“القرص المربع”: الشمس من منظار أسير

Spread the love

خاص “شجون عربية” – بقلم: الأسير الروائي والكاتب الفلسطيني كميل أبو حنيش —
هي الشمس، أم الكائنات، ومعبودة الأمم الغابرة، ملهمة الشعراء، ورمز الفلاسفة والمفكرين، هي الشمس بقرصها الدائري التي تمنح المعنى لقيمنا الإنسانية، سندرك من خلالها الأمل، ونعي ثنائية الأشياء، الليل والنهار، الأسود والأبيض، الخير والشر، النور والظلام، الحياة والموت.
منها اشتققنا أجمل الاستعارات والدروس والمعاني، فهي رموز الحرية والعلم والثقافة والجماليات في الوجود. هكذا كانت ولا تزال وستبقى أمنا جميعاً وبسمة حياتنا، لكن ثمة استثناء لهذه القاعدة الأثرية، كيف أحجمت شمسنا أن تبدو لنا قرصاً دائرياً في عالم السجن؟ وما الذي أرغمها أن تبرز لنا مربعة الشكل؟ فهنا حيث نحيا في السجن كمكان تنقلب فيه الأشياء والعوالم، إذ تضفي معالم السجن القاسية بصمتها المشوهة على حواسنا، فينعكس على الوعي فتبدو لنا الطبيعة مقلوبة على رأسها، ويبدو الوجود عالماً سريالياً لا معنى له.
ففي هذا المكان بمقدورك أن ترى الشمس لكنك لن تراها كما عرفتها قبل ولوج قدميك لعقدة السجن، لأن السجان سيصر على أن يضع بصمته المشوهة على قرصها الدائرة، ففي سقف الساحة حيزنا الضيق الذي نتنسم فيه هواءنا ونغتسل بأشعة الشمس كل يوم.
ثمة شبك حديدي منقسم إلى مربعات بأحجام مختلفة كبيرة ومتوسطة وصغيرة، ومع الوقت سيُخيل إليك كلما حدثت بالشمس بأنك تراها أقرب إلى الشكل المربع، ويساورك شعور أنك في عالم آخر، وكلما توالت السنوات ستألف شكلها المربع، فتتساءل في نفسك لو تسنى لك أن ترى القمر أحدباً هل سيكون قرصاً مربعاً هو الآخر؟
تنتابك الحيرة في وسط هذا العالم، أهو عالم القرص المربع؟ أم عالم الزمن الدائري؟ أم عالم الزي البني؟ أم عالم الأبواب الزرقاء؟ أم عالم الثنائيات الصارمة؟ أم عالم التفاصيل الصغيرة؟ هو عالمها جميعاً على أية حال، فكيف تسنى لسجانها أن يخلق هذا العالم؟ وكيف تشدقت عبقريته السافلة في هندسة المكان والزمان ليصل إلى هندسة وعينا كما هو دأب السلطة المريضة والشريرة في كل العصور.
في عالمنا الغرائبي يحتلك إحساس بأنك خارج الزمن ويتوّلد هذا الإحساس نتيجة لكثافة الأشياء، ثمة كثافة لكل شيء، ثمة شكل مربع يطالعك أينما وليت وجهك، الغرفة والباب والنافذة والتلفاز والراديو والطاولة والساحة والسقف بمربعاته الكثيفة، ولولا بعض الأشكال الدائرية والاسطوانية والمثلثية أفلتت من قبضة الهندسة لأضفى الشكل المربع نفسه على كل شيء، كما أضفى شكله على شكل شمسنا الدائرية.
ثمة أبواب زرقاء نراها في كل السجون، ثمة كاميرات في كل زاوية، ولباس بني يلازم حياتك على الدوام، أما إجراءات السجان اليومية المتكررة بكثافة ستجعل الزمن دائرياً بلا أحداث استثنائية تكسر حلقته المفرغة، العدد الصباحي، الفحص الأمني الصباحي، الفسحة الصباحية، عدد الظهيرة، فسحة الظهيرة، الفحص الأمني المسائي، الفسحة المسائية، العدد المسائي، التفتيشات الدورية، وجبات الطعام الثابتة حسب الأوقات والأيام.
كلها إجراءات ثابتة ومصممة بشكل صارم ومقسمة على الوقت، إجراءات باتت مقدسة لدى السجان لا يمكن لنا السماح بانتهاكها، وبهذا نحن نحيا في علبنا الأسمنتية المربعة ونظل نتوه في حلقة الزمن الدائرية الجهنمية، ولولا بعض الأحداث الاستثنائية كزيارة الأهل والإضراب والمناوشات الموسمية لتكلس وعينا، ونحن نطحن تحت رحى طاحونة الزمن الدائري.
عالمنا هو عالم الاختزالات المروعة فعند زيارة الأهل لا يتاح لك رؤية ذويك إلا من خلف الزجاج ولا يُسمح لك بالحديث معهم سوى عبر حاجز الزيارة، وبهذا تختصر الحواس الخمس بحاستي البصر والسمع، أما بقية الحواس فتصبح طرفاً لا حاجة لك بها، كي لا يتلامس زمنك مع أزمنتهم، وكي لا تشم عبق الأمومة أو تتذوق وجنات الأطفال.
أما الرباعيات في عالمنا فإنها ستتحول إلى ثنائيات صارمة، فالجهات الأربعة لها معنى لها في عالمنا، ولا نستخدم مفردات الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، وستكون مفردات زائدة عن الحاجة وسيستعاض عنها بثنائية اليمين أو اليسار.
أما الفصول الأربعة ستختصر في فصل الصيف والشتاء، فلا ربيع ولا خريف، بينما ثنائية الداخل والخارج ستصبح بعداً خاصاً يتلاءم مع هذا الحيز الصغير، ويضحى لنا الخارج مجرد ساحة ضيقة أو خارج القسم في أفضل الأحوال.
أما الداخل فيعني إما داخل الغرفة أو داخل القسم.
وعندما تم سؤال الأسيرة المحررة عهد التميمي عن السجن أجابت بعفوية ” أنها دأبت مع الأسيرات على الخروج إلى الخارج تحت الشمس، ويضحكن ويتناولن الطعام عندها جن جنون الدولة العبرية، كيف تسنى لهذه الطفلة أن تخرج للخارج، فيما السجن مصمم ليكون داخلاً فحسب، فهل تصور مجتمع الدولة الصهيونية أن مصلحة السجون تتيح للأسرى الخروج في نزهات أسبوعية خارج السجن؟ أم أنهم يقاتلون أيضاً على الرمل الذي نسميه مجازاً الخارج فسارعوا لتشكيل لجنة حكومية طافت على السجون لاستطلاع الأحوال وبحث إمكانية اقتطاع أية ( امتيازات) وقضم المزيد من الحقوق الإنسانية البسيطة التي بالكاد تكفي الحياة الآدمية في سجون الدولة الإسرائيلية، التي ستطلق على نفسها اسم (الديمقراطية الوحيدة والفريدة في الشرق الأوسط(.
كان الهدف من هندسة المكان والزمان في عالم السجون الصهيونية الوصول إلى هندسة الوعي، ليجري تجريدها من ثوريته وهزيمته وترويضه وإعادة إنتاجهم من جديد.
كان يُراد لهذه الفئة أن تتكسر إرادتها وتصل إلى حد الندم والتباكي وطلب الغفران من الجلاد.
فمن خلال هندسة المكان والزمان سيتحوّل الأسير إلى كائن بشري معطوب الإرادة يعيش بحكم العادة ويتروض بفعل الإجراءات ويظل يدور في زمنه الدائري المصطنع، وبهذا يجري رسم حدود فاصلة للحياة، ويجري ضبط الوعي، وترويض الأسير وسحق إنسانيته.
وعندما تطير قصيدة شعرية أو نص أدبي خارج أسوار السجن سيرتبك السجان وسيغدو ذلك مؤشراً على فشل الاختبار في هندسة الوعي وترويض الإرادة الثائرة، لأن هذه الهندسة تشمل قتل أية إبداعات إنسانية، فعندما صدرت قصة ” سر حكاية الزيت” التي خصصها الأسير القائد وليد دقة للأطفال جن جنون الدولة الفاشية، فوليد الذي أمضى حتى الآن 33 عاماً في عالم القرص المربع، والتمس من خلال الأدب أن يرسم قرصاً دائرياً للشمس لاتي خبرها في فردوس حريته المفقودة ويزرع الابتسامة على شفاه الطفولة استهجنت الدولة العبرية قدرته على الإبداع، فكيف تسنى لأسير بعد هذه السنوات أن يتحدى السجن وينجو من هندسة الوعي وصار بوسعه كتابة قصة للأطفال.
تفاجئت أركان هذه الدولة بأن لدينا القدرة على فعل الكتابة لأنها والإبداع جريمة في شرع دولة استنسخت التجربة من النازية، فالضحية لم تقلد جلادها بل أرادت أن تتفوق عليه، فالأسرى في شرعهم مجرد قتلة وإرهابيين ومتوحشين وعندما يكتبون فإن ذلك يفضح مزاعمهم ويعريهم، وسيبدو السجان بربرياً ومتخلفاً وجامداً قياساً بالأسير، وبهذا سينقلب النقيض إلى نقيضه، فالجلاد الذي طالما تقمص دور الضحية سيرى نفسه جلاداً، أما (الإرهابي) المفترض فإنه يعلن بإبداعه أنه ضحية تضج إبداعاً وإحساساً إنسانياً ويفيض حباً وشوقاً وعطاءً وانتماءً لكل ما هو إنساني.
إذا عجز الجلاد عن خصي الوعي وفشل في تقمص دور الضحية، وظهرت عورته فاقتنع بأنه جلاد ومارس دوره، ولم يلبث أن حرض على كاتب القصة بطريقة فجة، ارتبكت مصلحة سجونه فنقلت وليداً إلى سجن آخر، وهددت بعزله، وعندما نُظم حفل توقيع القصة في مسقط رأسه باقة الغربية وقفت الدولة على أصابع قدميها بسبب قصة أطفال، وسيتولى وزير الداخلية المهمة البطولية في إفشال الحفل، ومارس ضغوطه وتهديداته وابتزازه للمشاركين من رؤساء وأعضاء البلديات لمنعهم من الحضور، وفي اليوم التالي أوردت الصحف العبرية خبر انتصار ” إسرائيل” المدوي على قصة أطفال خرجت من عالم القرص المربع، وابتهجت في تقليص عدد المشاركين في الحفل واقتصاره على عدد محدود من الأهل والأقارب والأصدقاء.
وكما تروي الأسطورة اليهودية أنه وقبل ثلاثة آلاف عام أمر القائد الأسطوري ” يشوع بن نون” الشمس بأن تقف في السماء كي يتسنى له إكمال إحدى معاركه مع الفلسطينيين، وبعد ثلاثة آلاف عام استلهم تلامذته هذه الحكاية فلم يوقفوا الشمس وإنما حاولوا تغيير شكلها فحسب.
في عالمنا حيث نقبع جرت عملية تربيع الدائرة وتدوير الزمن، ولكن فشلت عملية ترويض الوعي وهزيمة الإرادة الثائرة، في عالمنا كانت للكلمة أعلى من السجان.

Optimized by Optimole