في مئوية جمال عبد الناصر .. جردة حساب

Spread the love

بقلم: عبد المنعم علي عيسى — يروي الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل أن الفريق الركن العراقي اسماعيل صفوت، الذي تم تعيينه قائداً للقوات العربية في فلسطين، كان في صباح أحد الأيام وبينما هو عائد من درس الرياضة الصباحي ليلتحق باجتماع هام لمناقشة المعركة وخططها، قد تصادف مع تجمع لأناس كبير فاقترب منه وعندها وجد في الوسط لاعبي الورق المهرة الذين يتقنون اللعب بالوريقات الثلاث (إثنان حمر والثالثة سوداء أو العكس) فانبهر باللعبة ثم قرر المشاركة فيها. وفي غضون دقائق كان الفريق قد خسر كل ما في جيبه من مال (والبالغ ما يقرب من ثمانين جنيهاً مصرياً)، ولم ينقضِ الأمر عند تلك النقطة فقد دخل الفريق في شجار مع هؤلاء متهماً إياهم بالغش وانتهى الأمر بالجميع الى قسم الشرطة، وضاع الاجتماع
لربما كانت هذه الحادثة الأخيرة كافيه لتختصر حال القيادات العربية عشية ضياع فلسطين، فهي كانت تمارس الدور الذي يبقيها في سدة السلطة داخلياً، والمطلوب منها خارجياً، في حين أن الاثنين كانا يلتقيان في نقطة مشتركة هي كبح جماح الروح القومية العربية التي كانت ٱخذة بالتبلور انطلاقاً من الاحداث التي كانت تشهدها فلسطين ووقوف الأنظمة العربية عاجزة عن فعل أي شيؤ يذكر، تلك الروح بدت كأنها تهدد بقاء تلك الأنظمة في سدة السلطة. أما الإملاء الخارجي فقد كان يصل الى حدود الإمساك بصناعة القرار السياسي لتلك الأنظمة.
يروي العقيد صلاح البزري أن وزير الدفاع السوري أحمد الشراباتي (1946-1948) كان قد أصدر قبيل المعركة المرتقبة بأسبوع واحد فقط قراراً بتسريح 10% من قيادات وكوادر الجيش السوري، وعندما – يتابع البزري – اتجهت الى الرئيس شكري القوتلي بالسؤال عن من – أو ما – الذي جاء بالشرباتي وزيراً للدفاع؟ أجاب الرئيس: “طلبت أميركا منا تعيين الشرباتي وزيراً للدفاع فرفضت لأنه قليل التجربة، فما كان من واشنطن إلا أن ضاعفت ضغوطها، فرأيت أن لا أغضبها في تلك الظروف الحرجة”.
أنتجت حالة العجز التي أضحت السمة البارزة لتلك المرحلة مناخات صاخبة من التململ والرفض، ظهر ذلك – أكثر ما ظهر – في أوساط الجيوش العربية بالدرجه الأولى، لتشهد دمشق الانقلاب الأول الذي قام به الزعيم حسني الزعيم 30 آذار (مارس) 1949 الذي كان مصدر إلهام – كما قيل – لحركة الضباط الأحرار التي تأسست في أعقاب الهزيمة في فلسطين للقيام بتكرار السيناريو السوري في القاهرة، فكان انقلاب 23 تموز (يوليو) 1952 على الملك فاروق، على الرغم من التفاوت الكبير فيما بين الحدثين .
يروي كاتب سيرة جمال عبد الناصر البريطاني روبرت ستيفنس أن “عبد الناصر كان يملك الكاريزما القادرة على جمع المتناقضات، ولذا فإنه لم يلقَ صعوبة تذكر في إزاحة محمد نجيب”. كما يروي هيكل في كتابه (عبد الناصر والعالم) أن عبد الناصر كان يملك الكثير من الواقعية السياسية ما جعله يجيب الثائر الأسطوري ارنستو تشي غيفارا عندما التقاه في قصر القبة في القاهرة العام 1960، عندما مضى تشي في شرح أحلامه بنقل شرارة الثورة الى بوليفيا وانغولا وموزامبيق … الخ، فأجابه عبد الناصر أنذاك “وهل تظن نفسك طرزاناً؟!”. تلك الواقعيه هي نفسها التي دفعته الى مغادرة حضن الأخوان المسلمين مبكراً، لأنه لمس – كما قال هو – الدور المفرط الذي يوليه هؤلاء للماضي في ثلاثية (الماضي – الحاضر – المستقبل) في حين أنه ارتأى أن الواقعية تستوجب قيام توازن بين البرهات الثلاث، وذاك أمر كفيل بتفادي الغرق في مستنقعات الماضي، وكذا يضمن امتلاك المنظور اللازم لعملية الارتقاء قدماً على سلم التطور الذي يبقي الشعوب والدول داخل العصر الذي تعيش فيه .
عندما حدث عدوان السويس عام 1956 أثبت عبد الناصر كفاءة سياسية وعبرها خرج من تلك الحرب أميناً عاماً متوجاً على القومية العربية بلا منازع، وفي ظل ذلك التوهج قررت الذات الجماعية السورية التي كانت تتناوشها أطماع الهاشميين والعراقيين تسليم زمام أمورها تسليماً لقاهرة عبد الناصر، وفي 8 شباط(فبراير) 1958 حطت هيليكوبتر سورية في مطار القاهرة وفيها زمرة من خيرة الضباط السوريين وعلى الفور سارعوا الى طلب لقاء عاجل مع الزعيم المصري. وفي ذلك اللقاء قالوا إنهم موجودون هنا لتوقيع “شيك على بياض”، وعندما وضع هذا الأخير الشيك في جيبه طار سريعاً الى دمشق ليعلن من على شرفة قصر ضيافتها والى جانبه الرئيس القوتلي عن قيام دولة الوحدة في 22 شباط(فبراير) 1958. كان الحلم أكبر من كل شيء، حتى أكبر من التبصر، ولذا فقد ترعرعت دولة عبد الحميد السراج البوليسية لتستمر ثلاث سنوات وسبعة أشهر وأسبوع واحد، لتعلن بعدها دبابات الهجانة بقيادة العقيد عبد الكريم النحلاوي فجر يوم 28 أيلول(سبتمبر) 1961 عن انتهاء صلاحيتها. لم تلقّ “الوحدة” اليتيمة من يبكي عليها، فقد استطاعت مدرعات الهجانة المهترئة والخارجة عن الخدمة بمقياس أقل الجيوش تسليحاً وعتاداً التفوق على دبابات اللواء 70، فخر الجيش السوري وقوته الضاربة التي كان يوكل اليها حماية العاصمة منذ الاستقلال ولا يزال.
ولربما يصح القول إن تلك المواجهه التي لم تحدث لأن قائد اللواء جاسم علوان كان قد قرر في تلك الليلة تنفيذ مناورة ليلية، وعندما حل الفجر كانت المسافة ما بينه وبين دمشق لا تسمح للإسراع اليها وإحباط الانقلاب، تلك المواجهة كانت بشكل ما ترمز الى ميزان القوى الذي قرأه عبد الناصر ولم تكن نتيجة تلك القراءة مشجعة له للعلب دور “بسمارك” العرب فذهب كل حي في سبيله، حتى اذا ما استطاع اليمنيون إسقاط ملكيتهم في عام 1962 ارتأى عبد الناصر في ذلك فرصة سانحة لاستعادة الحلم وترميم الجراح، وعندما خرج الجيش المصري من اليمن عام 1970 كان قد خلف وراءه مئة ألف قتيل ومثلهم من الجرحى والمعاقين. لكن ذلك كله لم يكن هو الأهم فقد شهدت الحرب اليمنية في منتصفها – أو بعيدة بقليل – الزلزال الذي هز المنطقة العربية والذي لا نزال الى اليوم نعيش تداعياته ولربما سنظل الى وقت ليس بقريب .
في الخامس من حزيران يونيو 1967 شنت إسرائيل هجوماً ساحقاً على الجبهة المصرية ثم تلتها بالجبهة السورية فالجبهة الأردنية. واليوم وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على تلك الحرب لا تزال هناك الكثير من التفاصيل الغامضة التي تتوالى عمليات فك شيفرتها الى الآن، ولم تكتمل صوره ما جرى بعد. لكن ما تكشف حتى الآن يشير الى أن عبد الناصر لم يكن يريد تلك الحرب ولا يرى أن لمصر مصلحة في خوضها، بل ولا يرى إمكان أن يخرج منها رابحاً أيضاً، إلا أن الامر الهام في الموضوع والذي لم ينكشف الا منذ حين هو أن مصر كانت لديها خطة هجومية سرية كان قد أطلق عليها إسم “فجر” في موازاة الخطة الدفاعية المعلنة، وعلى الرغم من أن عبد الناصر كان قد شدد منذ 25 أيار(مايو) 1967 على إلغائها، إلا أن عبد الحكيم عامر كان يتريث في تنفيذ أوامر رئيسه أو يعمد الى المماطلة. وما ابرزته هذه الحالة الأخيرة هو أن مصر كانت عشية حرب حزيران يونيو برأسين، او أن فيها “حكومة ظل” تتصرف وفق سياسات ورؤى خاصه بها. ومن الطبيعي أننا هنا لا نسعى الى تبرئة عبد الناصر أو حتى تخفيف مسؤوليته فهو في النهاية مؤسس النظام وواضع مساراته كلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا النظام هو الذي هُزم بكل تركيبته، وما يحز بالنفس هو أن صورة الأحداث المرتقبة لدى إسرائيل عشية الحرب لم تكن وردية، أو أن قادتها كانوا يشعرون بأنهم ماضون الى “سيران” عسكري. فرئيس الاركان الاسرائيلي اسحق رابين كان يستميت في دفاعه عن نظرياته التي تقوم على أن إسرائيل تواجه الآن خطراً وجودياً، وهذا لم يكن خطاباً إعلامياً تسعى تل ابيب الى تسويقه لغايات خاصة، وإنما كان هو السائد أيضاً في الردهات ووراء الكواليس، وهو ما أكدته مذكرات موشي ديان وأرييل شارون على حد سواء.
ولربما اتضحت الصورة بما لا يقاس مؤخراً في العام 2000 عندما قال العميد المتقاعد إسحق يعقوب الذي كان يشغل منصب رئيس وحدة البحث والتطوير في الجيش الإسرائيلي للمؤرخ الإسرائيلي افنير كوهين إن تل ابيب كانت لديها عشية الحرب خطة احتياطية وقد أطلق عليها اسم عملية “يوم القيامة” التي تقضي بقيام وحده من المظليين الإسرائيليين بمشاغلة الجيش المصري في الوقت الذي تهبط فيه مروحيتان بإنزال التجهيزات اللازمة لتركيب منشأة نووية وقد تم اختيار موقعها في منطقة “عجيلة” التي تبعد 12 ميلاً عن أقرب معسكر للجيش المصري، على أن يتم تفجيرها من الجو في حال استطاعت الجيوش العربية تحقيق تقدم أو انتصار، وهو ما يؤكد أن الحسابات الإسرائيلية كانت تستشعر خطراً وجودياً حقيقياً .
ولربما كانت النكبة الكبرى تتمثل في أن عبد الناصر لم تكن لديه أية شكوك تدل على أن نظامه مخترق بل وبيته أيضاً، فهو أشار على وزير دفاعه ورفيق دربه عبد الحكيم عامر بوجوب تغيير الشيفرة التي يستخدمها الجيش المصري كل ثلاثة أيام عندما كانت تأتيه أدق التفاصيل في الخطط المصرية في طريق عودتها من تل أبيب الى واشنطن فموسكو ومنها اليه، في حين أن “قرده كان تحت إبطه” كما دلت على ذلك الوثائق التي كشفت بدءاً من العام 2000. واللافت هو أن تل أبيب كانت هي البادئة في فضح عمالة أشرف مروان، صهره العامل في قصره الجمهوري ومدير مكتب خلفه أنور السادات الذي كان قد عينه قبل عشرة أشهر من وفاته في أيلول(سبتمبر) من العام 1970، إذ أثبتت تلك الوثائق أن مروان كان المصدر الذي لا يرقى اليه أي شك إسرائيلي على امتداد المرحلة التي سبقت حرب حزيران (يونيو) وحتى حرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973 وما بينهما.
أما مسؤولية عبد الناصر هنا فهي مضاعفة انطلاقاً مما قاله هيكل في كتابه الأخير “مبارك وزمانه من المنصة الى الميدان” الذي أفرد فيه فصلاً كاملاً عن أشرف مروان، وقد جاء فيه أن دوافع هذا الأخير للخيانة لم تكن حباً في مال أو نفوذ فهو يملكهما، وإنما كانت تتأتى من أن مروان كان يريد الانتقام من عبد الناصر الذي لم يكن يوليه أدنى اهتمام أو هو لا يرى فيه شخصاً نافعاً لأي شيء وقد انتقم وكان انتقامه رهيباً ليس من عبد الناصر فحسب بل من أمة بأكملها. والسؤال هو الم يكن عبد الناصر يرى في عيني صهره التمرد على واقعه ومحاولاته للخروج مما هو فيه؟ ألم تلحظ زوجته منى حالة النفور لدى زوجها من تلك المعاملة التي يلقاها من عمه مما يستوجب نقل الصورة الى أبيها؟
تبقى هناك نقطة أخيرة مهمة في هذا السياق وهي تتمثل في إشكالية وفاته في أيلول (سبتمبر) 1970 ، صحيح أن ما من دليل مادي الى الآن بأن موته كان اغتيالاً، الى أن هناك مؤشرات أربعة لها دلالات كبيرة يمكن إيجازها باختصار :
يورد الأستاذ حمدان حمدان في كتابه “عقود من الخيبات” صورة لوثيقة صادرة عن مجلس الوزراء السعودي برئاسة الملك فيصل بن عبد العزيز وهي تحمل الرقم 342 تاريخ 22 كانون الأول ديسمبر 1966 وفيها يحذر فيصل الرئيس الأميركي ليندون جونسون بأن المسارات اذا ما ظلت هكذا “فإنه سوف يأتي العام 1970 ولن تجدوا حلفاءكم في السلطة”.
يقول شيمون بيريز في مذكراته: “نعم نحن من قتلنا عبد الناصر لأنه رفض السلام معنا .”
وقد أورد هيكل في كتابه “بين الصحافة والسياسة” وثيقه صادرة عن سامي شرف سكرتير عبد الناصر للمعلومات وقد كتب عليها الأخير بخط يده في زاويتها اليسرى من الأعلى: “تقابل علي أمين في روما مع احد المصريين المقيمين في ليبيا وقد قال له إن الوضع في مصر سينتهي العام 1970”.
وذكر هيكل أيضاً في إحدى حلقات برنامج “مع هيكل” الذي بثته قناة الجزيرة على امتداد العام 2010 أن السادات كان يوم وفاة عبد الناصر قد أعد بيديه له فنجاناً من القهوة هو الذي أدى الى وفاته .
ولا تزال- وستظل – تجربة عبد الناصر مثار جدل وانقسام وتباين هائل في تقييمها، ما يؤكد أنها التجربة الأهم التي شهدها العرب في عصرهم الحديث. إلا أن ذلك لا يعني التوقف عند تلك الحقيقة السابقة ولن يتوقف عما قريب سيل التقييمات والانتقادات، فحكم التاريخ لم يصدر بعد وهو لا يزال بانتظار تكشف المزيد ثم المزيد من الأسرار.

Optimized by Optimole