أزمة ثقة!

Spread the love

بقلم د. صلاح عثمان – أستاذ المنطق وفلسفة العلم في جامعة المنوفية المصرية –

لا تأخذ الأمر على محملٍ شخصي؛ فحين يتعلق الأمر بالمرض والموت، يتلاشى الاهتمام بما إذا كنت صديقي أو قريبي أو جاري أو شخصًا غريبًا عني؛ لا تعنيني الآن هويتك أو علمك أو سياستك، ولا يشغلني أين أو ماذا تعمل، أو ما إذا كنت تعمل أصلاً، ولا يختلف الأمر عندي سواء أكنت ترتدي قناعًا أو تحمل مسدسًا أو تُمسك قلمًا!
في الوقت الحالي، أنا لا أثق بك؛ فأنت بالنسبة لي حاملٌ محتملٌ لفيروس قاتل!
ليست لديك أية أعراض؟!
حسنًا، ربما كنت من أولئك الذين لا تظهر عليهم أعراض المرض!
أرني نتائج فحوصاتك السلبية وستظل الشكوك تساورني، فأنا لا أعرف حالتك الصحية وحالة مُخالطيك خلال الفترة ما بين إجراء الفحوصات وتلقي النتائج، كما أنني لا أثق في دقة الفحص وسلامة نتائجه!
بصراحة، لا يجب أن تثق بي للأسباب ذاتها! أنا لست متأكدًا حتى من أنني أستطيع الوثوق بنفسي؛ ألم ألمس وجهي في السوبر ماركت بعد جس هذه المعلبات والمعروضات التي جسَّها مئاتٌ غيري؟ ألم أحك أنفي دون قصد بعد أن وضعت في جيبي تلك النقود التي تناقلتها مئات الأيدي؟ نعم، أنا أتعلم التعايش مع هذا الشك؛ أحافظ على تعليمات التباعد الاجتماعي تجاه الآخرين، أرتدي كمامتي وأغسل يدي بالماء والصابون، أتجنب أماكن التجمعات، أطهر يدي ووجهي وأشيائي دومًا بالكحول، لكن الناس لا يبالون، أو بالأحرى لا يفقهون، وولاة الأمر لا تعنيهم حياتي أو حياة غيري ممن يمثلون عبئًا على خزائن الوطن وحساباتهم البنكية، وعملي يستلزم تواجدي بأمر من أربابه، وعرقي يتصبب داخل كمامتي ويملأ فمي؛ الشك يقتلني، وكوابيسي تُغادر نومي وتحتل يقظتي مع أول خطوة أخطوها خارج بيتي!
أعداد المُصابين تتناقص يوميًا وفقًا لبيانات وزارة الصحة؟!
وهل تثق في هذه البيانات؟ هل تستطيع الجزم بأنها بيانات طبية وليست سياسية بامتياز؟ وعلى الإجمال، هل أنت من المُصدقين للتصريحات والبيانات الإعلامية كأولئك الدهماء الذين يُصدقون أن تجربة التعليم عن بُعد قد نجحت أو ستنجح في وطنٍ يُعاند بالفساد والفشل أي تصنيف تعليمي دولي؟ أو كأولئك البُسطاء الذين يُصدقون كوميديا الثانوية العامة ويُهنئون بعضهم البعض على عبقريات تتجلى في ضخامة الدرجات؟ أو كأولئك الدهماء الذين يصدقون أننا في حاجة ماسة لمجلسٍ للشورى كي يُراقب ويُشرع، أو يُصدقون بأن من يُخرجون فوائض أموالهم ويقيمون الولائم ويخوضون لُعبة الانتخابات بكل قواعدها الغثة المألوفة هم أناس يهيمون في الوطن عشقًا ويرغبون في – أو حتى يملكون – العطاء!
ما كان العصفور ليبني عُشه لو لم تكن لديه ثقة كاملة في البيئة المحيطة به، فما بالك بعالمٍ بأكمله تتهاوى فيه الثقة بين الفرد ونفسه، وبين الفرد والمجتمع، وبين الشعوب والحكومات، وبين الدول وبعضها البعض، لا بسبب الفيروس، بل لأسبابٍ كشف عنها الفيروس وهو بريء منها: الجهل، الوعي المُشوَّه، تأليه رأس المال، الفساد المؤسسي، التصنيف الطبقي، النزوع إلى السُلطة، المظهرية الكاذبة، انعدام العدالة الاجتماعية، … إلخ. جاء الفيروس التاجي في البداية مُعلنًا عن واحدية التهديد للنوع البشري، لكنه سرعان ما تحول إلى قوة مُضاعفة لتغذية نعرات الهيمنة والتفوق، وهدم جُدُر الثقة في العلاقات الإنسانية الفردية والدولية، وما بين ليلة وضُحاها تعرت حكومات أغلب دول العالم وانكشفت عوراتها التي جاهدت لسترها بالإعلام ردحًا طويلاً من الزمن، وأدركت الشعوب أن حكوماتها غير قادرة على الوفاء بأهم مهامها: حماية حياة مواطنيها، وبناء بنية تحتية صلبة يمكنها تحمل الأز مات، وتلبية الحاجات التعليمية والصحية والوظيفية بالبرامج البديلة الناجعة، وترتيب الأولويات على المدى القريب والبعيد!
ليس ذلك فحسب، بل لقد عدَّ القوميون فيروس كوفيد-19 بمثابة هبة إلهية لتبرير التوسع في تحصين الحدود وقطع قنوات الاتصال المباشر بين معارضيهم والعالم الخارجي بُحجة الحفاظ على الأمن القومي، أو لمنع تسلل المهاجرين غير الشرعيين والمُخربين! كانت إسرائيل رائدة في هذا الصدد منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي بإغلاقها لقطاع غزة، ثم بناء جدار عازل بلغ طوله 440 ميلاً قبالة الضفة الغربية سنة 2000. وفي سنة 2015 أقامت المجر حاجزًا من الأسلاك الشائكة، يصل طوله إلى 155 كيلومتر وبارتفاع ثلاثة أمتار، لمنع تدفق اللاجئين السوريين من صربيا وكرواتيا المجاورتين، كما فعلت بلغاريا واليونان وسلوفينيا وكرواتيا الشيء ذاته. كذلك شرعت الهند في بناء جدار عازل على الخط الفاصل في كشمير، وقامت المملكة العربية السعودية ببناء حاجز بطول 600 ميل على طول حدودها مع العراق، مدعوما بأبراج مراقبة، وأسلاك شائكة، وكاميرات حرارية، ورادارات، وفرق تدخل سريع. ومن جانبها بدأت مصر مؤخرًا في بناء جدار عازل على طول الخط الفاصل مع قطاع غزة، يمتد لمسافة 60 كيلومتر ويصل ارتفاعه إلى ستة أمتار، لتعزيز الأمن على حدودها الشرقية، بينما أعلنت إسرائيل في يونيو الماضي أنها تعتزم بناء جدار زكي مع قطاع غزة، يعتمد على الروبوتات والحوامات والرادارات وأنظمة الرصد والمراقبة المتطورة، على مسافة تتراوح ما بين خمسة وعشرة كيلومترات!
وفقًا لدراسة أجراها كل من «أينهوا رويز بنديكتو» Ainhoa Ruiz Benedicto و«بيري برونيه» Pere Brunet سنة 2018 تحت عنوان «بناء الجدران: الخوف والتوريق المصرفي في الاتحاد الأوروبي» Building walls: Fear and securitization in the European Union كانت الدول الأوروبية حتى أواخر سنة 2018 قد رفعت أكثر من ألف كيلومتر من الجدران والأسلاك الشائكة والعوائق عند حدودها منذ سقوط جدار برلين في 1989، حيث كان عدد الجدران العازلة لا يتجاوز عشرة جدران رئيسة تفصل بين الدول، بما فيها جدار برلين، لكن العدد ارتفع اليوم إلى ما يزيد عن سبعين جدارًا. كما أشار الباحثان أيضًا إلى أنواع عدة من الحواجز بعضها غير مادي، على غرار الرقابة الشديدة التي تفرضها دول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا على الطرق البحرية في المتوسط لمنع اقتراب قوارب اللاجئين من شواطئها. ولا يغيب عن الانتباه أن أكثرية ساحقة من الدول التي شرعت في بناء الجدران واتخاذ تدابير زاجرة للاجئين، باتت تحكمها أحزاب اليمين المتطرف، خصوصا إيطاليا والمجر، في حين أن دولاً أكثر تمسكًا بالسياسات الأوروبية مثل اليونان وكرواتيا، تبرر خطواتها بضخامة الأعباء التي حملتها موجات اللاجئين في السنوات الأخيرة.
لم تكن جائحة كورونا سببًا ضروريًا لانعدام الثقة، لكنها كانت وما زالت سببًا كافيًا لفضحها؛ لنزع الغطاء عن مخزون ضخم من الكراهية والخوف والعداء والشك والنرجسية، وللبرهنة على أن فكرة الحد أو الجدار العازل ليست فقط توجهًا قوميًا تغلب عليه طموحات التحكم والرقابة الكاملة، بل هي أيضًا نزوعٌ فردي تموج به كافة علاقات البشر، وتتجلى في السعي الدائم لاستبعاد الآخر الأقل حظًا أو قوة أو وقاحة، أو لتصفية الآخر المختلف دينًا أو فكرًا، إلا ما رحم ربي! وقد أثبتت العولمة أنها لم تكن سوى غطاء لتمرير الصفقات، ورسملة العالم، واستقطاب الموارد، وتذويب الثقافات، واستلهام حدود جديدة بين البشر أشد بأسًا وتمكينًا!
الثقة هي الوقود الذي يُغذي بنية العالم كقوميات ومؤسسات تسعى إلى التعايش السلمي، ويُغذي الدولة ككيان يجمع بين نظامٍ حاكمٍ ومحكومين، ويُغذي كافة علاقاتنا الإنسانية كعلاقات القرابة والجيرة والصداقة والوظيفة وغيرها، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث إذا ما انسكب هذا الوقود أو خرج عن مساره الطبيعي؛ أشعل فتيلاً صغيرًا – عمدًا أو عن غير عمدٍ – وسيحترق العالم بأكمله!
كانت صورة المستقبل تبدو ضبابية حتى وقت قريب، لكنها باتت الآن قاتمة ومفزعة بوضوح، لاسيما في ظل توقعات جادة – تقترب من حد اليقين – بهجمات فيروسية ومُناخية واقتصادية أشد بأسًا وتدميرًا من فيروس كوفيد-19، وتغييرات قسرية في عالمنا العربي المُكبل بمعوقات التيه الحضاري المُتسع. ولئن كانت كمية من نترات الأمونيوم – أيًا كان حجمها – مُخزنة لسنوات قد أدت إلى انفجار بيروت المُروع، فما بالك بتلك الكميات الضخمة المُخزنة عمدًا، ولعقود، في بلادنا العربية، من الفساد والتخلف والجهل والفقر والمرض؟ … ويل للعرب من شرٍ قد اقترب!

Optimized by Optimole