العَولَمة والقوميّات

Spread the love

بقلم: د. عبد الإله بلقزيز* — يُخطئ مَن يتصوّر أنّ زمن القوميّات ولّى، وأنّ العولمة، والنظام الدوليّ القائم في أكنافها، فَرَضا أُطراً كيانيّة وعلائقيّة أوسعَ مدىً وأعلى مرتبةً من إطار الدول القوميّة، كما رسمتْهُ معطياتُ تكوُّنها في القرن التاسع عشر وملابسات ذلك التكوُّن، وكما توطّدت قواعدُها وأركانُها منذ ذلك الحين. مَن يميل إلى هذا الاعتقاد، لا يقرأ من أحداث التاريخ إلاّ سطحها، ولا ينتبه إلى تلك العمليّة الدائبة من التكيُّف التي ما انفكّتِ الدولةُ القوميّة، في الغرب، تقوم بها في مواجهات التحوّلات العاصفة التي تهدّد كيانها بالمحو والإلغاء.

كان لينين قد ذهب، في بدايات القرن العشرين، إلى القول إنّ ميلاد الإمبريالية (=الرأسمالية الاحتكارية) يضع بدايةَ النهايةِ لظاهرة الدولة القومية التي ارتبطت، تاريخياً، بظاهرة المزاحمة أو المنافسة الحُرّة في النظام الرأسمالي الصناعي. ومع أنّه رَصَد، رصداً جيّداً، التحوّل الكبير الذي طرأ على النظام الرأسمالي، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين (=وحدة الرأسمال الصناعي والرأسمال البَنكي وميلاد الرأسمال المالي منها، نشوء التروستات أو الكارتيلات وتضخُّم ظاهرة الاحتكار الرأسمالي…)، إلاّ أنّه لم يستنتج من ذلك سوى أنّ موجة الرأسمالية الاحتكارية تنزِع إلى توحيد العالَم بقوّة، وإلى إنهاء الحدود القومية. ولمّا كانت الاشتراكية، عند لينين، أعلى من الرأسمالية، ولمّا كان قِوامُها الفكرة الأُممية، التي لا تعترف بالأوطان، فقد كان يسيطر عليه الشعور بأنّ موعد رحيل الظاهرة القومية قد أُزفّ. ولعلّ ذلك الاعتقاد عنده هو الذي كان في أساس إهماله مسألة القوميات في روسيا وفي الاتّحاد السوفييتي-على كثرة ما كتبَه حولها-، والجواب عنها جواباً “أُمميّاً” بَلَغَ ذروته في الحقبة الستالينية، وبخاصّة بعد الحرب العالمية الثانية: حين نجحت دبّابات ستالين في صنْع رقعةٍ إمبراطورية، في شرق أوروبا، أُريد لها أن تكون نواةً لـ”الأُممية الستالينية”!

في الضفّة الأخرى، الغربية، بشـَّر كثيرون من منظّري النظام الرأسمالي- طوال القرن العشرين- بميلاد نظامٍ دولي موحَّد يفرض تشريعاته وأحكامَه على العالَم برمّته، ويجعل من نظام الدولة القومية وتشريعاتها أمراً غيرَ ذي بال. ومنذ مبادئ ويلسون، وقيام “عصبة الأُمم”، حتّى ميلاد “منظّمة الأُمم المتّحدة” (=لاحظ: على وزن “الولايات المتّحدة”)، خامر الكثيرين ميلادُ مثل ذلك النظام الدولي الذي يقوم مَقام النظام القومي-أو نظام الدولة القومية- بعد أن يلغيه. ولقد ظُنَّ، لوقتٍ طويل، أنّ ما يمنع قيام هذا النظام “الأُممي” هو حال الاستقطاب الدولي، وأنّ سقوط “المُعسكر الاشتراكي” وسيطرة النظام الرأسمالي على المناطق المتمرّدة عليه، سيفتح الطريق أمام ميلاده. وهكذا ما إن تَفكَّك “المعسكر الاشتراكي”، وانفرط عقد الاتّحاد السوفييتي، حتّى أعلن الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، عن بداية قيام ما سمّاه بـ”النظام الدولي الجديد”، زاعماً أنّ سلطةَ إدارة شؤون العالَم، وإنفاذِ أحكام المُعاهدات والاتّفاقات الدولية، وتكريس مرجعيّتها بالنسبة إلى المنظومات القانونية والتشريعية في كلّ بلد، إنّما ستؤول إلى منظّمة الأُمم المتّحدة.

وإذْ لا يستطيع المرء أن يتجاهل هذه الديناميّات الدافعة إلى الخارج القومي، أو إلى خارج الكيان القومي، وهذه الحقائق الاقتصادية والسياسية والثقافية المتولّدة منها، لا يستطيع- في الوقتِ نفسِه- أن يتجاهل النجاحات الكبيرةَ التي أحرزتْها الدولة القومية في مقاومة تلك الديناميات واستيعابها، وتوظيف الحقائق التي ولَّدتها لمصلحتها كدولةٍ قومية. نعم، لا مجال أمام إنكار حقيقة تلك الديناميات والظواهر فوق- القومية، أو العابرة للقوميات، في المجال الاقتصادي والمالي والتجاري (=زحف النظام الرأسمالي على العالَم بأسره، قيام الشركات متعدّدة- ومتعدّية- القوميات، توحيد السوق العالمية وإخضاع الأسواق والأنظمة الاقتصادية والمالية في البلدان كافة للتشبيك، قيام مؤسّسات مالية عالمية مثل “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي”، وأخرى تجارية مثل “منظّمة التجارة العالمية”…)، وفي المجال السياسي (“عصبة الأُمم”، “الأُمم المتّحدة”، الاتّفاقات الدولية الخاصّة بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، والمَحكمة الجنائية الدولية، ومنظومات القوانين المتعلّقة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وتجريم التعذيب…، مع صيرورتها اتّفاقات مرجعية ملزِمة)…؛ ولكن- أيضاً- لا مجال لإنكار أنّ هذه الديناميات لم تُلْغ الدولة القومية، بل لم تقيّد سلطانها كبيرَ تقييد؛ إذ هي ما زالت تستطيع- وحتّى إشعارٍ آخر- أن تستفيد من بعض معطيات هذه الدينامية (=القروض من “البنك الدولي” وغيره، واللّجوء إلى الأُمم المتّحدة لردِّ مَظْلمةٍ أو لتحصيلِ غُنْمٍ، أو استغلال القوى الكبرى لبعض المؤسّسات والاتّفاقات الدولية لمصلحتها… مثالاً)، أو أن تُحيِّد بعض آثارها السلبية عليها.

ولم تكُنِ العولمة- وهي آليّةُ التوحيد القسري المندفعَة إلى ذلك اندفاعاً غير مسبوق في الشدّة والوتيرة والإيقاع- لتُغيِّرَ كثيراً من حقائق هذه القدرة الاستثنائية للدولة القومية على التكيُّف مع ضغط نقائضها؛ ففي ظلّ العولمةِ نفسِها ما زالت تلك الدولة تُبدي أشكالاً من المُقاوَمة مختلفة، للحدّ من آثار العولمة على وجودها، بل ما زال في وسعها أن تستوعب الكثير من معطيات تلك العولمة لتغذية وجودها.

سبق أن عرّفنا العولمة، في دراسة منشورة (العولمة والمُمانَعة،منتدى المَعارف،2011)، بأنّها الأمْرَكَة. وقصدنا بهذا التعريف، أو بهذه المُماهاة بين العولميّ والأميركيّ، التنبيه إلى الكيفيّة التي تتغذّى بها القوّة الاستراتيجية الأميركية في مناحيها كافّة (العلمية، التِّقانية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والمعلوماتية، والإعلامية…)، من حقائق العولمة ومُنْتَجَاتها، كما إلى الكيفية التي تصبح بها العولمة، نفسُها، حاملاً رئيساً من حوامل النفوذ الأميركي في العالم كلّه.

لا ينبغي، ابتداءً، أن ننسى أنّ العولمة، بما هي زحفٌ واقتحامٌ واستباحةٌ غيرُ مأذونة للسيادات،هي من النتائج الموضوعية لعمليّات التراكُم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي المتحقّقة داخل الدولة/الدول القومية الكبرى في العالَم (=الولايات المتّحدة الأميركية واليابان وألمانيا بخاصّة). ومعنى ذلك أنّها ثمرةُ “فيْضِ القوّة” في هذه الدول القومية. وعلى هذا، فإنّ مَنْشَأَها القومي يجعلها، بمعنى ما، في عداد الوسائل التي تُجدّد بها دولُ المصدر (=التي أَنتجت العولمة) قدرتَها الاستراتيجية وهيمنتَها على العالَم. وإذا كانت العولمة، بالتعريف، هي توحيد الأسواق والتشريعات المالية والتجارية الدولية، وتوحيد السياسات والأذواق والمعايير توحيداً قسريّاً، فإنّ هذا التوحيد يجري بقوَّة الإرغام السياسي الذي تمتلكه القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتّحدة الأميركية، وأحياناً بقوّة الاختراق التكنولوجي عبر العالَم وشبكة المعلومات، من دون أن نتجاهل التهديد باستعمال القوّة في أحايين أخرى! وهذا يبرِّر ذهاب كثيرٍ من الباحثين (= سمير أمين مثلاً) إلى الحديث عن نشوء ظاهرة عسْكَرة العَولمة.

نتأدّى من ذلك إلى استنتاجٍ مفادُه أنّ العولمة ليست، بالضرورة، نفياً للقوميات وللكيانات القومية، على الرّغم من شدّة وطأتها على الكيانات الصغرى مثل كياناتنا العربية ونظيراتها من دول الجنوب أو “العالَم الثالث”. وآيُ ذلك أنّ الدول القومية الكبرى، المنتِجة للعولمة (أمريكا، أوروبا، اليابان، الصين، روسيا، الهند…) تتغذّى في مراكمة أسباب قوّتها، من آليات العولمة وما تفتحه أمامها من فرص النفوذ والهيمنة؛ كما أنّ الدول القومية الصغرى،المستهلكة للعَولمة، تجد في بعض آليّات العولمة ما تغذّي به قدرَتَها على المقاوَمة والتحصين الذاتي والتكيّف.

نستطيع الإفاضةَ والتنفيل في بيان حُجِّية ما ذهبنا إليه من أنّ ديناميات التَّعوْلُم، الجارية اليوم على أوسعِ نطاق، لم تَنَل من قدرة الكَيانيّة القومية على البقاء والاستمرار ولم تفرض على هذه الكَيانيّة القومية أحكاماً كونية تتجاوزها. ويُمكننا أن نسوق، في هذا المعرض، ما لا حصْر له من الأمثلة الدالّة على ذلك، نكتفي منها- فضلاً عن المثال السابق (=الأمْرَكة)- بثلاثة أمثلة:

أوّلها أميركي؛ ترفض الولايات المتّحدة الأميركية، رفضاً قاطعاً، الاعتراف بمحكمة الجنايات الدولية؛ وهي واحدة من المؤسسات القضائية الدولية (=العَولمية). والسبب! لا تريد أميركا لجنودها وضبّاطها أن يُحاكَموا خارج إطار القضاء الأميركي، فالقوانين القومية (=الأميركية) عندها هي المرجع لا القوانين الدولية. وهي في سبيل حفْظ مرجعية قوانينها القومية لا تُلقي بالاً للانتقادات الدولية لها واحتجاجات منظّمات حقوق الإنسان في العالَم! وهكذا فإنّ القوّةَ الأكثر انغماراً في العولمة وإنتاجاً لمعطياتها هي، في الوقت عينه، الأكثر تمسُّكاً بمرجعية إطارها القومي وممانَعةً لمساس مفاعيل العولمة بتوازنات داخلها القومي.

وثانيها أميركيٌّ أيضاً؛ يقضي الاتّفاق الموقَّع بين منظّمة الأُمم المتّحدة والولايات المتّحدة الأميركية- دولة المقرّ- بضمان التسهيلات اللّازمة،من الأخيرة، لتمكين مُمثّلي الدول ووفودها من دخول الأراضي الأميركية لحضور أشغال الجمعية العامّة أو مجلس الأمن أو المنظّمات الفرعية للأُمم المتّحدة حين انعقادها في نيويورك. لكنّ الولايات المتحدة لا تلتزم باتّفاقٍ دولي مثل هذا، فتمنع مَن تشاء من المُشارَكة، ومِن منحه التأشيرة، ومتى تشاء ذلك، ضاربةً بعرض الحائط القانون الدولي؛ إذ لا قانونَ عندها يعلو على قانونها: قانون الدولة القومية، الذي يحسب كثيرٌ منّا، عن طيشٍ أو خِفّة، أنّ الدهر عفا عليه، وتصرّمت صلاحيّتُه إلى الأبد أمام أحكام القانون الدولي!

وثالثها أوروبي؛ صوَّتت شعوبٌ من أوروبا-أوّلها الشعب الفرنسي- ضدّ الدستور الأوروبي الموحّد، على الرّغم من ارتضائها الاتّحادَ الأوروبي إطاراً اقتصاديّاً وتكتلاً إقليمياً- قارّياً جامِعاً، ومعنى ذلك أنّها رفضت دستوراً يُلغي السيادات القومية والدساتير القومية. ومثلها رفضت بريطانيا الدخول في الوحدة النقدية ومنطقة اليورو، محتفظةً باستقلال سيادتها المالية ومرجعيّتها النقدية (=الجنيه الإسترليني)؛ والعملةُ واحدةٌ من رموز السيادة والاستقلال القومي، قبل أن تتّخذ قرارها في العام 2016، عبر الاستفتاء الشعبي، بالانسحاب من “الاتّحاد الأوروبي” والانكفاء إلى كيانها القومي.

في هذه الأمثلة، وفي غيرها الكثير، ما يقوم به الدليل على أنّ عصر القوميّات لم يتصرَّم بعد، حتّى في المجتمعات التي حقَّقت تراكماً قومياً طويلاً مثل المجتمعات الغربية، عكس ما ظنّ الكثيرون. وهو لم يتصرَّم حتّى في ظلّ أشدّ عواصف التوحيد القسريّ الهـوجاء: العولمة. إنّ الفكرة “الأُممية” و”الكونية” ليست سوى طوبى عند الحالِمين بها من ذوي النزْعات “الإنسانية”، أمّا عند القوى الكبرى فلا تعدو أن تكون اسماً حركيّاً للدولة القومية، عند لحظةِ فيْضٍ في قوّتها، ولحظةِ تَحَفُّزٍ في التوثــُّب لتوسعةِ نفوذها، تماماً كما هي العولمةُ اسمٌ حركيٌّ للأمْرَكة كما كتبتُ يوماً.

*مفكّر وباحث من الـمغرب

المصدر: نشرة أفق

Optimized by Optimole