السودان بين الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية

Spread the love

بقلم: عبد اللطيف مشرف — السودان بلد المفارقات العجيبة، فبعد استقلال السودان وانفصاله عن مصر عام 1956م بدأت السياسة السودانية تتشكل ويكون لها وجود على أرض الواقع، وتتشكل أحزاب عدة مثل حزب الأمة والحزب الشيوعي، وظهرت أيضًا جماعات عدة ذات الطابع الديني مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية، ولكن من المؤسف أنه ظهرت خلافات كبيرة بين الأطراف الثلاثة، فجعلوا السياسة السودانية على صفيح ساخن، وقابلة للتدخلات سواء الخارجية أو الداخلية.
ولعل ما يؤكد ذلك هو ما حدث من أحداث بعد استقلال السودان وتشكيل الأحزاب، ولعل أبرز هذه الأحداث هو ظهور الجيش السوداني على الساحة السياسية السودانية، حيث جرت أول محاولة انقلاب عام 1957، ثم تلا ذلك انقلاب عام 1958، تم بموجب اتفاق “حزب الأمة” ورئيس الحكومة عبد الله خليل على تسليم السلطات للفريق إبراهيم عبود، قائد الجيش في ذلك الوقت، حيث أنه استمر في السلطة بعد أن كان وصوله إليها مجرد ظرف مؤقت، وظل يحكم لمدة 6 سنوات، إلى أن أسقطته ثورة 1964م.
وجاء إسماعيل الأزهري الذي تولى الحكم عام 1965، لكن لم تدم التجربة الديموقراطية السودانية طويلاً، وقبل أن يُتِم فترة رئاسته، وتحديدًا عقب انقلاب حزيران – يونيو 1969م بقيادة العقيد أركان حرب جعفر النميري بالاتفاق مع الحزب مع قيادات الحزب الشيوعي، وقبض على رئيس الجمهورية، وأسس حزب “الاتحاد الاشتراكي السوداني” كحزب وحيد في البلاد، حيث استمر في حكم السودان لفترة دامت أكثر من ست سنوات.
كان في هذه الفترة يقود الحركة الإسلامية الأستاذ الجامعي في كلية الحقوق الحاصل على الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون الفرنسية حسن الترابي، حيث كان يؤمن بفكرة التأني والتدرج في الوصول إلى الحكم. وبالفعل استغلت الحركة الإسلامية سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وتدهور قيمة العملة السودانية، وذلك بسبب الحروب الأهلية في السودان، فقامت الحركة الإسلامية باحتجاجات كبيرة في السودان، مستغلة بذلك وجود النميري خارج البلاد، حتى أن عاد تم نفيه خارج البلاد مرة آخري، وتولى المجلس العسكري بقيادة عبد الرحمن سوار الذهب إدارة المشهد السياسي خلال فترة انتقالية استمرت لمدة عام كامل، إلى أن وصل الحكم أول رئيس مدني اسمه أحمد المرغني. وحينها قرر حسن الترابي الانفصال عن الإخوان المسلمين وتأسيس “الجبهة القومية الإسلامية” التي حازت المركز الثالث في الانتخابات النيابية عام 1986، وشارك على إثر ذلك في حكومة ائتلافية برئاسة صهره الصادق المهدي رئيس “حزب الأمة” الذي كان رئيس الحكومة أيضًا في عهد النميري قبل قيام الثورة الشعبية ضده.

ولكن الرئيس أحمد المرغني قد عمل على تهميش الإسلاميين، مما جعل الترابي يخطط لانقلاب ناعم على السلطة المدنية، وذلك بالاتفاق مع بعض العسكريين الذين لديهم خلفية إسلامية، وموزعين على مناصب مختلفة في الجيش، وكان أعلاهم رتبة العقيد الركن آنذاك عمر البشير.
وفي يوم 29 حزيران – يونيو 1989، اُستدعي هؤلاء العسكر رجال “الجبهة القومية الإسلامية” داخل الجيش، وكانت هذه المرة الأولى التي يرى فيها الترابي العقيد عمر البشير، وعرف البشير أنه سيقرأ البيان الأول عشية الانقلاب فقط، وكانت مقومات البشير للقيادة تتمثل في كونه أعلى رتبة عسكرية بين زملائه، وقد تم تنفيذ المطلوب منهم.
نُفِّذ الانقلاب وسط اقتصاد معطل وعجز عن إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب، وقاد البشير انقلابًا عسكريًا ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة، وأعلن بعدها نفسه رئيسًا لمجلس ثوري “مجلس قيادة الإنقاذ الوطني”، وُصف بأنه مؤقت، وزج بالقيادات السياسية الإسلامية في السجن، وعلى رأسهم صادق المهدي والترابي نفسه، وذلك بالاتفاق معهم حتى لا ينكشف أنهم وراء الانقلاب.
وبعد أن اعترفت دول العالم بالانقلاب، خرج الترابي وقادة الأحزاب في شكل مصالحة وطنية، واكتفى في البداية بإدارة سياسة الدولة من خلف الستار من خلال تلاميذه، ثم قرر الظهور إلى الواجهة بتأسيس “حزب المؤتمر الوطني” ثم رئاسة البرلمان “المجلس الوطني” عام 1996، وبدأت خيوط اللعبة تتكشف بعد السيطرة الكاملة للإسلاميين، وتكشَّف الوجه الإسلامي للانقلاب.

بدأ البشير نفسه يرفض تدخلات الترابي الذي لاحظ توحش البشير في السلطة، وتأرجحت علاقة البشير مع الإسلاميين بين تحالف وصراع وصل ذروته في حل البرلمان، وكان السبب مطالبة الترابي في البرلمان السوداني عام 1999 بتقليل وتخفيض صلاحيات رئيس الجمهورية عمر البشير، وكانت هذه اللحظة الفارقة، لينتهي شهر العسل بينهما في مساء 12 كانون الأول – ديسمبر 1999، حيث خرج البشير ليعلن استكمال انقلابه بالإطاحة بالترابي، حيث استعان البشير بالكثير من تلاميذ الترابي داخل الجيش السوداني الذين رأوا مصلحتهم مع البشير.
انفرد البشير بالحكم وعلَّق الدستور وحلّ البرلمان والأحزاب السياسية وفرض أحكام الطوارئ وأعلن حظر التجوال، وعيَّن نفسه رئيسًا مدنيًا، معلنًا حكومة إسلامية، وصار حاكم أكبر دولة إسلامية حينها وإحدى أفقرها أيضًا، وظل في الحكم لمدة 30 عاماً حتى تم الانقلاب عليه أيضًا من أقرب الضباط المقربين إليه، وشرب من نفس الكأس الذي سقاه للترابي والإسلاميين، وكأنها آبار من الخيانة كتبت على السودانيين، ومكر للثعالب في بلد الشعب الطيب.
ولكن ماذا قدم البشير للسودانيين خلال فترة حكمه الطويلة، غير أزمات اقتصادية متتالية، وقضايا عرقية ومذهبية، مما أدت إلى تقسيم السودان، وانفصال الجنوب عنه عام 2011م، مما زاد من معاناة السودان اقتصاديًا، حيث تقاسمت هذه الدولة الناشئة الكثير من الموارد الحيوية كالبترول وغيره، وفي فترة البشير حاصرت أميركا السودان اقتصادياً، وفرضت عقوبات قاسية من الإدارات الأميركية المتتابعة، وذلك بسبب اتهام واشنطن للسودان بدعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار الإقليمي وانتهاك حقوق الإنسان ومنع الحريات الدينية. وأدرجت واشنطن السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ردًا على استضافته زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن عام 1991، قبل أن يغادر الخرطوم عام 1996، تحت وطأة ضغوط أميركية على الخرطوم، مما أثر على السودان وجعلها من الدول الفقيرة في كل شيء، حتى حقوق الإنسان، وغلاء الأسعار، مما جعل الشعب السوداني ينفجر ويقوم بثورة جديدة، وبتصميم وإرادة لعزل البشير.
وقد استمرت هذه الثورة أكثر من ثلاث شهور، في ظل صمت عالمي غريب سواء من الشرق أو الغرب، ولم يغطِ أحداث ثورتهم إلا القليل من القنوات، وأيضًا ساد صمت على مستوى الدول، وذلك لوجود العديد من المصالح المشتركة بين نظام البشير والكثير من الدول، وخصوصًا في المجال الزراعي الذي يمثل قضية أمن غذائي لكثير من تلك الدول التي فضّلت الصمت والمشاهدة فقط لما يحدث، بل وغض النظر عن قتل البشير للعديد من الشباب السوداني خلال تلك التظاهرات الأخيرة.
وأسفرت تلك التظاهرات عن عزل البشير إثر انقلاب عسكري عليه، وذلك عقب ازدياد وتيرة التظاهرات ووصولها إلى القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، مما اضطر الجيش إلى إعلان مجلس عسكري انتقالي يحكم السودان ويمنع البشير من المغادرة ويعفيه من منصبه. ثم أعلن وزير الدفاع عوض بن عوف عن تنحيه عن رئاسة المجلس العسكري وتولي عبد الفتاح البرهان الرئاسة.
ولكن يبقى السؤال لماذا تنازل عوض بن عوف عن منصبه؟
من الواضح جدًا أن البشير والمؤسسة العسكرية تتلاعب بالثوار، وأن ما يحدث عبارة عن صفقة في مقابل الحماية للجميع من الغضب الشعبي وعدم تسليم البشير إلى المحكمة الدولية، وعوض بن عوف ليس بطلاً بل إنه مثل البشير مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، ومغضوب عليه شعبياً ومرفوض من الشارع السوداني والرأي العام العالمي، مما يضع المؤسسة العسكرية في حيز الضيق داخلياً وخارجيا، فخرج وكأنه حامي الحمي، بل ومشبهًا نفسه بسوار الذهب حتى يكسب تعاطف الجماهير. ولكن كان رد الفعل الشعبي والوعي أكبر بكثير مما تخيل، فلجأوا إلى الحل البديل هو عبدالفتاح البرهان وهو شخصية ليس لها خلفية تاريخية عسكرية أو لديها الثقل الشعبي أو الدولي، فيسهل السيطرة عليها كما يظنوا.
ولكن لي رأي مخالف، فالفريق أول عبد الفتاح البرهان سيعجب بالمنصب والسلطة، وسينقلب على الجميع ويضحي بهم، وسيشربون من نفس بئر الخيانة للثورة السودانية السابقة، فسيشرب البشير من نفس الكأس وسينقلب عليه عبد الفتاح. فعلى الشعب السوداني أن يعي لذلك ولا يتحرك من الشارع حتى عودة السياسة لرجال السياسة، وتشكيل مجلس مدني وليس عسكري، وإلا سيحكمهم عبد الفتاح أكثر من 30 عاماً وتضيع ثورتهم كما حدث في الدول المجاورة، وليعلموا أنه لا تتقدم دولة تحت حكم عسكري ولو ساعة.

عبد اللطيف مشرف باحث دكتوراه في جامعة أولداغ في تركيا.

Optimized by Optimole