هل كان العثمانيون غزاة أم فاتحين؟

Spread the love

بقلم: عبداللطيف مشرف* — كانت الدولة العثمانية مصب اهتمامها الغرب، وزعمت أنها تريد التوسع لنشر الإسلام، ونجحت بالفعل في ضم العديد من الدول الأوروبية، وكانت مطمئنة إلى الشرق المسلم، لوجود قوة تحميه، وثقتها في العرب وحضارتهم أنذاك، وأمان المقدسات. ولكن عندما ضعف الشرق الذي كان حينذاك يسيطر عليه المماليك، وكان نفوذ المماليك يشمل مصر والشام والحجاز، وبعد ضرب اقتصاد الشرق عن طريق رأس الرجاء الصالح عن طريق البرتغاليين، وضعفت الدولة، بل تجرأ الغرب وهدد مقدسات المسلمين فى الحجاز، وانشغل المماليك في صراعاتهم على السلطة، فحسم السلطان سليم الأول الأمر، فترك الفتوحات في الغرب وبدأ في التوجه لإنقاذ الشرق وحماية المقدسات، عندما طال التهديد من الغرب، فبدأ في التوجه إلى الشرق، وبسط السيطرة على المماليك، الذين رفضوا مساعدته في حروبه ضد الدولة الصفوية.

يرتبط فتح مصر ارتباطاً وثيقاً بفتح الشام وذلك لأن مصر والشام كانتا خاضعتين للدولة المملوكية، وعندما أراد العثمانيون ضم مصر والشام كان عليهم إخضاع الدولة المملوكية، فكانت شرارة الحرب بين العثمانيين والمماليك، وبالفعل اشتعلت الحرب بين العثمانيين والمماليك فزحف السلطان سليم على الشام، ونجح في كسب بعض أعوان الغوري {الوالي المملوكي للشام} مثل خاير بك نائب السلطان في حلب وجان بردي الغزالي نائبه في حماه. وبعد توافق العثمانيين مع بعض أعوان الغوري واستعمال الجيش العثماني للمدفعية الثقيلة انهزمت القوات المملوكية في مرج دابق 1516م وفيها قتل قنصوه الغوري.
وبعد ذلك دخل السلطان سليم حلب وانحاز إليه الخليفة العباسي المتوكل على الله مما شجع السلطان على مواصلة الزحف إلى مصر، وأخذت بقية مدن الشام تسقط تباعاً في يده متجهاً صوب مصر.
وفي مصر أنزل السلطان سليم الهزيمة بالسلطان المملوكي الجديد طومان باي عند الريدانية في صحراء العباسية في 23 كانون الثاني/ يناير 1517م، ودخل العثمانيون القاهرة، وخطب السلطان سليم في مساجدها. وبعد دخول القاهرة أبدى طومان باي ومن التف حوله من المماليك والعرب وأفراد الشعب مقاومة للعثمانيين سواء في القاهرة ذاتها، أو في الصعيد، ومع ذلك كان النصر في النهاية حليف العثمانيين وقبض على طومان باي. وكان سليم معجباً به وبشجاعته لدرجة أنه فكر في الإبقاء على حياته لولا أن خاير بك وجان بردي الغزالي أثارا مخاوفه من احتمال قيام طومان باي بثورة في مصر تؤدي إلى طرد العثمانيين فأعدم شنقاً على باب زويلة في 23 نيسان/ أبريل 1517م. وبذلك أصبحت الشام ومصر من الممتلكات العثمانية وعين سليم جان بردي الغزالي والياً على الشام وخاير بك والياً على مصر فكان ثاني والي من قبل العثمانيين إذ تولاها قبله ولفترة قصيرة يونس باشا العثماني.” (أنظر: د. علي الصلابي، تاريخ الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. إسماعيل أحمد ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الأسلامي، العبيكان للنشر والتوزيع”.
يمثل توصيف دخول العثمانيين البلاد العربية، بالغزو أو الفتح، أيديولوجيا بحتة، فمؤيدو الدولة العثمانية يطلقون على ذلك لقب فتح، بينما معارضوها يصفونه بالغزو، رغم أن كلمة غازٍ في اللغة العثمانية لقب فخم، فهو يشير إلى أنه “لا توجد مشكلة بين غزو وفتح، لكن التوصيف يخضع للتوظيف السياسي”.
والفرق بين الغزو والفتح بحسب منظري التاريخ الإسلامي، أن الغزو يستعمل في حال هجوم دولة غير مسلمة أو معتدية على دولة إسلامية بغير رضى أهلها كالغزو المغولي (التتري) والغزو الصليبي. أما بالنسبة للفتح فهو تحرير الشعوب المقهورة من حكم غير المسلم أو الظلمة ونشر العدل فيها. لكن الأمر في النتيجة سيّان فنادراً ما تجد دولة أو شعباً قبل غزوه أو طالب به.
ويبنغي أن تظل الحقبة العثمانية محل الدراسات التاريخية، وألا ينتقل تأثيرها إلى الحاضر، فالخلافة العثمانية سقطت، وعودتها من المحال، فالماضي لا يعود، وبينما العالم يتجاوز حروبه وخلافاته مثلما حدث بين ألمانيا وفرنسا، فإن بعض العرب ما زالوا يحقدون على الأتراك نتيجة التراكمات التاريخية للغزو والاحتلال العثمانيين لبلادهم.
لكل سياسة في الكون إيجابيات، وسلبيات، وكل دولة لها ما لها وما عليها، فالدولة العثمانية دولة ولها سياسة، وبالتالي لها أوقات ضعف وأوقات قوة، لها صلاح وفي بعض الجوانب تقصير وفساد، ولكنها – في نظر مؤيديها – قد قدمت الكثير للإسلام من فتوحات ونشر وإعلاء لكلمة الله، وحاربت الغرب، وقامت بالدفاع عن الشرق والمقدسات من تهديد الغرب وخاصة بعد التهديد المباشر من البرتغال لقطع طرق الحج في البحر الأحمر على الحجاح المسلمين. فكانت هذه الدولة حائط صد منيع وخط فاصل بين الغرب وهجماته ضد الشرق والسيطرة عليه.
فالمؤرخ المنصف يقيس الأحداث والمسميات بحسب مقاييس عصرها وزمنها وأحداثها، لا بمقاييس عصره الذي يعيشه، وهواه وسياسته وفكره. ففي ذلك الوقت كان هناك صراع قوى عالمية وتوسع غربي اتجاه الشرق للإستيلاء على خيراته، وكان البقاء والسيطرة لقوي، فجاءت الخلافة العثمانية لتكون حائط صد منيع ضد هذا التوسع الغربي، وتكون الصخرة التي تحطمت عليها أحلام الغرب في السيطرة علي الشرق وثرواته ومقدساته. وقد ظلت مصر مؤمنة بوحدة العالم الإسلامي حتى بداية القرن العشرين، وذلك يتضح في موقف مصطفى كامل ورفضه الانفصال عن الخلافة العثمانية.
ويزعم بعض المؤرخين أن السلطنة العثمانية قد غزت مصر والشام بناءً على طلب العلماء والصلحاء من أهلها لأن حكامها المماليك ظاهروا النصارى على المسلمين وخانوا العهود مع السلطنة العثمانية وحاول إسقاطها بل وظلموا الشعوب وأخذوا مالهم وسيطروا على الخلافة وكانوا سبباً مباشراً لعدم نصرة العثمانيين لمسلمي الأندلس، وانشغل المماليك بالقتال فيما بينهم والصراع على السلطة، إضافة إلى مهادنتهم للدولة الصفوية أيام حربها مع العثمانيين.
قال عبد الله بن رضوان في كتابه “تاريخ مص” (مخطوط رقم 4971 في مكتبة بايزيد في اسطنبول): “إن علماء مصر -وهم نبض الشعب المصري وممثلوه- يلتقون سرّا ً بكل سفير عثماني يأتي إلى مصر، ويقصون عليه شكواهم من جور الغوري ويقولون له بأن الغوري يخالف الشرع الشريف، ويستنهضون عدالة السلطان العثماني لكي يأتي ويأخذ مصر”.
وقال يانسكي في كتابه عن السلطان سليم الأول: “إن علماء مصر كانوا يراسلون السلطان سليم الأول منذ بداية توليه عرش بلاده، لكي يقدم إلى مصر على رأس جيشه، ليستولي عليها، ويطرد منها الجراكسة (المماليك)”.
أما عن الجانب الشامي من المشرق العربي، فإننا بعض الشعب السوري قد رحب بمقدم العثمانيين. وعلى سبيل المثال، كان الغوري قد تحرك من مصر – بجيوشه- إلى الشام لملاقاة العثمانيين، وعند دخوله إلى حلب، فوجئ الغوري وجيوشه بأن الأهالي هناك لقنوا أطفالهم صيحة: ( ينصرك الله العظيم يا سلطان سليم).
ويزعم البعض أن السلطان العثماني لم يخرج لفتح مصر والشام إلا بعد أن ألحت عليه رسائل علماء مصر والشام، وبعد أن استفتى علماء بلده في هذا الفتح. ومعروف أن هؤلاء العلماء هم وعاظ السلاطين ويأتمرون بأمر السلطان، ففتواهم ليست حجة لغزو دول مسلمة أخرى وقتل شعوبها.
ويزعم هؤلاء أنه بدا للعثمانيين تقصير دولة المماليك في حماية البحر الأحمر واليمن من أساطيل البرتغاليين وغاراتهم. ويتضح ذلك بهزيمة الأسطول المملوكي رغم مساندة العثمانيين لهم في معركة ديو البحرية عام 1509م على سواحل الهند، فكان أمراً ينذر بسقوط الشرق في يد الغرب إذ لم تكن هناك دولة قوية تحمي المقدسات والشرق من تلك الهجمات المتكررة من الغرب.
هل كان دخول العثمانيين بلاد العرب منذ 500 عام غزواً أم فتحاً؟ وهل الحقبة التي استمرت فيها معظم البلدان العربية تحت الحكم العثماني أربعة قرون احتلالاً أجنبياً أم وحدة تحت راية دولة الخلافة؟ وهل كان العثمانيون سبباً في تخلف العرب أم أسهموا في نهضة وعمران المدن العربية؟
هذه الأسئلة وغيرها حول الحقبة العثمانية في بلاد العرب ليست بالجديدة، لكن الجدل حولها ما أن يخمد حتى يتجدد منتقلاً من ساحة التاريخ إلى ساحات الدين والسياسة.
*باحث مصري.

Optimized by Optimole