحاب فكر وقلم، بل إذ لم يهاجروا من الوطن سيصبحون سجناء هذا الوطن. وهنا يحضرني قول الدكتور أحمد زويل عندما قال: “ليس الغربيين أذكياء ونحن العرب لسنا أغبياء، ولكن هم يجعلون الفاشل ناجحاً ونحن نجعل الناجح فاشلاً”.
وهنا أيضاً يحضرني قول الصحافي البريطاني روبرت فيسك عندما قال: “زرت العرب كثيراً ورأيت بيوتهم نظيفة جداً ومرتبة، ولكن هذا على عكس شوارع أوطانهم، وهذا يجعلنا نقول بأن العرب يشعرون أن بيوتهم ملكهم فيهتمون بها، ولكن لا يشعرون أن الوطن ملكهم فلا يهتمون”. فعندما يهتم الوطن بشبابه ويرعاهم، ويشاركهم الأفكار ويحوّل أحلامهم إلى واقع يكون هذا هو مفهوم الانتماء الحقيقي. ولكن عندما يكبت رأيهم ويفرض رأيه عليهم بجهل، ويعدم فكرهم، هنا تكمن المصيبة، فهنا يصنع الوطن متطرفاً أو ساخطاً عليه ولا يريد البقاء فيه، فَيُفرِغ الوطن من عقله. فهنا لا تنفع ثروات الأوطان ولا تسمن ولا تغني من جوع، ما دام هؤلاء الشباب خارج نطاق الوطن.
ومن هنا أحكي على واقع لامسته وفكرة عايشتها في بلاد مسلمة، تأخذ خطوات جدية في بناء الوطن ونجاح التجربة الديمقراطية ومشاركة الشباب في جميع مفاصل الدولة. تلك الفكرة في دولة تركيا، وأصحاب هؤلاء الفكرة هم شباب تركي، أخلصت الدولة لهم، فتولّد لديهم الانتماء ورد الجميل بالفكر والعقل والقلم، وفتحت لهم الدولة كل الأماكن، وجعلتهم يتكلمون بكل حرية وبثقة، ونزعت منهم الخوف، وحتى ولو عارضوا النظام والدولة ما داموا على علم ورؤية. وهذا هو الذكاء بأن تستغل طاقاتهم وأفكارهم، وتجعلهم المراقبين والموجهين للدولة عند الخطأ بإخلاص، وهم أمام أعينها حتى لا يستغلهم الآخرون بسبب الظلم والكبت الواقع عليهم.
تلك الفكرة التي رأيتها وأعجبتني كثيرًا، أصحابها بالكامل شباب تركي مثقف وواعٍ، ولديه رؤية حقيقية، وإخلاص وحب لوطنه والأجمل حبهم لعقيدتهم، فهؤلاء الشباب بدأوا فكرتهم بفيديوهات مباشرة علي مواقع التواصل الاجتماعي، ولاقت أفكارهم استحسان الكثير من الشاب التركي بل ومن جميع فئات المجتمع، بل زاد انتشارهم في كل المدن التركية، وأصبح لهم مقرات وقاعدة كبيرة من الجمهور، بل وجلسات ولقاءات أسبوعية، من مختلف الأفكار والأيدولوجيات السياسية المختلفة والمتفقة في حب الوطن، تلك الفكرة المنتشرة والمعروفة للكبير والصغير في تركيا تسمي “بشاي هاوس” çay house. ولكن هل عملت الحكومة التركية لإعاقة هذه الفكرة وخصوصاً أنها تناقش أموراً دينية وسياسية؟، في حين نرى أن تلك الأمور في أوطاننا العربية، تعد جريمة وانقلاباً على السلطات، فلماذا هذا الخوف من وجهة نظرك؟
وأما عن فكرة “شاي هاوس” قد عرفتها عندما دعاني صديقي التركي يوماً للذهاب معه إلى مقرهم، حيث أنني أحب أن أكتشف كل تجربة ناجحة، وأكتشف إيجابيات وسلبيات كل دولة أسافر إليها لكي أتعلم منها، عسى أن يأتي اليوم الذي أنفع فيه وطني، وأيضاً لأن تخصصي في مرحلة الدكتوراة هو تاريخ سياسي. فهذا يتطلب مني أن أكتشف كل التجارب وأدوّنها، فذهبنا إلى أحد لقاءات شاي هاوس، التي تعقد غالباً في مساء كل جمعة، فرأيت فيها ما لم أتخيله، وما كنت أتمناه أن يحدث في داخل وطني، حيث أن وطني مليء بمثل هؤلاء الشباب، رأيت بناء مكوناً من طوابق عدة، وكان هناك عدد غفير من الناس، وليس الشباب فقط، فرأيت جميع أطياف المجتمع، من أطفال ومراهقين وشباب وكبار سن. والأغرب أن أرى جميع الأفكار والأيدولوجيات السياسية موجودة، فاندهشت لذلك لأننا تعودنا في أوطاننا العربية، أن أصحاب الأفكار المختلفة في كراهية وعداء دوماً ولا يلتقون إلا على طاولة عدوهم أو مسؤول فاسد.
ولقد كنت متشوقاَ أكثر لمعرفة سبب وجود مثل هذا العدد، فبدأت المحاضرة الأولى بقراءة القرآن ومن ثم بدأت بعرض موضوع ديني وكان موضوعها عن الكلاب والقطط أيهما نجس وأيهما طاهر، وبدأوا في سرد الأحاديث النبوية والدلائل، وخصوصاً أن مثل هذه الحيوانات منتشرة في تركيا ومختلط الأمر على الناس فيها. وبعد المحاضرة تشكلت تلقائياً دوائر من جميع الموجودين الذين لا يعرفون بعضهم البعض، وفي كل دائرة كل الأعمار والأفكار. وكانت الدوائر عبارة عن حلقات نقاشية محترمة بأسلوب علمي راقٍ، والكل يقول وجهة نظره في مواضيع تخص الدين والدولة والسياسة، والأطفال عيونهم كلها شغف وفرح مما يحدث حولهم من تلقي العلم والاطلاع على كل أفكار المجتمع، وقيمة المواضيع المطروحة الأكبر من سنهم. وخلال تلك المناقشات يأتي أحد بالشاي التركي ومعه البسكويت وبعض الحلوى، وكل دائرة تتكلم في أي موضوع كما تحب وكما تريد ويقدم لها نفس الضيافة، جو يملأه السعادة وخصوصاً أن تلك الموضوعات تمس حياتهم اليومية، وتهم أوطانهم وعقيدتهم.
وبعد نصف ساعة أو يزيد من النقاش وتعارف الحضور ببعضهم البعض، تأتي المحاضرة الثانية وهي تكون خاصة بقضية من قضايا الوطن وغرس الانتماء لدى الحضور. فكانت القضية المطروحة هي كيفية القضاء على الفاسدين وفساد المجتمع، وكيفية العطاء للوطن من دون مقابل، والأجمل أنه تم ربط الموضوع بالدين والعقيدة، وذكر قصة السامري الذي ضلل بني إسرائيل في غياب النبي موسى، بصناعته العجل الذي له خوار، وتكلم عن أن الإنسان لا بد أن يعمل لآخرته كما يجتهد ليل نهار للعمل من أجل دنياه، وعن ضرورة العمل وعدم التواكل لأن الأوطان تبنى بالعمل والسعي لا بالكسل والانتظار. فحقاً ما أجمل هذا الفكر الذي يربط الدين بالسياسة، ويرسخ الفكر والعقيدة لدى الكبير والصغير من أجل شيء واحد اسمه الوطن، وشيء أكبر منه اسمه الأمة، وشيء آخر يحتضن الوطن والأمة داخل منهجه هو العقيدة.
ولكن بكيت لأن الكثير من أوطاننا العربية محرومة من تلك الطاقات والأفكار، رغم ما تملكه هذه الأوطان من ثروة فكرية وبشرية كبيرة جدًا ولكنها مشردة ومقهورة، بكيت لما رأيت الأفكار والأيدولوجيات كافة على طاولة نقاش واحدة، مختلفة الفكر ولكنها متفقة في الإيمان بالعقيدة وحب الوطن. ولكن أجمل صفة في هؤلاء الشباب القائم على هذه الفكرة، انشغالهم بحال العالم الإسلامي ومعرفة كل شيء عنه، وحبهم الجارف للمسلمين والأمة، متى نرى مثل هذه الأفكار في بلداننا العربية؟ متى نؤمن بشبابنا العربي ونشاركهم ونعطيهم الراية والقيادة والثقة؟
نرى هنا ذكاء الحكومة التركية، بأن عملت على تشجيع هؤلاء ومشاركة هؤلاء الشباب العمل في كثير من الأحيان بأفكارهم، ومشاركة رؤساء البلديات لجلساتهم ولقاءاتهم، وفتحت لهم المنابر الإعلامية للتعبير بكل حرية عن آرائهم ما دامت تحمل صفة العلم والرؤية والفكر. فلما لا وهم الأصحاب الحقيقيون للوطن، والخلفاء القادمون للمناصب والسلطة، فيجب السماع لهم وتوجيههم إذا أخطأوا لكي يتعلموا، ويصبحوا قادة لبلادهم، متمرسين في السياسة والقرار، حتى إذا تولوا الأمر يكونوا على قدر المسؤولية لبناء وتقدم وطنهم.
ولكن في أوطاننا العربية مثل هذه الأمور من المحرمات، وكم من شاب صاحب كلمة حق ومحب لوطنه كانت رقبته هي الثمن، وكم من معارض للظلم ولو بورقة مكتوب عليها فقط “ارحل” كان جزاءه المعتقل. فهنا الفرق؛ بين نظام ودولة تعي ما هم الشباب وتسخّر ثروات الوطن لهم فتصنع جيلاً لديه انتماء كبير لوطنه، وأنظمة ودول أخرى تخشى من كلمة ومن شباب، فتجعلهم مشردين ما بين معتقل وقتيل وجريح ومهاجر، فكيف يحبون هؤلاء الشباب مثل هذه الأوطان ويولّد لديهم انتماء؟

*باحث مصري.

Optimized by Optimole