بيروت الثّابتة في تحوُّلها والمُتحوِّلة في ثباتها

Spread the love

بقلم: د. محمود شريح _ أكاديمي وباحث فلسطيني/

منذ صَنعَ الملك سليمان لنفسه تختاً من خشبِ أرزِ لبنان، ومنذ أشرقَ الأرجوان على ساحلِه، وبزَغَ الحرفُ على قِمَمِه، وبيروت المتّكئة أبدَ الدّهرِ على كتفِ المتوسّط، بحيرة رومه، صنوَ الدهرِ مذ كان، غَدتْ مَنارة الشرق ومحجّة أهله، فيما بقيت سيفَ العربِ وترسهم…

وها هي، منذ بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق وناصيف اليازجي إلى أمين الريحاني وجبران خليل جبران وأنطون سعادة، شهدت كيف شقّت الحداثةُ دربَها إلى هذه العاصمة الوادعة في حضن جبلها، فكان أمين نخله دفتر برناسْ، وبشارة عبد اللّه الخوري قرطاسَ غزل، وسعيد عقل رنّةَ المطلق، فما إن انتصفَ القرن العشرون حتّى كان قوسُ قُزح لقصيدة نثر ونقد مؤصّل عند ملتقى بيروت – دمشق، فيما مهّد لهذا الأثر أحدُ الآحاد جبران عند المُنقلب الآخر من هذه الدنيا، فأشاع من نيويورك على الأطلسي أنماطَ تفكير ووسائلَ تعبير لم يكُن للعربيّة عهدٌ بها من قبل، إذ دعا إلى تمجيد الطبيعة وأدخلَ التأمّل الفلسفي في مجرى الشّعر.

نصٌّ لا يفنى

وإلى جانب جبران، انبرى ميخائيل نعيمة مُطالِباً في غرباله بمقاييس نقدٍ جديدة، فيما كان الريحاني ينفخ ببوقه القومي، ثمّ تفرَّد أنطون سعادة في الوطن والمَهجر بفكر انقلابي لا سابقة له في بلاد الشام، وفي الأثناء مهّد خليل مطران لنزول التيّار الرمزي في القطرَين، فوقَف إلياس أبو شبكة بعده مَعلَماً رمزيّاً أساسيّاً لجماعة الرؤية الجحيميّة في ديوان العرب الحديث (خليل حاوي، توفيق صايغ، بدر شاكر السيّاب)، وجاء مارون عبّود بقراءة انطباعيّة ذاتيّة لنصوص المُحدثين، فيما أرَّخ رئيف خوري لمَسار شيوع فكر الثورة الفرنسيّة في صفوف المثقّفين العرب في مصر وبلاد الشام، من دون أن يغيب عن بال أنطوان غطّاس كرم أنّ النثر التوراتي في ترجمتَيه الأميركيّة واليسوعيّة شكَّل محطّةً كبرى في التطوُّر الذي جرى عبره النثر العربي، إذ كان صلة بين الأدب العربي الحديث والأدب الرومنطيقي الغربي، ويُدرك أثر التوراة في أدب جبران ونعيمة وميّ وأبو شبكة، وحديثًا عند حاوي والخال وأدونيس وصايغ.

هي بيروت نصّ حفْرٍ وتنزيل لا يفنى، وهي، أبدَ الدهر، دوحة وارفة الظلّ، وبنيان مرصوص. بيروت، هذا الفردوس الأرضي، جنّة العرب، شرق السويس وغربه، الراقدة تحت قناطر أرسطو، يهزّها، فجأة، ولثوان قصيرة، زلزالٌ ناجِم عن انفجار مرفأها الكائن في خاصرتها، فيصيب منها مَقتلاً، ولو إلى حين، وإنْ كانت، وبهدوء وبطء، تتماثل إلى الشفاء ورويداً تتعافى، بصمود أهلها وعزمهم على البقاء فيها. نكبة الرّابع من آب (أغسطس) 2020 هذه لم تشهد بيروت لها مثيلاً عبر تاريخها الطويل منذ الأزل، أي مع مَولد الكون، لهي كارثة بطشت بأهلها وعُمرانها، فكان فراق المئات وجرْح الآلاف، وخراب شِقق ودمار منازل وتطايُر حدائق وانكسار مَتاحف وقصور، ناهيك بالرُّعب والفزَع والهَلَع الذي حلّ بسكّان بيروت وأهل لبنان بأسره. نكبةٌ روحيّةٌ ونفسيّةٌ تُعيد النظر بالفكر السائد حتّى زمن وقوعها في الرّابع من آب (أغسطس)، فالانهيار السياسي الحاصل أثر انفجار المرفأ ودَمار بعض بيروت استوجبَ إعادة النَّظر بالموروث الفكري وصلته بالرافد الوافد على مدى قَرْن بالتمام والكمال، هو تاريخ لبنان الحديث منذ إعلانه دولة كبيرة.

ومهما يكُن سبب هذه النكبة، ومهما يكُن الغرض من انفجار المرفأ، فلا شكّ أنّ ما أصاب بيروت، رمى إلى قلب حياة أهلها ورسوخ عمرانها رأساً على عقب، وبالتالي طمسَ دَورها الرياديّ في الفكر والأدب والصحافة والفنّ، والأهمّ تسبَّب في إلغاء مَنارتها شعلة الحريّة المُضيئة على دنيا العرب من مسقط إلى طنجة، كما كان لتطايُر شَرر المرفأ آثار بعيدة على المعمور بأسره، ما أعاد النّظر وكرّ البَصر في الثابت والمتحوِّل وصدق جدليّتهما.

بيروت هي الثابت في تحوُّلها وهي بيروت المُتحوّل في ثباتها، وفي تآلف هذَين الحدّين النقيضَين بقاء بيروت، كما كانت أبد الدهر، صنوُ البحرِ ومرفأُ حريّةٍ وملاذُ فكر.

Optimized by Optimole