هزيمة المخطط الأميركي الصهيوني التركي في سوريا

Spread the love

بقلم: توفيق المديني* — تؤكد التطورات الأخيرة في سوريا منذ الانتصار الاستراتيجي في مدينة حلب، حيث وجه الجيش العربي السوري وحلفائه من حزب الله والأطراف الإقليمية و الدولية متمثلة بإيران وروسيا ضربة قاصمة للفصائل الإرهابية و التكفيرية، لا سيما «جبهة النصرة »، التي تم فصلها عن المعارضة المعتدلة في نهاية العام الماضي،أنّ ذلك الانتصارأسفرعن تغيير كبير في موازين القوى على الأرض، ومهّد بشكل كبير للجيش العربي السوري وحلفائه من تحقيق الانعطافة في الحرب عبر تحرير مدينة السخنة الاستراتيجية ، حيث باتت الانظار تتجه حالياً صوب مدينة دير الزور وريفها ،إذ يسارع الجيش العربي السوري خطاه لفك الحصار عن المدينة و طرد «داعش» من المحافظة التي تحتوي على 40% من المخزون النفطي لسورية. وبمساعدة الأطراف الدولية و الإقليمية (روسيا و إيران) ومقاتلي حزب الله، عززت الدولة الوطنية السورية من سيطرتها على معظم أنحاء غرب البلاد المأهول بالسكان. وهي تتحرك الآن شرقاً صوب منطقة ديرالزور.
وتعتبرمدينة دير الزور صنبورا للنفط ، وهذا ما يفسر الرغبة الاميركية ومحاولتها أن تسيطر عليها، في سباق مع الجيش العربي السوري والذي تميل الكفة لمصلحته خصوصا بعد تحريره مدينة السخنة والتي تعتبر بوابة المرور لفك الحصار عن دير الزور.‏ ويعمل الجيش العربي السوري حالياً والقوّات الرديفة والحليفة له على فرض نسقه العالي من الصراع مع القوى الإرهابية و التكفيرية ،عبر تحقيق إنجازات عسكرية مهمة ومركبة، تمثلت في مواصلة عملياته من جنوب سورية الى شمالها ، ليحرر منطقة الضبيعية وتلة الأسدية جنوب سد الزلف وبئر الرفاع ونقطة المخفر 30 وتلة الحردية وبئر الحردية شرق تل شعاب على الحدود الأردنية السورية ، حيث تحدثت مصادر ميدانية عن مواصلة عملية تأمين البادية السورية على المحور الشمالي الشرقي للسويداء وصولاً إلى بادية ريف دمشق، تزامناً مع انهيارات صفوف «داعش» التي تتراجع بشكل غير مسبوق، وسيطرة الجيش العربي السوري مؤخراً على كامل محافظة السويداء وتنقية الحدود السورية الأردنية من الفصائل الإرهابية.
وبعد تحريره لمدينة السخنة الاستراتيجية في ريف حمص الشرقي ، يعمل الجيش العربي السوري على دخول دير الزور من ثلاثة محاور: الأول من ريف الرقة والذي وصلت خلاله إلى ضفاف نهر الفرات. والثاني ينطلق من ريفي حمص وحماة وحققت خلاله تقدمًا واسعًا، والثالث بدأته مطلع تموز الماضي من البادية على خط الحدود السورية- العراقية.‏ فقد عززت هذه التطورات العسكرية ومارافقها من انتصارات على الأرض، مكانة الدولة الوطنية السورية التي أصبحت تسيطر على أكثر من 40% من الأراضي السورية، مقابل 13% لمصلحة المعارضة المسلحة، في حين يسيطر تنظيم «الدولة الإسلامية داعش» على نسبة أقل من 30% ، بوصفه من أخطر التنظيمات الإرهابية الموجودة في المنطقة،إذ يعود جذوره إلى جماعة التوحيد والجهاد الذي أسسها أبو مصعب الزرقاوى في العراق في عام 2004م.وتتمثل خطورة هذا التنظيم في أنه استطاع في سنوات قليلة أن يحتل أقاليم عراقية كاملة دون مقاومة تذكر وذلك بسبب انتشار حالة الفوضى في العراق الناتجة عن سياسات و قرارات الاحتلال الاميريكى للعراق واستغلالهم للصراعات الاهلية في عامي 2005 و2007 وسياسات نورى المالكي، كما توسع في مساحات واسعة من الاراضي السورية مستغلاً غياب الحكومة المركزية والحرب الأهلية ، وشهد هذا التنظيم المساندة من العديد من الجماعات الارهابية مثل تنظيم القاعدة في دول الخليج وحركة طالبان في باكستان والجماعة الاسلامية في أندونسيا.
وحقق الجيش العربي السوري تقدماً ميدانياً على جبهات عدة في البلاد، بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله اللبناني ، وتمكن من استعادة أراض كانت فصائل المعارضة قد سيطرت عليها.وفي هذا السياق قال الرئيس السوري بشار الأسد ، في كلمة ألقاها في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية وبثها التلفزيون الرسمي السوري يوم الأحد20آب/أغسطس2017،، أنه على رغم أن هناك مؤشرات إلى الانتصار بعد ستة أعوام ونصف العام من الحرب ، فإن الحرب لم تنته بعد. وتابع موضحاً: إن سورية «أفشلت المشروع الغربي»،وتابع موضحاً: «عندما أتحدث عن إفشال المشروع الغربي هذا لا يعني أننا انتصرنا، هم فشلوا ولكن المعركة مستمرة. وبوادر الانتصار موجودة».
وقال الرئيس السوري إن المساعدة التي قدمتها روسيا وإيران و «حزب الله» مكنت القوات النظامية السورية من تحقيق مكاسب في المعارك وخففت من عبء الحرب.وزاد: «وإذ يكتب الشعب العربي السوري وقواته المسلحة تاريخاً جديداً لسورية وللمنطقة بشكل عام، فهناك فصول ستكتب عن أصدقائنا. عن إيران والإمام خامنئي… عن روسيا والرئيس بوتين… عن حزب الله والسيد حسن نصر الله… ستكتب هذه الفصول عن مبدئيتهم… عن أخلاقهم… لتقرأها الأجيال المقبلة». وأضاف: «دعمُ أصدقائنا المباشر سياسياً واقتصادياً وعسكرياً جعل إمكانية التقدم في الميدان أكبر والخسائر أقل وهم شركاؤنا الفعليون». وشدد على دور موسكو، قائلاً: «روسيا استخدمت الفيتو مرات عديدة في مجلس الأمن دفاعاً عن وحدة سورية وكذلك فعلت الصين».
1-فشل الاستراتيجية الأميركية في تفكيك الدولة الوطنية السورية
أثبتت تطورات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، منذ حرب الخليج الثانية في 17شهر كانون الثاني /يناير 1991، ومرورًا بالغزو الأميركي للعراق في عام 2003،وبشكل أكثر جلاء و إلحاحًا عقب ما بات يعرف في إطار الترويج الإعلامي للتغيير السياسي في المنطقة بثورات «الربيع العربي »في بداية عام 2011، حيث قامت انتفاضات شعبية في عدد من الدول العربية ضد النظم الاستبدادية الحاكمة، فبدأت في تونس ثم انتشرت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا، ونتج عن تلك الانتفاضات الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية في بعض الدول مثل تونس ومصر ، فيما تحولت الانتفاضات في كل من ليبيا وسوريا و اليمن إلى صراعات مسلحة وحروب أهلية ،أثبتت كل هذه التطورات أن استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية كانت تستهدف إعادة الهندسة الإقليمية للدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط عبر تفكيكها. فبدأت هذه الهندسة التفكيكية للدول الوطنية العربية، انطلاقًا من العراق،بعد إسقاط دولته الوطنية التي كانت مستقرة إثنيا تحت حكم صدام حسين، على الرغم من ادعاء الولايات المتحدة الأميركية ومعها الدول الأوروبية الغربية بأن الهدف من وراء هذه الهندسة التفكيكية هو إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة الوطنية العربية،بسبب عدم قدرتها على الاستيعاب السياسي، والاجتماعي،والاقتصادي،لجميع مكوناتها.
فبعد الغزو الأميركي للعراق، طرحت إدارة بوش الإبن في سنة 2004، مبادرة الشرق الأوسط الكبير الذي كان يستهدف القضايا التالية:
أولاً: استيعاب الصراع العربي ـ الإسرائيلي, دون أن يجد حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، متجاوزاً بذلك قرارات الشرعية الدولية. فيفرض التطبيع مع الكيان الصهيوني على العرب, والتوطين على الفلسطينيين, باعتبار أن حدود الشرق الأوسط الأكبر تتسع لاستيعاب الفلسطينيين. إلى جانب هذا فالمشروع يهدف إلى استيعاب الاحتلال الأمريكي للعراق ويشرعه, بتقديم دولة عراقية «نموذجية» خالية من أسلحة الدمار الشامل ،بحيث يمكن تعميم هذا النموذج على دول المنطقة الأخرى. ويعزز هذا التوجه الأهداف الأميركية الإمبريالية, وفرض هيمنتها على القرار الدولي في مواجهة دول وشعوب العالم(1).
ثانيًا: فرض الولايات المتحدة هيمنتها على المنطقة، من خلال فرض نظام حرية الأسواق وانفتاحها والتحاقها بالنظام الرأسمالي العالمي من منظور العولمة وجوهرها الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وهذا يقتضي تدمير الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها تمثل العائق البنيوي أمام السيطرة الأميركية على منابع النفط استكشافاً وإنتاجاً وتكريراً ونقلاً وتأميناً ، الأمر الذي يعبد لها الطريق للإستيلاء على قرار الطاقة في العالم, وحل قضاياها الاقتصادية ومعالجة أزماتها المزمنة وإعطاء العولمة زخماً جديداً بعد الانتكاسات المتوالية التي أصابتها نتيجة لتفاقم آثارها الكارثية المتمثلة في الأزمات المالية وتزايد معدلات الفقر, وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. ولا تُخفى هنا النوايا الأمريكية في مواجهة اليابان والاتحاد الأوروبي والوقوف على بوابة الصين(2).
ثالثًا: اعتبار «إسرائيل» البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يتمتع بالحرية، و بالتالي فهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط،على الرغم من أن «إسرائيل» تمارس كل يوم أصناف متعددة من الإرهاب والعنصرية ضد شعب فلسطين .
رابعًا: تنطلق الولايات المتحدة الأميركية من تحديد النطاق الجغرافي لمشروع الشرق الأوسط الكبير , لتشمل جغرافياً بلداناً متفاوتة المستوى الحضاري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وتمتد من المغرب الأقصى إلى حدود باكستان الشرقية . وهي وإن كان يغلب فيها انتشار الإسلام, إلا أنها تضم أمماً وشعوباً مختلفة, وكذلك ثقافات مختلفة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعرف ذلك, إلا أنها تصر على توسيع الشرق الأوسط على هذا النحو، كمنطقة ذات امتداد جيو سياسي, لخدمة أغراضها الاستراتيجية. من جهة، ولوضع «الإسلام» في مواجهة الحضارة الغربية تلبية لمخططات اليمين المحافظ المتطرف والمتصهين من جهة ثانية.
خامسًا: تعتقد الولايات المتحدة (وأوربا) أن هذه المنطقة التي دعتها «الشرق الأوسط الكبير» تعيش فراغًا سياسياً, وأنها من منطلق الفكر الاستعماري القديم, تستطيع أن تملأ هذا الفراغ, عبر تفكيك الدول الوطنية ،و إعادة بنائها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، ضاربة عرض الحائط بشعوب المنطقة، وتطلعاتهم. لقد حاول (ايزنهاور) في أواخر الخمسينات أن يملأ ما دعاه بـ (الفراغ) في المنطقة العربية، وفشل, وكانت بريطانيا قد حاولت قبله إجبار شعوب المنطقة على الانضواء في ما يدعى حلف بغداد وفشلت أيضاً. ويبدو أن الغرب (وأمريكا على رأسه) لم يستطع حتى الآن أن يقتنع بالإقلاع عن الممارسات الاستعمارية وأساليب الغطرسة، والنظرة الفوقية إلى شعوب العالم. وهو يعتقد أنه لا يزال قادراً على فرض هيمنته وفرض قراراته على شعوب تدرك مراميه وقد خبرته عبر سنين طويل من الاستعمار والاستغلال.
سادسًا:ينطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي (الأوربي) من فكرة خاطئة أخرى مفادها أنه بالإمكان إسقاط الأنظمة الوطنية المناهضة للسياسة الأميركية و الصهيونية عبر نشر استراتيجية «الفوضى الخلاقة»، وأنه انطلاقاً من احتلال العراق, فإنه بالإمكان إقامة أنظمة جديدة في بلدان الشرق الأوسط الأكبرتستجيب لمتطلبات خدمة الأمن القومي الأميركي بالتلازم مع الأمن الصهيوني .. لقد تصورت الولايات المتحدة, أنها بامتلاكها القوة العسكرية، تستطيع فرض وجودها كقطب مهيمن, وبالتالي فرض الخرائط الجديدة ، وإعادةالهندسة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط عبر تفكيك الدول الوطنية , واجتراح الكيانات أو إلغاءها, وإدراج الشعوب في مسارات وفي تواريخ أو في وجهات تاريخية أخرى. هذا التصور (الإمبراطوري) إنما هو استمرار للنزعات الإمبراطورية منذ الاسكندر المقدوني وحتى الأزمة السورية الأخيرة .
لقد كان هذا (النزوع الإمبراطوري) هو «الدافع الخفي والأقوى» للحرب الأمريكية ضد العراق واحتلاله, وهو أيضاً وراء الحرب الأمريكية الصهيونية المدعومة من قبل دول الخليج وتركيا ، من أجل إسقاط الدولة الوطنية السورية باعتبارها تنتمي إلى محور المقاومة الذي يضم الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله، وإعادة ترتيب المنطقة ، بما يخدم أهداف المخطط الأميركي-الصهيوني، المتمثلة في تصفية الصراع العربي –الصهيوني، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية، وفرض الكيان الصهيوني كطرف رائد ومهيمن على بلدان المنطقة من خلال احتلاله مركز الريادة في قيادة مشروع الشرق الأوسط الكبير.
سابعًا:أسست الولايات المتحدة الأميركية مشروع الشرق الأوسط الكبير على انتهاج استراتيجية تقوم على دعامتين :الأولى، وتقوم على تفكيك الدولة الوطنية العربية باعتبارها دولة فاشلة من وجهة النظر الأميركية. و الثانية،وتقوم على اعتبار منطقة الشرق الأوسط الكبير,معملاً لتفريخ الإرهاب (بسبب طبيعة أنظمة الحكم وغياب الديمقراطية وسوء الإدارة ومناهج التربية والتعليم). وتنطلق الاستراتيجية الأميركية هذه من الزعم بأنها صاحبة (رسالة تنويرية) تستهدف إنهاض دول المنطقة من كبوتها بإحداث تغيير كبير في بنية أنظمتها بفرض النموذج الليبرالي الأميركي على هذه الدول، ونزع الصفة العربية عن دول المنطقة وإدماج إسرائيل بين شعوب المنطقة. ومن الواضح أن التغيير الذي تريدا لولايات المتحدة إحداثه, إنما هو مشروع تدميري للأسس السياسية والاجتماعية للدولة الوطنية في الوطن العربي, وهو انتزاع للصفة العربية عن دول المنطقة. كما أنه لن يجلب الازدهار الاقتصادي, بل سيحقق المزيد من التهميش والفقر واللامساواة. وبدمج «إسرائيل» العدوانية العنصرية، وإغفال حقوق الشعب الفلسطيني, ستجر المنطقة مرة أخرى إلى نفق مظلم من العنف وعدم الاستقرار(3).
2-سوريا ودور الجغرافيا السياسية في التأثير على الصراعات الإقليمية و الدولية
بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، وبداية فرض الولايات المتحدة الأميركية في ظل الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، مشروعها الإمبراطوري لإعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية التفكيكية للدول الوطنية العربية عن طريق التدخل المباشر ،شهد الشرق الأوسط تكريسا لتغير كبير وتراكمى في موازين القوى الشاملة بين قواه الرئيسية، وتحولت سوريا إلى بؤرة جديدة للمقاومة بحكم موقعها المتاخم للعراق، ولعبت دورًا محوريًا في جهود استنزاف الوجود الأمريكي في هذا البلد .ومثلت الحالة السورية، منذ بدايتها ولا تزال، حالة مثالية لتعاظم دور الجغرافيا السياسية في العلاقات الدولية، وخطر تأثيرها في بنية النظام الدولي بأسره، وليس فقط في بنية النظام الشرق الأوسطي.. وأفضى فشل الحرب التي خاضها الكيان الصهيوني بالوكالة عن الإمبريالية الأميركية في تموز2006، إلى إخفاق مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أعلنته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في بداية الحرب لإعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية التفكيكية للمنطقة.
فقد تموضعت سوريا منذ حرب تموز عام 2006،على خريطة جغرافيا سياسية متغيرة لقوى الشرق الأوسط ، لاسيما بعد احتلال العراق، وتدمير مؤسسات الدولة الوطنية فيه، وانهيار النظام الإقليمي العربي في ضوء التراجع الكبيرلدور مصر الإقليمي وتفاقم أزماتها الاقتصادية، و بطء إجراءات الإصلاح على الأصعدة المختلفة في الدول الوطنية العربية. والحال هذه،أفسح غياب النظام الإقليمي العربي في المجال لبروزمشروعين إقليميين أساسيين :،
الأول: المشروع الإقليمي الإيراني ،الذي يترجم دور إيران كقوة إقليمية صاعدة امتلكت فوائض ضخمة واستثنائية من عوائد ريعية ناتجة عن استخراج موارد الطاقة الخام من النفط والغاز، وعملت على تعزيز تحالفاتها الاستراتيجية مع سوريا لتأسيس محورالمقاومة الذي يمتد من طهران إلى بغداد، ثم دمشق، وانتهاء ببيروت، من أجل مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير،وسياسة الإحتواء الأميركية للطموحات النووية الإيرانية المشروعة .
والثاني: المشروع الإقليمي التركي، الذي يترجم أيضًا، تعاظم دورتركيا التي أفادت كثيراً من انهيار الاتحاد السوفييتي في مد نفوذها الثقافي، والاقتصادي، بل والسياسي، في الفضاء الطوراني في عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة في وسط آسيا، فضلاً عن فرض معادلتها الأمنية الخاصة في تخومها الجنوبية مع كل من العراق وسوريا. وفي سبيل تحقيق التمدد الإقليمي ، عملت تركيا على إقامة تحالفات استراتيجية مع الدول الخليجية الغنية بالنفط والغاز، و التي يمكن إدراجها في نطاق تحالفات دولة قطر المدافعة بقوة عن «الربيع العربي» في سبيل إيصال حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة في عدد من البلدان العربية، مع مشروع العثمانية الجديدة الذي تبناه بديناميات مختلفة حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي في تركيا. وكان هذا المشروع يستهدف السيطرة على سوريا لمد خطوط لأنابيب النفط والغاز، فضلاً عن إنشاء شبكة نقل متطورة تمتد من الخليج، عبر كل من العراق وسوريا إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا ،وتوظيف الفوائض المالية الخليجية في الالتحاق بمشروع تنموي لا يرتهن للعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن هذه الأخيرة بدأت، منذ النصف الثاني للعقد الأول من الألفية الجديدة، تتبنى مشاريع جدية لتطوير قطاع الطاقة فيما بما يفضي إلى تحررها من الاعتماد على النفط المستورد، خاصة من منطقة الخليج العربي(4).
وأمام تراجع إدارة الرئيس السابق أوباما في الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط،وبحكم موقع سوريا ،وبفعل عوامل الجغرافيا السياسية ومعطياتها ، تحولت سوريا إلى بؤرة رئيسة للصراع بين القوى الإقليمية الصاعدة، وحاولت الولايات المتحدة استغلال هذا الصراع لتأسيس نمط جديد من توازنات الضعف الإقليمي، تعفيها من التدخل في شؤون المنطقة. ويتمثل جوهر تلك الاستراتيجية في تقسيم المنطقة على أسس طائفية ومذهبية بين كيانات متناحرة، يستنزف بعضها بعضاً، ولا يمكن لأي منها الانتصار والهيمنة، بما يخفض أي حجم تهديد بالنسبة لإسرائيل، ويبقى جميع الأطراف الإقليمية تدور في مدار البحث عن رضا الولايات المتحدة ودعمها.
3-دور التنظيمات الجهادية المحلية والعابرة للحدود في خدمة المخطط الأميركي الصهيوني
بعد سبع سنوات من الحرب الكونية الإرهابية المخاضة ضدسوريا، أثبتت الاستراتيجية الأميركية فشلها الذريع في معالجة جوانب إخفاق الدولة الوطنية العربية ،ولم تكن في أي من تجاربها ،وبكل أنماطها، سواء الناعمة،كما تبدت في مبادرات الإصلاح،أو من خلال التدخل العسكري المباشروالاحتلال الأميركي للعراق، إذ قادت هذه الهندسة التفكيكية الأميركية إلى مزيد من إضعاف الدولة الوطنية في الشرق الأوسط، بل إلى انهيارها كما حصل ذلك في العراق، و إلى نشر ما بات يعرف في الاستراتيجية الأميركية ب«الفوضى الخلاقة»،الأمر الذي أفسح في المجال لتنامي القوى الإرهابية ، و لرهان الولايات المتحدة الأميركية ومعها كل من قطرو المملكة السعودية وتركيا على تيارات الإسلام السياسي(الإخوان المسلمين ) كبديل للأنظمة القائمة، بحكم أن هذه التيارات تمتلك قواعد شعبية، وهي الأجدر على حشد الجماهير.
أما في مثال سوريا ، فقد تركزت الاستراتيجية الأورو-أطلسية و الصهيونية و الخليجية و التركية ، على تقسيم الدولة الوطنية السورية،وإعادة إنتاج خريطة «وستفالية» جديدة في المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، من خلال الدعم القوى المالي والعسكري للتيارات الجهادية والتكفيرية التي لا تؤمن أصلاً بالدولة الوطنية القائمة على التنوع،وبالتالي فإن تقديم الدعم لكل من الأخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية كفيل بإسقاط الدولة الوطنية السورية،وتفكيك المحورالسوري الإيراني المناوىء للولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل»والمملكة السعودية و قطر وتركيا، ومحاولة استعادة قدر من توازن التفرد إقليميا، و هو التوازن الذي اختل لمصلحة محور المقاومة بدرجة كبيرة، بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003..
لقدقدمت المملكة السعودية و قطر وتركيا ومن ورائهم الولايات المتحدة الأميركية دعما قويا للحركات الجهادية و الإرهابية من أجل إسقاط الدولة الوطنية السورية، فقدمت أسلحة و تدريبا للمقاتلين السوريين، و أنفقت مليارات من الدولارات لتسليح و تدريب ألاف المقاتلين السوريين. وفي هذا الإطار لعبت الهبات و المعونات غير الرسمية التي قدمتها مؤسسات سعودية و قطرية دورًا خطيرًا و مؤثرًا في دعم الحركات الجهادية ،ولا سيما منها الإرهابية، وتصدى عدد من رجال الدين السعوديين لدعوة «السنة» عبر العالم لما سموه «الجهاد» في سوريا، مما صب في نهاية المطاف في دعم الفصائل المعارضة السورية(5)
*-دور الإخوان المسلمين
مع تطور الأزمة السورية في عامي 2011-2012، تصدرالإخوان المسلمون الواجهة في الصراع مع الدولة السورية ،وكان الرهان الأميركي و الغربي عموما، إضافة إلى الأطراف الإقليمية : تركيا وقطرو السعودية ، يكمن في أن الإخوان المسلمين بإمكانهم أن يشكلوا قطبًا إسلاميًا معتدلاً، حين بدأت التنظيمات الإرهابية و التكفيرية بالتشكل ، والتي تطورت لاحقا إلى تنظيمي داعش وجبهة النصرة.
كان الأمل معقودًا على الإخوان المسلمين من أجل قطع الطريق على التطرّف الأصولي الذي أخذ يستشري في الساحة السورية بسرعة، ويعبّر عن نفسه من خلال تشكيل كتائب إسلامية مسلحة، الأمر الذي سمح لأطراف إرهابية بالتسلل إلى سوريا عبرالبوابة التركية ، والبوابة الأردنية .وسبب هذا الرهان أن «الإخوان»كانوا قبل موجة انتفاضات «الربيع العربي »، يقولون عن أنفسهم أنهم قد أجروا مراجعةً نقدية لتجربة الثمانينات المأساوية، وقدّموا أنفسهم كحركة تنبذ العنف وتحتكم إلى الديموقراطية، وتؤمن بالتعدّدية والانتقال السياسي السلمي.
غير أن تعاطي «الإخوان المسلمين » وداعميهم من قطر وتركيا والولايات المتحدة الأميركية مع الأزمة السورية، والمعاينة الدقيقة لمجريات مواقفهم من الأحداث السورية، يؤكدان لنا أن الإخوان المسلمين السوريين عملوا على تشكيل كتائب إسلامية مسلحة في ذروة التشكيلات الإسلامية العسكرية التي ظهرت في مطلع عام 2013، والتي تجاوزت مائة، وهناك من يعتبر أن مواقف «الإخوان» الضبابية شكلت مولدا لفلتان الساحة السورية، وولادة الدكاكين تحت مسمياتٍ إسلامية، وبداية ظاهرة أمراء الحرب تحت راية الإسلام،ولم يعمل الإخوان المسلمين على تمييز أنفسهم عن تلك التنظيمات الإرهابية و التكفيرية ، لا سيما وأن هناك من حسب الكتائب والرايات السوداء على الإسلام، وأن أصحابها تأثروا بالأطروحات الفكرية لـ «الإخوان»، ولديهم المرجعيات نفسها(6).
*-تنظيم «الدولة الإسلامية -داعش»
استغلت التنظيمات والجماعات الإرهابية الأزمة السورية ،و حالة عدم الاستقرار و«الفوضى الخلاقة»في المنطقة ، لكي توسع من انتشارها، كان ذلك هو جوهر الإدارة الأمريكية للمشهد السوري،حتى تمكنت «الدولة الإسلامية في الشام والعراق» «داعش» من تأسيس وجودها الإقليمي الضخم عبر أراضي كل من العراق وسوريا لتكون منطقة عازلة أمام تمدد النفوذ الإيراني من جهة، وتبقى الصراع المذهبي مستعراً من جهة أخرى. ويتجلى ذلك في الصمت الأميركي لنحو عام ونصف عام على تمدد هذا التنظيم منذ بدء صعوده على الساحة السورية في أبريل/نيسان 2013، واختراقه الحدود العراقية منذ النصف الأول من عام 2014، بينما لم يحدث أي تدخل جوي أميركي ضد التنظيم إلا في أغسطس 2014.ويمكن تفسير هذا التدخل الأميركي في ظل عاملين، أولهما : تنامي الممارسات الوحشية لهذا التنظيم التي طالت للمرة الأولى مواطناً أميركياً، هو الصحفي جيمس فولى في شمال العراق في 19 أغسطس/آب 2014. ثانيهما : ازدياد حدّة التدخلات الإقليمية والدولية ضد التنظيم، بعدما بات يستهدف العاصمة العراقية بغداد نفسها. لذا، ازدادت وتيرة التدخل الإيراني في العراق، ثم الروسى، وكان من شأن ذلك دفع الولايات المتحدة لمحاولة قيادة هذه التدخلات وإدارتها، من خلال تأسيس ما سمي آنذاك التحالف الدولي لمواجهة «داعش».
وقد حرص التنظيم، منذ نشأته، على أن يطلق على نفسه مسمى «الدولة الإسلامية» لذا سعى جاهداً إلى إزالة الحدود السياسية ، حتى إن المتحدث السابق للتنظيم، أبو محمد العدناني، قد أعلن عن قيام «الخلافة الداعشية» وهو يعتلي إحدى الجرافات التي يزيل بها الحدود بين العراق وسوريا،ويعلن انتهاء الحدود الموروثة التي رسمتها اتفاقية سايس بيكو الكولونيالية الفرنسية -البريطانية.كما تمكن التنظيم من إنشاء هيكل تنظيمي قوي، مكنه من إحكام قبضته على المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا، بعد أن قام بتقسيمها إلى 19 ولاية، هي (بغداد – الأنبار – صلاح الدين – الفلوجة – ديالي – شمال بغداد – الجنوب – نينوى – كركوك – دجلة – الجزيرة – البركة – الخير – الرقة – دمشق – حلب – حمص – حماة – الفرات) أعلن عنها في إصداره «صرح الخلافة» الذي صدر عن مؤسسة الفرقان التابعة للتنظيم، في يوليو/تموز 2016(7).
لقد مثل تنظيم «داعش»تطورًا نوعيًا في أجيال الحركات الارهابية بشكل عام حيث ينضم إليه مقاتلين من مختلف الدول العربية والأجنبية، ويستخدم هذا التنظيم كافة أنواع الجرائم المادية مثل القتل والمعنوية مثل نشر الأفكار التكفيرية، إضافة الى اعتماده على التكنولوجيا بشكل هائل، فنجد التقاريرالمصورة والتسجيلات المرئية عالية الجودة لما يقومون به من عمليات إرهابية.وقد مثل إعلان التنظيم بإقامة الخلافة الإسلامية وتنصيب أبوبكر البغدادي خليفة للمسلمين في عام 2014م خطرًا على الأمن القومي العربي، حيث استطاع أن يسيطر على مساحة جغرافية في كل من العراق وسوريا بحدود 90000كيلومتر مربع، بهدف إنشاء دولة كبرى متجاوزة حدود الدولة الوطنية المتعارف عليها ، الأمر الذي شكل تهديدً مباشرًا على العراق وسوريا ، وعمل على استخدام العنف والوحشية ضد السكان وكذلك إعدام العديد بمن فيهم من رجال الدين وتدمير المقدسات الدينية في العراق وسوريا.ورغم الضربات التي تعرض لها التنظيم، منذ مطلع عام 2016، من قبل التحالف الدولي والجيش السوري، فإنّه لا يزال يسيطر على ما يقرب من 30% من الأراضي السورية، حيث لا يزال يسيطر على معظم المحافظات المحاذية مع المناطق التي يسيطر عليها في العراق، وهي محافظة «دير الزور» ومناطق شاسعة في «ريف الحسكة» و محافظة «الرقة».
*-تنظيم القاعدة أو «جبهة فتح الشام »(أو جبهة النصرة سابقأ)
تعد القاعدة التنظيم الثاني العابر للحدود في سوريا، والمنافس القوي لـ «داعش» لا سيما بعد دخول «جبهة فتح الشام» ذراع القاعدة، في تحالف مع كل من حركة نور الدين زنكي، و «لواء الحق» و «جبهة أنصار الدين» و« جيش السنة» ألق عليه هيئة تحرير الشام في يناير/كانون الثاني 2017 ،والتي تضم الآن في صفوفها ما بين 20000و30000رجل، حسب الإحصائيات المتباينة،وهي تنتشر في مناطق عدة من سورية إضافة إلى هيمنتها الكاملة على محافظة إدلب. إن تغيير اسم التنظيم من «جبهة النصرة» إلى «جبهة فتح الشام»، وإعلان أبو محمد الجولاني قطع علاقاته مع تنظيم «القاعدة» لا يعني التخلي عن أيديولوجية «القاعدة» الجهادية، حيث يؤشر بقاء عدد من رموز «القاعدة» (أمثال أبو عبدالله الشامي وأبو الفرج المصري) في صفوف جبهة فتح الشام إلى أن التغيير الطارئ هو مرحلي، وذلك لاحتواء عدائية العديد من فصائل الثورة، وتخفيف عمليات القصف الروسي، واحتواء تداعيات الترتيبات التي نتجت من اجتماعات آستانة..
وبرغم أن التحالف الجديد يقوده هاشم الشيخ، القيادي السابق في حركة «أحرار الشام» فإنه مجرد قيادة شكلية، في حين أن القيادة الحقيقية في يد أبي محمد الجولاني، قائد «فتح الشام»، الذي يتولى القيادة العسكرية في الهيئة، الأمر الذي يشير إلى أن التحالف الجديد ما هو إلا محاولة من القاعدة للظهور ككيان مستقل، وغير تابع للقاعدة.وبناء على هذا التحالف، تكون القاعدة قد قوت من نفوذها في الشمال السوري. حيث ترى اتجاهات عديدة أن نجاح “الجبهة في تكوين هذا التحالف أضعف دور حركة «أحرار الشام» مما يدعم سيطرة القاعدة، على مناطق رئيسية في شمال سوريا، خاصة محافظة «إدلب» التي تقع بالكامل تحت سيطرته ، مع المجموعات المسلحة المرتبطة بها(8).
*-أهم التنظيمات الجهادية المحلية (9)
تعد كل التنظيمات الجهادية في سوريا، باستثناء داعش و القاعدة تنظيمات محلية بامتياز، برغم وجود مقاتلين أجانب في صفوف بعضها، تحت شعار «الجهاد من أجل الدفاع عن أهل السنة»،وهذه التنظيمات تنشط في الداخل السوري فقط، ولا تتعدى أهدافها خارج الحدود السورية، وليست لها ارتباطات فكرية بأي من التنظيمات العابرة للحدود. ويمكن تحديد أهما في الآتي :
جيش الإسلام : الذي تشكل في سبتمبر 2013، عقب تحالف ما يقرب من (50) فصيلاً في دمشق وضواحيها، تحت قيادة زهران علوش، الذي قتل في 25 ديسمبر/كانون الأول 2015. ويعرف «جيش الإسلام» بأنه عدو «داعش» اللدود، كما أنه خاض عدداً من المعارك ضد القاعدة وحلفائها. ويتمركز التنظيم بشكل كبير في الغوطة الشرقية لدمشق. ورغم أن التنظيم له مرجعية مذهبية «حنبلية» جعلته أقرب إلى الفكر الجهادي التقليدي، وظلت تلك المذهبية حاضرة في بنية الجيش وخطابه، وعلاقته بالخصوم والحلفاء المحليين فإنها لم تنعكس على علاقاته السياسية.
فيلق الرحمن : الذي يعد واحداً من أهم التنظيمات الجهادية المحلية، وثاني الفصائل الكبرى في الغوطة الشرقية لدمشق، إذ يسيطر على مدن بأكملها، كما يتمتع بنفوذ في أحياء عدة من شرق دمشق، لذا فهو يعد منافساً قوياً لتنظيم «جيش الإسلام» وقد تأسس في مطلع 2013، عقب اندماج عدة مجموعات مسلحة. وتعد منطقة الغوطة الشرقية معقل نفوذه الأساسي، حيث ينتمي إليها معظم مقاتليه، كما له وجود في منطقة القلمون الشرقي ويبلغ عدد مقاتليه ما يقرب من تسعة آلاف مقاتل، ويتلقى دعماً من دول عدة، أبرزها قطر، وتركيا.
حركة أحرار الشام الإسلامية : التي تعد المنافس القوي للقاعدة في الشمال السوري، وقد ظهرت لأول مرة في محافظة إدلب في أواخر عام 2011 باسم أحرار الشام، ثم اندمجت مع بعض المجموعات الأخرى لتكوين «الحركة» في فبراير 2013، حتى أصبحت من أبرز الفصائل المقاتلة على الساحة السورية، وتضم تيارين رئيسيين، الأول سلفي جهادي، والآخر مقرب من «الإخوان المسلمين».
المراقبون للانتصار ات العسكرية التي يحققها الجيش العربي السوري و حلفاؤه في ساحات المعارك في سورية ، باتوا متأكدين من أن المخطط الأميركي –الصهيوني –الرجعي العربي و التركي هُزِمَ، لا سيما في ظل بقاء الدولة الوطنية السورية متماسكة بكل مؤسساتها، فضلاً عن أن المسرحية الدولية التي ينفذها رعاة التطرف و الإرهاب في سورية قاربت على الانتهاء، لذا نشهد صور الفرار الجماعي للإرهابيين، والانشقاقات الكبيرة في صفوفهم.
ومنذ أن أصبحت روسيا الفاعل الأهم في الأزمة السورية ، وتولي موسكو قيادة إدارة هذه الأزمة دوليًا، بعد ما حققته من نجاحات على المستويين العسكري و السياسي ، تراجعت الولايات المتحدة عن الانخراط بقوة في الأزمة السورية،كما تغير الموقف الأميركي من رحيل الرئيس الأسد ، وساهم قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف دعم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للمعارضة في مزيد من الضعف لحركة المعارضة المسلحة في غرب سورية وفي الوقت ذاته، حرم المسؤولين عن رسم السياسات في الغرب من أداة من أدوات الضغط القليلة في أيديهم.
ويجمع هؤلاء المراقبون في أن روسيا تريد حلاً سياسياً للحرب. فالحرب مكلفة بالنسبة للروس ،الذين يريدون حلاً بشروطهم ،وهو الحل الذي يُبقي الرئيس الأسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية، إضافة إلى حقه في الترشح للانتخابات الرئاسية .
4-خلفيات معارضة الكيان الصهيوني لاتفاق خفض التوتر في جنوب سوريا
توصّل الرئيسان الروسي والأميركي، فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، في قمة أولى جمعتهما في هامبورغ، على هامش اجتماعات الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم، في 7تموز/ يوليو2017 ، إلى اتفاقٍ لخفض التصعيد في جنوب غرب سورية، شمل محافظتي درعا والقنيطرة، والبدء بتنفيذه في 9من الشهر نفسه.
منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، تبنى الكيان الصهيوني إستراتيجية إطالة أمد الحرب، وإضعاف سورية، والدعوة إلى تقسيمها على أسس طائفية وعرقية ومناطقية. وعلى الرغم من إعلان الكيان الصهيوني المستمر أنه لن يتدخل في هذه الحرب، فإنّه أقام قنوات اتصال مع بعض الفصائل الإرهابية الناشطة في الشريط الحدودي المحاذي للجولان السوري الذي يحتله الكيان الصهيوني من ناحية، ووضع، من ناحية أخرى، خطوطًا حمراء للدولة الوطنية السورية ،شملت منع استخدام الأراضي السورية لنقل أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان، ومنع دخول قوات عسكرية إيرانية إلى المنطقة المحاذية للجولان السوري المحتل. وشنّ الكيان الصهيوني منذ كانون الثاني/ يناير 2012 عشرات الغارات على مواقع مختلفة في سورية، كلما رأى أنه جرى اختراق خطوطها الحمراء، وكان آخرها في النصف الثاني من تموز/ يوليو الماضي، أي بعد اتفاق هامبورغ.كما سعى الكيان الصهيوني ، في السنوات الأخيرة، إلى استغلال الحرب في سورية، لتحقيق هدفين أساسيين، هما الحصول على شرعية دولية لضمه هضبة الجولان السورية التي احتلها منذ عام 1967، و إقامة منطقة منزوعة السلاح وتحت النفوذ الإسرائيلي في جنوب سورية على طول الحدود مع الجولان السوري المحتل بعمق عشرات الكيلومترات ، وأيضًا على طول الحدود السورية – الأردنية، تكون خاليةً من القوات العسكرية.
وتخشى «إسرائيل» من أن تطوّر روسيا وجودها العسكري في جنوب سورية من مجرد الإشراف على تنفيذ الاتفاق إلى وجود دائم يشمل إقامة قاعدة عسكرية جوية لسلاح الجو الروسي في مطار الثعلة الواقع شرقي مدينة درعا، والمتاخم لمحافظة السويداء؛ ما يعني أن روسيا قد تستقدم إلى هذا المطار منظومات صواريخ إس 300 وإس 400 كالتي نشرتها في مطار حميميم في شمال غرب سورية، والتي حولتها روسيا إلى قاعدة عسكرية جوية كبيرة. وفي حال فعلت روسيا ذلك، سوف تستقدم على الأرجح قوات عسكرية برية للدفاع عن المطار الذي لا يبعد سوى 55 كيلومترًا عن الحدود السورية مع الجولان المحتل؛ ما سيحدّ، في حال حصوله، من قدرة «إسرائيل» على الاستمرار في استباحة الأجواء والأراضي السورية، وشن اعتداءات على سورية كلما رأت أن خطوطها الحمراء قد اخترقت(10).
وتعارض «إسرائيل» اتفاق خفض التصعيد الذي توصلت إليه روسيا والولايات المتحدة بشأن جنوب سورية، لأنها ترى أنه يتناقض مع إستراتيجيتها الأمنية والعسكرية تجاه الصراع الدائرفي سورية،فقد يمهد الاتفاق إلى إنهاء الحرب في سورية،وهو ما لا ترغب فيه «إسرائيل». فضلاً عن أن الجانب «الاسرائيلي» رصد انسحاب مايسمى « جيش العشائر»الارهابي وعودة الجيش العربي السوري الى مواقعه وهو مايشكل خطر عليهم، وهم حسب ادعاء الصهاينة لايريدون مواجهة معه ، لذا كان وجود التنظيم الارهابي أخف وطأة عليهم كون هذه التنظيمات تحابي العدو الصهيوني بل وتحتمي به.‏
وبعيداً عن أميركا وداعمي الإرهاب الدولي في المنطقة، ليس غريباً أن يضع العالم ثقله السياسي والعسكري لمحاربة الإرهاب، وخاصة أن مخالبه تنهش في الأنحاء كلها متجاوزة الحدود والمعتقدات والجنسيات، حيث الصورة باتت واضحة بأن الولايات المتحدة ومن يقف خلفها أوجدوا تلك الآفة(الإرهاب) لتخويف الشعوب من أخطارها، ثم أوهموها بأن الدواء في حوزتها، فيما الحقيقة غير ذلك، لأن أولئك يريدون أمراً واحداً فقط، وهو الإفادة من الرعب الذي يسببه الصيت الذائع لتلك الآفة.‏
فالأطراف الدولية والإقليمية التي استخدمت التنظيمات الإرهابية لشن الحرب الإرهابية على سورية فشلت في تحقيق أهداف مخططها ، وإن لم تعترف علانية بتغيير مواقفها، إلا أن ما يجري من تغيير في خط سير العمليات السياسية والميدانية، بات متضمناً التراجع في تلك المواقف، وخاصة أن تلك الأطراف تريد إنهاء هذه التنظيمات الإرهابية التي صرفت عليها عشرات المليارات من الدولارات ، ولم تجلب لها سوى المزيد من الإخفاقات. وهاهي الحرب في سوريا تدخل منعطفاً جديداً بسعي الرئيس بشار الأسد إلى مدّ نطاق سيطرته إلى المناطق التي تتم استعادتها من تنظيم «داعش»، وذلك باستخدام القدرات العسكرية التي أتاحتها له اتفاقات الهدنة المدعومة من روسيا في غرب سورية.وبدعم من روسيا وإيران، تأمل الدولة الوطنية السورية بأن تسبق الفصائل المدعومة من الولايات المتحدة في الهجوم على آخر المعاقل الكبرى للتنظيم في سورية وهو محافظة دير الزور التي تمتد حتى الحدود العراقية، بعد أن حرّر الجيش العربي السوري مدنية السخة الاستراتيجية.
5-تحرير السخنة يفتح الطريق نحو دير الزور
بعد استعادة مدينة السخنة الاستراتيجية ، نجح الجيش العربي السوري وحلفاؤه يوم الخميس24 آب/أغسطس 2017، في إحكام تطويقه لتنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) بشكل كامل في البادية السورية وسط البلاد تمهيداً للبدء في المعركة من أجل طرده منها.وتمكن الجيش بذلك من قطع خطوط امداد التنظيم. وسيقوم بطرد المتشددين من هذه المناطق قبل أن يطلق معركته المصيرية في دير الزور التي تشكل القسم الأخير من هذه المنطقة الصحراوية وآخر محافظة تخضع لسيطرة التنظيم.
ويخوض الجيش السوري بدعم روسي منذ أيار (مايو) الماضي حملة عسكرية واسعة للسيطرة على البادية التي تمتد على مساحة 90 الف كيلومتر مربع وتربط محافظات سورية عدة وسط البلاد مع الحدود العراقية والاردنية.وتعتبر موسكو أن استعادة السيطرة على محافظة دير الزور الغنية بالآبار النفطية والحدودية مع العراق تعني نهاية التنظيم في سورية.
ويكمل الجيش العربي السوري والحلفاء مساراً ثابتاً من العمليات العسكرية افتتحوه قبل ثلاثة أشهر لطرد «داعش» من أبرز معاقله في البادية، وافتتحوا الطريق نحو دير الزور بوابة الشرق السوري لإعادتها إلى سورية.‏ وتعد محافظة دير الزور التي يشطرها نهر الفرات إلى شطرين، وما فيها من موارد نفطية، ذات أهمية حيوية للدولة السورية. ويسيطر التنظيم بالكامل على المحافظة باستثناء معقل للقوات الحكومية في مدينة دير الزور وقاعدة جوية قريبة. كما أنها قريبة من «قوات سورية الديموقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة.
ويميز مدينة دير الزور موقعها الجغرافي، إذ تتمركز على الضفة الغربية لنهر الفرات، وتعتبر صلة الوصل بين العراق والمحافظات السورية الأخرى، ويطلق عليها «لؤلؤة الفرات». كما تعد «البوابة الشرقية» للأراضي السورية، وتعتبر دير الزور ثاني أكبر المحافظات السورية بعد محافظة حمص، وتقدر المساحة الكلية لها بـ 33 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل 17 في المئة من مساحة سورية بالكامل.‏
ويرى محللون أن المعركة الأساسية والكبرى تنتظر الجيش وحلفاؤه في دير الزور التي يتمركز «داعش» في أجزاء منها وكامل أريافها، فاستعادة السخنة أكبر معاقل التنظيم في ريف حمص، التي كانت تتحكم بعقدة المواصلات والإمداد للتنظيم الارهابي تكرس انقلاباً نهائياً في ميزان القوى في مصلحة الجيش العربي السوري، ودير الزور ستمنح دمشق والحلفاء فرض تسوية سياسية لا تبتعد عن شروط الحسم العسكري المستمر في مواجهة «داعش».‏
وتعيش أحياء مدينة دير الزور حصارًا خانقًا فرضه إرهابيو تنظيم «داعش»، منذ أكثر من 3 سنوات، إذ تتقطع سبل الحياة في هذه الأحياء فلا كهرباء وشح في المياه ونقص حاد في الأغذية.‏ فهذه المدينة وعلى الرغم من وقوعها على ضفاف نهر الفرات، يعاني سكانها من شح كبير في المياه، والتي تسعى الدولة السورية جاهدة لإيصالها بشتى الوسائل للسكان.‏ ولا يكتفي تنظيم «داعش» بفرض هذا الحصار الجائر ، بل يقوم بشكل شبه يومي باستهداف المدنيين بمختلف أنواع القذائف والصواريخ محلية الصنع، إضافة إلى إرسال طائرات مسيرة، محملة بالقنابل تستهدف تجمعات المدنيين.
‏ 6-الأكراد و طرح الفيدرالية كمشروع لتقسيم سوريا
لم يعرف السوريون من قبل أي شيء عن الفيدرالية ،التي أصبحت القوى الكردية تطرحها اليوم، بوصفها العنوان السياسي و التاريخي للمرحلة الجديدة التي دخلت فيها سوريا ، والمتمثلة في عملية تقسيمها ، وفق استراتيجية التفكيك الأميركية التي بدأتها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991،بهدف تمزيق الكيانات العربية القائمة على أرضية التقسيم الكولونيالي الموروث من إتفاقيات سايكس بيكو الأولى في سنة 1916، وإعادة إنتاج إتفاقيات سايكس بيكو جديدة لاستيلاد كيانات تقوم على عصبيات جديدة مادون الوطنية و القومية ، أي عصبيات القبيلة و العشيرة و الطائفة و المذهب الديني ،و العرق، و التي تخدم في المحصلة النهائية المشروع الصهيوني المرتبط بالمخططات الإمبريالية الأميركية.
الفيدرالية المطروحة في سوريا ،مشروع انفصالي تقسيمي لأنه يطرح في سوريا ، البلد الذي يعيش أزمة كبيرة تتداخل فيها العوامل الداخلية والإقليمية والدولية ،وهوبذلك وصفة انفصال أكثر منها شيء آخر.علماً أنه من الناحية التاريخية ،وبالنظر إلى تأكيد القومية الكردية ، كمشكلة سياسية لبلدان ثلاثة من الشرق الأوسط، هي تركيا و إيران والعراق،فإنّ أكراد سوريا غير معنيين بهذه النزعة الإنضمامية الكردية،إلاّ بصورة هامشية،لأنهم جاؤا من خلال استيطان بعض القبائل الكردية الرحل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في سهول منطقة «الجزيرة» إلى جانب القبائل العربية. وظل أكراد سوريا أقلية هامشية لا قيمة لها عَدَدِيًّا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى واحتلال فرنسا لِسُورِيَا، وكان التدفق الأكبر لقرابة 25 ألف كُرْدِي، عَبَرُوا الحدود من تركيا إلى سوريا بين سنتي 1925 و1928 (بموافقة سلطات الإحتلال الفرنسي) هَرَباً من قمع القوات المسلحة التركية، وبلغ عدد الأكراد في سوريا نحو 90 ألف نسمة سنة 1938 وقرابة 250 ألف سنة 1959 بحسب «روبيرت زايدنر»، وبنحو 400 ألف نسمة في عموم سوريا سنة 1962، وفق القيادي والسياسي الكردي الإيراني «عبد الرحمن قاسملو». وقدّرَ ميخائيل م جونتر(Michael M. Gunter) أعدادهم في سوريا سنة 2004 بنحو مليون نسمة، قبل موجة الهجرة الكبيرة من تركيا نحو سوريا بداية من 1974، بعد اشتداد حملات القمع ضدهم وحرق الجيش التركي المحاصيل الزراعية وهدم قرى الأكراد وتَشْرِيدِهِمْ… ورغم تناقض المعلومات فإنّ مصادر الحركة الكردية تُقَدِّرُ عددهم بنحو ثلاثة ملايين في سوريا سنة 2015 يتوزعون في ثلاث محافظات أساسية هي الحسكة، وحلب، ودمشق، مع تواجد أعداد أقل في حمص وحماة وريف إدلب واللاذقية، ويُقَدَّرُ العدد الحقيقي بنحو 2.5 مليون كُرْدي في سوريا، جاء أكثر من تسعة أعشارهم من تركيا خلال العقود القليلة الماضية .
واعتقدت الأحزاب الكردية أن «موسم الاستقلال» قد حان, وأن الوقت أصبح يسير في صالح تحقيق الحلم , من خلال التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية ، والاعتقاد أن ترتيبات ما بعد الحرب ستسهم في تحقيق الهدف المعلن وهو الفيدرالية , بينما يكون الهدف الحقيقي هو السير في اتجاه إقامة الدولة.و يبقى الجانب الأهم والأكثر تداولاً على الصعيد السياسي وهو «الفيدرالية »، التي تتبناها وتدفع باتجاهها الأطراف الكردية بشكل أخص، وبوسائل حثيثة وخطوات متسارعة الإيقاع في محاولة لتثبيتها كأمر واقع،لكن أين مكمن الخطورة في «الفيدرالية»؟ وما مدى تأثيرها على سوريا والمنطقة؟
وتسيطر جماعات كردية وحلفاؤها على مساحات من شمال سورية ضمن مناطق تسيطرعليها «قوات سورية الديموقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة،وهي تحالف من فصائل مسلحة تقوده «وحدات حماية الشعب» الكردية.وكانت الإدارة التي يقودها الأكراد حددت في نهاية تموز (يوليو) الماضي الفترة بين أواخر الصيف وكانون الثاني (يناير) 2018،لإجراء انتخابات مجلس محلي وبرلمان إقليمي، في خطوة تهدف على ما يبدو لتعزيز حكمها الذاتي المتنامي.وشكلت جماعات كردية مناطق حكم ذاتي منذ مرحلة مبكرة من النزاع الذي تفجر في العام 2011، لكنها تقول إنها لا تسعى إلى الانفصال عن دمشق.
من هنا جاء الرّد الرسمي السوري قوّيًا على لسان نائب وزير الخارجية السوري الدكتور فيصل مقداد، الذي قال في مقابلة له مع «رويترز» و«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) في دمشق يوم الأحد6آب/أغسطس2017، إن «الانتخابات ستكون مزحة، وسورية لن تسمح أبداً بانفصال أي جزء من أراضيها».وأضاف المقداد «نعتقد أن المواطنين السوريين في شمال سورية لن يعرضوا الوضع للخطر في البلاد، أو يتحركوا في اتجاه أي شكل من أشكال تقسيم سورية. من سيتحركون في تلك الاتجاهات يعرفون الثمن الذي سيدفعونه».وعندما سئل عما اذا كانت الحكومة السورية ترغب في استعادة مناطق تسيطر عليها جماعات كردية، قال المقداد إن المسألة ليست رغبة بقدر ما هي قضية واجبة، مشدداً على أن «وحدة الأراضي السورية لن تكون أبداً محلاً للجدال»(11).
الخاتمة:
منذ نهاية الحرب الباردة و انهيار المعسكر الاشتراكي ، وانتصار العولمة الليبرالية المتوحشة الأميركية اقتصاديًا على الأيديولوجيا الاشتراكية المنافسة ، أصبحت الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، تكمن في تحقيق انتصار سياسي على نظرية الدولة الوطنية ودورها في تسيير الاقتصاد،والتخلّص نهائيًا من هذه الوطنيّة في منطقة الشرق الأوسط.فكان الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، ثم جاء دور إسقاط الوطنية السورية مع بداية ما يسمي «الربيع العربي»، باعتبارها أصبحت بدورها عائقاً أمام حركة رؤوس الأموال، وبالتالي عائقًا أيضًا أمام عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق بالمعنى الرأسمالي الليبرالي .
إنّ ما جري في العراق وسوريا، من تنامي سطوة التنظيمات الإرهابية خلال السنوات القليلة الماضية ،يؤكد مرّة أخرى فشل مغامرة الولايات المتحدة ومعها تركيا والمملكة السعودية و قطر، فالوقائع في البلدين العربيين، تثبت أن مدبّري هذه المغامرة العسكرية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها، لم يعودوا يسيطرون عليها كذلك. ويتحمل الغرب مسؤولية زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، والمغرب العربي،ما نجم عنها من عواقب وخيمة، لجهة تحطيم الدولتين العراقية والليبية،والعمل على إسقاط الدولة الوطنية السورية التي كادت أن تنهار لولا وقوف الحلفاء (الروس و الإيرانيون وحزب الله)إلى جانبها في الحرب على الإرهاب .
وما من شك في أن المخطط الأميركي- الصهيوني –الخليجي و التركي ،من خلال استخدامه أدوات متنوعة و متباينة (التنظيمات الإرهابية «داعش» و«جبهة النصرة» وأخواتهما من التنظيمات الجهادية الأخرى )،كان يريد تحقيق الإستيطان للإرهاب التكفيري في منطقة الشرق الأوسط ،أولاً. كما أن هذا المخطط الآنف الذكر أخفق في معالجة جوانب فشل الدولة الوطنية السورية حسب ادعائه،من خلال إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة الوطنية السورية عبر تفكيكها إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، تحت مسميات مختلفة ،لا سيما في ماعدّته الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها عوامل فشل في بنية الدولة السورية، خاصة فيما يتعلق بعدم قدرتها على الاستيعاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي لجميع مكونات المجتمع السوري ، ثانيًا.
لقد أسهم مخطط الولايات المتحدة الأميركية و الدول الأوروبية ،والكيان الصهيوني، وتركيا والدول الخليجية، بشكل كبير في إطلاق عملية زعزعة الاستقرار، وتدمير الدول الوطنية، من خلال توظيف الحركات الدينية الأصولية في المعركة الأولى ضدّ الأنظمة الشيوعية والاشتراكية في الكتلة الشرقية والعالم الثالث على حد سواء. ثم من خلال المراهنة في المعركة الثانية ضدّ الدولة الوطنية في سائر الشرق الأوسط، وشمال إفريقياعلى تيارات الإسلام السياسي و الحركات الجهادية التي ترفع شعار العودة إلى الدين وتعتمده أداة من أدوات المعركة، لكنّه شعار مخادع، كبديل للدولة الوطنية السورية،بعد القبول بمنطق تقسيمها، و إنتاج خريطة «وستفالية»جديدة للدولة في سوريا على أسس مذهبية وعرقية، و العودة الحقيقية إلى البنى التقليدية التي كانت تستند في جزء كبير منها إلى الشرعية الدينية، وقد انهارت من دون رجعة.

إنه رهان خاسر من جانب أميركا وحلفاؤها ،لأن تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مسمياتها لا تؤمن بالدولة الوطنية القائمة على التنوع،وبالتالي فإنّ المراهنة على تلك التيارات الدينية التي تستقطب الأتباع و الأنصار بدعوى الثأر لتلك البنى التقليدية ما قبل الدولة الوطنية ، وباستعمال الشعارات القائمة على تمثلات طوباوية للماضي، مثل شعارات «الإسلام هو الحل» و «الدولة الإسلامية» و «الاقتصاد الإسلامي» و «البديل الإسلامي»، من أجل أن تكون بديلاًللنخب الحاكمة في سوريا وغيرها من الدول العربية،لا يعني فحسب ، إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمة القداسة، ولكن يعني أيضا، وبشكل أكثر خطورة، أن هذه التيارات الأصولية لاتقدم أي بديل واضح لماهو سائد، ويمكن بسهولة أن تتخذ مطية لاستبداله بالأسوأ ، فضلاً عن إهدارها لمعنى الدولة الوطنية بتنوعها، مما يعبد الطريق لمزيد من الحروب الأهلية، وانهيار الدول الوطنية، وانتشار التطرف و الإرهاب.
هذا في جانب المخطط الأميركي-الصهيوني التركي-الخليجي المعادي،لكن الإرهاب المنتشر في دول عربية عدة ما هو سوى نتيجة للأزمات البنيوية التي تعيشها هذه الدول،وليس الانتصار العسكري الذي تحقق في الموصل، والسخنة، والبادية السورية، وماسيتحقق في الرقة ودير الزوروتلعفر،سوى بداية للانتصارعلى الإرهاب.
ويظل الانتصار على الإرهاب في بعده الاستراتيجي مرهونًا بإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في سوريا ،وفي كل دول الشرق الأوسط على أسس جديدة ،على أن تستثمر هذا الدولة الوطنية في العروبة بوصفها الخيار الأيديولوجي والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي،عبر تبني المفاهيم القائمة على التعددية الفكرية والسياسية ،وفكرة المواطنة،وبناء دولة القانون،أي دولة المؤسسات الدستورية وإعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية والليبرالية،والتأكيد على مرجعية احترام حقوق الإنسان،والحريات الشخصية والاعتقادية،والديمقراطية.
فالمشروع العربي الديمقراطي،هو الخيار العروبي الوحيد للدولتين السورية والعراقية ، الذي من خلاله يمكن للسوريين والعراقيين،وسواهم ،أن يبنوا مستقبلهم السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن يؤسسوا عبره وحدتهم الوطنية والقومية الحقيقية، بعيداً عن الانقسامات المذهبية والطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. فالطائفية تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية.
الهوامش:
(1)-د.منير الحمش،الاقتصاد السياسي الفساد-الإصلاح-التنمية،بحث في نقد المشروع الأميركي،اتحاد الكتاب العرب ، الطبعة الأولى، دمشق 2006(ص51).
(2)- المصدر السابق عينه، (ص51-52).
(3)-المصدر السابق عينه، (ص56).
(4)-مالك عوني:مدير تحرير مجلة السياسة الدولية،صراع الإمبراطوريات: طغيان الجغرافيا السياسية فيما وراء الأزمة السورية، ملحق مجلة السياسة الدولية عدد يوليو/ تموز 2017، الذي يحمل العنوان التالي: التسوية في سوريا؟، (ص6).
(5)- هدى رؤوف، الصراع السعودي- الإيراني غداة عملية التسوية لسورية المتعثرة، ملحق مجلة السياسة الدولية عدد يوليو/ تموز 2017، الذي يحمل العنوان التالي: التسوية في سوريا؟، (ص9).
(6)- بشير البكر،الإخوان المسلمون والثورة السورية، صحيفة العربي الجديد،18أغسطس/آب 2017.
(7)-علي بكر:مساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية،مستقبل التنظيمات الجهادية السورية مابعد التسوية ، ملحق مجلة السياسة الدولية عدد يوليو/ تموز 2017،(ص 19-20).
(8)-المصدر السابق عينه،(ص19).
(9)-المصدر السابق عينه،(ص19).
(10)- اتفاق خفض التصعيد في جنوب سورية؟المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات،صحيفة العربي الجديد 13أغسطس،آب 2017.
(11)-دمشق لن نسمح بانفصال الشمال الكردي، صحيفة الحياة اللندنية تاريخ 7آب/أغسطس 2017.

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية ، السنة الخامسة العاشرـ العدد 189 ـ (ذي الحجة 1438 هـ ( ـ(سبتمبر/أيلول2017م)

*باحث تونسي.

المقالة تعبّر عن رأي كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.

Optimized by Optimole