العادات المتوارثة من أساطير العالم القديم

Spread the love

بقلم: زينب محمد عبد الرحيم – باحثة فى الفولكلور و الثقافة الشعبية في مصر/

فى واقع الأمر إن الإنسان منذ نشأته الأولى وهو يعيش تحت وطأة الصراع فمنذ البدء انشغلت مخيلة الإنسان القديم بأفكار حول الطبيعة من حوله،وبرع في صناعة الرموز وأختيارها، بين ماهو مادي وغير مادي.
فالظواهر الكونية التى عجز الإنسان الأول عن فهمها حولها إلى أسطورة مليئة بالرموز التى ضاغها من بنات أفكاره تارة و من الواقع المحسوس تارةً آخرى، وبذلك استطاع أن يهرب من الحتم الطبيعي الذى يعيش فى صراع دائم معه ولا يجد له تفسير، وحوله إلى أفكار ميتافيزيقية أى ما ورائية حتى يهدأ ويتكيف مع هذه الطبيعة.
وهذا العالم الخيالي لم يكن خيالاً فردياً محضاً بل شرطاً أساسياً أن يكون متفق عليه داخل العقل الجمعي الذى صاغ هذه الرموز و جعل منها أساطير تكتسب طابع التقديس داخل الجماعة التى تؤمن بها ويمكن ان تكون بالنسبة لآخرون مجرد تعاويذ أو خرافات، ليس لها أساس من الصحة و ربما يكون هؤلاء الآخرون لديهم طقوساً يعجز عن فهما أناساً آخرون.
وذلك لا يمنع أن للأساطير عمق فلسفي يميزها عن أى قص شعبي اتخذ عناصره العجائبية من الأساطير القديمة والتى بطبيعة الحال لم يتبقى منها غير النصوص والشعائر الخاصة بها.
والتى كانت ذا طابع ديني له ممارساته والتى توقفت عن أداء وظيفتها فتفتت عناصرها وتصورنا أنها حكاية وحواديت شعبية وهكذا تحتفظ الأساطير بخصوصيتها الطقسية والرمزية داخل المجتمع الثقافي التى نشأت فيه، وكما يقول العالم البنيوى ليفى شتراوس الأساطير تُفسر من الداخل لا من الخارج داخل إطارها الثقافي حتى نحصل على المعنى.
فهو كان معنياً بدراسة الأساطير عن طريق تحليل بنية النص وبيان العناصر المتشابهة بين العديد من أساطير العالم فهو كان يسعى لتأكيد نظرية وحدة العقل البشري وأكد فى دراساته ان عقل الإنسان القديم لم يكن همجي أو بدائي، بل هو متشابه تماما مع عقل الإنسان الحديث مع وجود بعض الاحتلافات الثقافية والزمنية والاجتماعية والسياسية التى ينشأ فيها اى إنسان.
ومن هنا نجد أن أغلب شعوب العالم كما قال جيمس فريزر تحرص على رواية قصة الخلق وذلك لربط الذات بموضوعيتها بمعنى أن الإنسان دائماً فى حالة بحث عن قوى تفوق قدراته الحسية فيلجأ إلى ذات آخرى وهى الذات العليا فهى التى تحدد مصيرة لانه لايشعر بالكامل فيبحث عن ذات كاملة، لها القوة والسلطان فيحتمى بها ,ومع تعدد الأساطير الخاصة بقصة الخلق الأولى.
وتقول د.نبيلة إبراهيم ان مثل هذا الحرص ينطوى على غرض نفسي وربما لا شعوري وهو رغبة الإنسان الشعبي في الهروب من نطاق الزمن فيعود بذاكرته إلى الخلق الأول حتى يبرر وجوده وأيضاً موته, ومن هنا نجد ان من أقدم الأساطير التى صاغها الفكر الأنسان هى أساطير حول الخلق.
ونذكر هنا أكثر الأساطير شهرة وهى الأسطورة المصرية القديمة إيزيس وأوزيريس تلك الأسطورة التى صاغها المصري القديم واستمرت معه مؤسسة لعقيدته الدينية لآلاف السنين وتلك الأسطورة ترتبط بشكل مباشر بقصة الخلق الأولى حيث تعطى تفسيراً عن الـنشأة الأولى للعالم النابعة من المحيط نون محيط المياة الآزلى ثم توالت عمليات الخلق إلى ان تصل الأسطورة بنا إلى صراع أزلي آخر وهو صراع الخير والشر.
فهذا الصراع يمثل موتيف ورمز حى نعيشه فى كل مراحل حياتنا فهو صراع إنسانى بين قوتين حولهما المصرى القديم إلى صراع بين حورس رمز الخير و ست رمز الشر وأحتدم الصراع بينهما إلى ان إنتهى بإنتصار الخير على الشر، ولكن فكر المصري القديم قرر الاحتفاظ بالشر ولم يقضى علية وأكتفى بهزيمته فقط وذلك ليحارب الشرور و الكائنات التى يمكن ان تعكر صفو الخير فالمصري القديم أدرك منذ القدم ان الشر يحارب الشر ويقضى عليه, وبهذه الأسطورة تكونت قراءات عديدة فإنتصار حورس يعنى توحيد المملكتين فى مصر العليا والسفلى سياسياً ,اجتماعياً يرمز إلى إعادة الحياة لأوزيريس فى العالم السفلى بعد ان أنتصر حورس على ست فعاد أوزيريس للحياة وأصبح يرمز إلى الفيضان الذي يأتي بعده الوفرة و الخير والنماء.
فبذلك تتوافر لدينا مجموعتين من الرموز واحدة للخير و آخرى للشر فعندما فقد حورس عينه أثناء صراعه مع الشر أرسلت له السماء عن طريق تحوت عيناً آخرى ومرت هذه العين بمراحل حتى عادت إلى بريقها الأول ورمز المصري للعينين بالشمس والقمر ولدينا رمزاً آخر وهو الثعبان أو الحية فهى فى الأسطورة تحمل الرمزيتين الخير والشر فهي الثعبان الضخم، وهي ايضاً الكوبرا الحامية التى يضعها الملك فى مقدمة التاج لتحمية من الشرور فهى التى تتصدر مركبة لتحارب كل الكائنات الشريرة , فرمزية العين والحية لهما أهمية ووجود فى تراث الشعوب .
ومن أهم الطقوس الاحتفالية التى وظفت هذا الصراع بين قوتين الخير و الشر هو طقس السبوع كما كان ويزال تحتفل به وتمارسه الجماعة الشعبية وهذا طقس أسطوري بكل تفاصيله إذ تجتمع فيه الرموز و واللغة و الأداء لتسهم جميعاً فى تكرار حدث موغل فى القدم وهو إبعاد القوى الشيطانية فالطفل رمز الميلاد الجديد وإذا كانت الحبوب تغربل كي تنقى فإن الطفل يكتسب هذه الخاصية عندما يغربل معها ,رمز الماء يدل على الخصب و النماء وكان الماء الذى يوقع فى القله او الإبريق وماء حموم الطفل اختزال لهذا الماء الأزلي الذي خرجت منه الحياه ذات يوم.
وتكتمل رمزية الوفرة بالملح الذى تصرح الأغنية بوظيفته.

وتقول يا ملح دارنا كتر عيالنا ,فهو يحقق هذه الوفره بطرق غير مباشرة لأنه يصيب العين الشريره فى عينها الحاسدة اما عن دق الهون فالقوى الشيطانية كما يقول جيمس فريزر تفزع من صليل النحاس وتهرب
فالرموز هنا حزمتين الأولى تضم رموز الوفرة والنماء والغربال وحزمة تضم ما يفسد على القوة الشريرة فعلها و هى الملح ودق الهون و البخور
وعلى هذا النحو حول الإنسان الشعبي أسطورة الصراع بين الشخوص الشيطانية و الشخوص الإلهيه إلى نمط خاص من القص ينغلق على الصراع الحسي بين قوتى الخير والشر و الفرق بين الأساطير القديمة وبين الحكايات الخرافية هو ان الأسطورة مكانها المعبد اما الحكايات تتداول فى الحياة وإذا كان فى الأسطورة الإله يمثل الخير فهو فى الحكاية الشعبية يمثل فى البطل.
فكل الاحتفالات الخاصة بدورة حياة الإنسان ماهي إلا عادات طقسية لا تخلو من التأثر الموغل فى القدم النابع من أساطير العالم القديم .

Optimized by Optimole