العمليات الخاصة الأميركية بين العسكر والاستخبارات

Spread the love

علي زياد العلي* —

يقول المؤرخ هيرودوت: “ينبغي النظر تحت كل حجر حتى لا تلسعنا العقرب”. من هذا المنطلق اتضحت أهمية عامل الاستخبارات في تدعيم وتعضيد العمليات العسكرية، خصوصاً بعد موجة التطورات التكنولوجية التي عصفت بدوائر الجهد والتكتيك العسكري، وعصر الجديد من التحديات الأمنية، حيث بدا الاعتماد على عمال الاستخبارات اكثر الحاحاً من اجل تنضيد الأهداف وتبويبها، بمبدأ (التوازن الحرج)، والذي يدور حول مؤاءمة الأهداف مع المعلومات، ومع الوسائل، حيث تمثل هذه العناصر الثلاثة المنطلق الاستراتيجية لعلاقة الاستخبارات بأجهزة العمليات الخاصة، وخصوصاً أجهزة الاستخبارات العسكرية.
فقد اصبح العالم اكثر حاجة الى نوع جديد من البدائل الاستراتيجية في مجال الامن والدفاع الاستراتيجي خصوصاً، على الصعيد الداخلي والخارجي، وهو ما حفز الى ادارة دفة الانظار الى تغيير مستوى التوجهات العسكرية نحو العلميات الخاصة، وخصوصاً للقوى الدولية الرشيدة استراتيجياً، وذات الإمكانيات العالية، حيث اقتضت الحاجة الاستراتيجية وخصوصا الأمنية منها الى التوجه نحو تنفيذ العلميات الخاصة، المدعمة استخباراتياً، ولا سيما ان عالم اليوم وطبيعة الانفتاح الشعبي بدأ ينفر من عقيدة التدخل العسكري الصلد تقليدياً. فالبعض يرى أن مجالات العمليات الخاصة تقتصر على المعالجات لمجمل الأهداف التكتيكية، والتي لا ترتقي الى مستوى الالتحام الدولي الواسع، أي معالجات عناصر بشرية ذات أهمية استراتيجية.
لكن توجهات الجيل الجديد من العقيدة العسكرية الدفاعية والاندفاعية اقتضت من القوى الدولية ذات التفاعلات الجيواستراتجيية (القافزة ما وراء الحدود)، أن تذلل اندفاعها في موجهات عسكرية مباشرة (تقليدية)، وترصد توجّهاتها نحو الدعم وتعضيد أهدافها العسكرية من خلال الارتقاء بالعمليات الخاصة نحو توسيع رقعة نشاط وفاعلية العمليات الاستراتيجية، وهو ما اقتضى تقليل دور الجيوش النظامية والانتقال في مستوى عمليات الالتحام بالخصخصة وتأجير الحروب السريعة، وبالتالي هي غاية من اجل الاندفاع بالعمليات الخاصة الى مستوى الأهداف الاستراتيجية الخارجية المنشودة.
ورغم ارتقاء توجه الاستراتيجية نحو تنشيط العمليات الخاصة، فلا تزال بعض القوى الدولية ترفع من غلبة القوات العسكرية التقليدية، على حساب توأمة الاستخبارات والعمليات الخاصة، ويرجع سبب ذلك إلى أن عقيدة هذه الدول لا تزال تعتمد على فكرة أن مجمل العمليات العسكرية والأهداف المنشودة هي رقعة حاضرة تستمد وجودها من حضورها الوجودي في ساحات الاشتباك المباشر، وتعتمد على الكمية الاستراتيجية لأجل تنفيذ الأهداف التقليدية وغير التقليدية. كما ان فعل الأدوات ومجالات الاتصالات والاستخبارات الرقمية لها حضورها في هذا المضمار خصوصاً أن الدول المتواضعة تكنولوجياً التي لا تستطيع أن ترتقي بعمليات نحو المستوى المطلوب، ترفع من مستوى العمليات التقليدية إلى نسق العمليات الخاصة، وبالتالي أضحت الاستراتيجية العسكرية الشاملة للقوى التقليدية تسلك مضامير هذا التوجه نظراً الى التكلفة المالية الكبيرة، التي ترافق الارتقاء العملياتي، وبالتالي فإن كفاءة العمليات الخاصة الاستراتيجية غالباً لا تقاس بالقدرة العملياتية التكتيكية، ولكنها تقاس بقدرة الدولة على توظيف وسائل الدعم والإسناد والاستراتيجيا التي تمتلكها وخصوصاً الجانب التكنولوجي منها.
فالعلاقة ما بين العمليات الخاصة وأجهزة الاستخبارات هي نابعة من صميم نظرية (الاعتماد المتبادل) من خلال حتمية الحاجة المتبادلة بين الكيانين، فالعمليات الخاصة لا تستطيع أن تقود جهوداً استراتيجية، من دون الانغماس والتلاحم بشكل كامل مع أجهزة الاستخبارات، ونقصد هنا أجهزة الاستخبارات العسكرية، والتي تعتمد مخرجاتها الاستخبارية على تحديد الأهداف، وتبويبها من أجل اتاحة المجال أمام دائرة العمليات الخاصة، والتي تمثل الدائرة الثانية في مجال معالجة وتنفيذ الأهداف المرسومة لها. لذا فإن أهداف الاستراتيجية العسكرية تنحصر في خندق تفاعلات أجهزة الاستخبارات الخاصة مع نسق العمليات الخاصة في دائرة الاشتباك والتلاحم المباشر مع الهداف المنشود.
لذا أضحى اعتماد القوى الدولية الرائدة في تفاعلاتها الجيو- ستراتيجية على تنظيم علاقة دوائر الاستخبارات المختلفة وخصوصاً القوى التي تعتمد على المؤسسات العسكرية الاستخباراتية اللامركزية، أي تعمتد على تفصيل مستويات العلاقة ما بين العمليات الخاصة، وأجهزة الاستخبارات، خصوصاً أن بعض الدول باتت لا تدرك حجم التأثير والتأثر بين هذه الأجهزة، حيث تجمع ما بين العمليات الخاصة وأجهزة الاستخبارات في جهاز معالجة استراتيجي، قد يتمثل في تكوينه اتحاد جهود من أكثر من دول تجتمع في جهاز استراتيجي واحد.
وبالتالي فإن فك الارتباط ما بين أجهزة الاستخبارات العسكرية مع العمليات الخاصة هي من متطلبات الريادة الاستراتيجية في تسويق نسقية الأهداف ومن ثم تحقيقه، فعالم اليوم قد يختلف بكثير عن عالم الحرب الباردة خصوصاً إذا ننظر الى ساحات تفاعلات الدول المضطربة، ومستويات التحديات الأمنية والتي تمثل سابقة نوعية في التأثير والتأثر بدوائر الاشتباك والتلاحم العسكري والاستخباراتي. فمتطلبات التفاعلات العسكرية في القرن الحادي والعشرين، اخذت تنظر الى القوات العسكرية التقليدية بعين الاشمئزاز بسبب التمظهر الجديد للقوى العسكرية المستحدثة، والتي استدانت من وجودها، نتيجة التركات السلبية التي خلفتها العمليات العسكرية التقليدية على واقع البيئة الاستراتيجية العالمية، وخاصة حروب الولايات المتحدة الأميركية في العراق وأفغانستان.

*باحث متخصص في الشؤون الدولية والاستراتيجية

Optimized by Optimole