سيكولوجية الإقصاء والتهميش في عالمنا المعاصر

Spread the love

د. علي سالم* — عانت المجتمعات البشرية عديدًا من التمايزات الطبقية والثقافية، فنشأ جراء ذلك عديد من المصطلحات والمفاهيم لتأطير بعض مظاهر التمايز، كمصطلحات: التمييز العنصري، والحقد الطبقي، والطبقات المعدومة، ومساواة المرأة، وغير ذلك، فالسود – على سبيل المثال – مبعدون عن عالم البيض، والأقليات الدينية والعرقية مبعدة عن الأغلبية الاجتماعية، والفقراء مطرودون من جنّة الأغنياء، وطبقات القاع مقصيّة ومهمّشة عن عالم الرفاه الأرستقراطي، والمرأة مغضوب عليها في المجتمعات الذكورية.
وقد تداول الفكر الإنساني على مدى العصور القديمة، ثم العلم الإنساني والاجتماعي في العصور الحديثة قيمة (المساواة) وأهميتها، حيث حلمت الشعوب بالعدل الاجتماعي، وأدخلت ذلك في مذاهبها ورؤاها، ثم في فلسفاتها ونظمها الدينية والأخلاقية والقانونية، وما زالت المساواة، وما زال العدل بعيدين عن الواقع وعن الناس.
وتعد إشكالية إقصاء الشباب وعزوفهم عن المشاركة في مجالات الحياة المختلفة، من أخطر المشكلات التي تعرقل تحقيق التنمية البشرية في المجتمع، نظرًا لما يترتب عليها من مخاطر، حيث تساهم هذه المشكلات في تضاؤل الحس الوطني وربما قلة الانتماء والولاء للوطن لدى الشباب، مما يسهل عملية استقطابهم من التيارات المتطرفة، أو تبنيه لأيدلوجيات مناهضة ومناقضة لثقافته، أو السقوط في مستنقع الممارسات التي تحطمه على المستوى الشخصي كالإدمان.
ناهيك عن حدوث قطيعة بين الأجيال، وفقدان التواصل على المستوى الفكري، الأمر الذي يؤدي إلى خلق فجوة فكرية قد يترتب عليها صراع بين الأجيال، وسعي من هؤلاء الشباب لإثبات ذاتهم عبر طرق ربما قد تتجاوز قدرتنا على التحكم فيها، أو تكون تكلفة مواجهتها باهظة الثمن كالتطرف والارهاب.
لعله من المسلمات البديهية في شرعية الاختلاف، ظاهرة التنوع في الأفكار والمعتقدات والتصورات بين البشر، وهي ظاهرة أولية تضرب جذورها في التاريخ؛ حيث يعود تاريخها إلى وجود الانسان على وجه الأرض، وهي ظاهرة طبيعية وواقعية وفطرية، تولدت نتيجة لاختلاف مراتب العقول وتناقض المصالح، وتقويم الأحداث التاريخية وتداخلها.
العجيب أن الفكر الاقصائي يصطدم مع طبيعة الحياة التعددية، بل مع الطبيعة النسبية للحقيقة، فكل يرى أن الحقيقة من نصيبه، رغم اتساع الكون لهذا الاختلاف الذي هو من طبيعة البشر، لذا تشكل ظاهرة الإقصاء مجالًا حيويًا للبحث، لا لجدة الموضوع فحسب، وإنما لكونها واحدة من التحديات التي تواجه الفرد وتخلخل الكيان الأسري وتنعكس سلبًا على النسيج المجتمعي.
والإقصاء كمفهوم، ربما يكون جديدًا على قاموسنا الثقافي، وهذا لا يعني أن ميدان الدراسات النفسية والاجتماعية لم يلتفت إليه بكونه ظاهرة جديرة بالاهتمام، لكننا لا نملك حتى هذه الساعة أية محاولة لتأطير هذه الظاهرة ودراسة أبعادها أو مراقبة آثارها السلبية في بنية المجتمع، لأننا لا نملك بالأساس أية وحدة متخصصة في هذا الميدان.
إن الإقصاء ظاهرة مستمرة، ظهرت في الماضي و لازالت تحدث في الحاضر، وسيستمر حدوثها في المستقبل، اذا لم يتم التصدي لها؛ تؤثر في حياة الملايين من البشر – حول العالم – الذين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة، الأمر الذي لا يمكن معه غض الطرف عن هذه الظاهرة التي أصبحت بمثابة مقبرة لهؤلاء الأشخاص الذين يتم إقصاؤهم.
ويتضمن الإقصاء، الحرمان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يعاني منه الأفراد المهمشون، ويمكن قراءة هذا الحرمان من حيث عدم القدرة على التمتع بحقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في التعليم، والحق في العمل، والحق في أجر عادل، والحق في الصحة والرفاه، والحق في التصويت والمشاركة في الانتخابات، والإقصاء عملية متنوعة الأبعاد تشمل عوامل متعددة مثل مصدر الرزق والعمل والأجر وملكية الأموال والأراضي والسكن والمواطنة والمساواه والاحترام وتحقيق الذات والمعرفة.
إن شعور الفرد بأنه مهمش ولا يلقى الاهتمام ممن هم حوله في المجتمع سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات(نفسيًا – اقتصاديًا – جتماعيًا – سياسيًا – ثقافيًا)، قد يترتب عليه في كثير من الأحيان تأثيرات سلبية، قد تتعدى مستوى الفرد لتطال المجتمع وربما تطال مجتمعات أخرى، لأن الشعور بالتهميش والإقصاء قد يدفع الفرد للشعور بحالة من الإحباط الشديد الذي يمثل – من وجهة نظر الباحث – حالة من العدوان الموجه، والذي قد يتخذ شكل عدوان داخلي موجه نحو الذات فيترتب عليه لجوء الفرد إلى الإدمان أو الانتحار، أو عدوان خارجي موجه نحو من يعتقد الشخص أنهم سبب في تهميشه وإقصائه، ومن ثم يصب عليهم جام غضبه، وربما لا هذا ولا ذاك وفي هذه الحالة يكون الشخص منسحبًا من المشاركة في أي أنشطة.
إن خطورة هذا العدوان الخارجي الناتج عن الإحباط نظرًا لشعور الفرد بالإقصاء، تكون مصدرًا للقلق عند وجود الداعم أو التنطيم الفكري الخارج عن حد الاعتدال، الذي يستغل هذه الحالة لاستخدام هؤلاء الشباب كقنابل موقوتة لاستهداف استقرار المجتمع وتماسكه.
ويرى الكاتب أن قضية الإقصاء ليست في جميع الأحيان خارجة عن سيطرة وإرادة الفرد أو الجماعة، لأنه مفهوم يتضمن أبعادًا وأشكالًا متنوعة، فربما يفضل بعض الأفراد أو الجماعات عدم الانخراط في أنشطة المجتمع المختلفة، فهناك من يؤثر البطالة على العمل في وظيفة لا ترضي طموحه، وآخر يقاطع الحياة السياسية لأنه يمتلك وجهة نظر مغايرة لما هو قائم، وثالث يرى أن مستوى الأنشطة والخدمات المتاحة لعامة الأفراد في المجتمع لا تناسبه، وبالتالي يستبعد نفسه من المشاركة فيها، مفضلًا مستوى أعلى من تلك الخدمات تناسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وهكذا، ومن ثم فإنه يمكن القول بأن الإقصاء ليس ناتجًا عن ظروف خارجة عن إرادة الفرد في جميع الأحيان، فربما هو من يصنع تلك الظروف.

* أستاذ جامعي وباحث وأكاديمي مصري متخصص في علم النفس السياسي.

Optimized by Optimole