الحركات الجهادية: كيف تحركها اليد الخفية؟

Spread the love

بقلم: أحمد صلحي | أضحت الراديكالية الجهادية الإسلامية صناعة مزدهرة انتاجاً وتوزيعاً، ويتدفق لساحتها في بؤر التوتر متطرفون من كل الجهات؛ أفراداً وجماعات توحدهم الخيارات الأيديولوجية وسردية الجهاد والخلافة الإسلامية (…)، وحسابات خفية لقوى دولية، فتتشابك المصالح والخيارات كتشابك حقل المفاهيم السابقة ومدلولاتها.
والمتتبع لها يستبعد طابع المفاجأة وصفة الحوادث غير المُخطط لها نشأة وتطوراً، فثمة مؤشرات تظهر يداً خفية تتحرك لتأسيسها وتُحركها دعماً وتثبيتاً لقواعدها. هذه العصا السحرية الخفية مكّنتها من تجاوز مرحلة النشأة البسيطة لها، لتغذو عاملاً محورياً في إعادة تخطيط البنية المركزية والجغرافيا الجديدة للعالم، فكيف أسست لمنظومتها؟
في العلاقات الدولية كل الأحداث تُراقب بحذر حتى لا تنتصر الفجائية، وفي ارتباط بالظاهرة “الجهادية” يبدو أنها لم تكن وليدة المفاجأة بقدر ما هي مُحصّلة لتحركات جيواستراتيجية مهّدت الطريق لها للتحرك، وموفرة لها كل دعائم العيش والاستمرار لها. في البداية، كان الهدف المحوري لها حسم الحرب الباردة في خاصرة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وسرعان ما تم تقدير مؤهلاتها القتالية والاستراتيجية بعد نهاية الحرب، وحظيت باستمرارها بفتح اعتمادات لها وتغيير هدفها لبلورة معالم النظام العالمي الجديد، ولجغرافيا جديدة لم تكتمل تقاطعاتها.
ولقد انتعشت هذه الحركات منذ أمد طويل، كحصيلة للواقع الديني والأيديولوجي والمجتمعي في الشرق الأوسط، وانتقلت هذه الحركات “الجهادية” من بدايات جنينية كحركات منبوذة وهامشية إلى حركات عالمية متشعبة وشبكات الفواعل غير الدولاتية تُحكم سيطرتها على القلوب والعقول، كسيطرتها على مساحات رمادية في مناطق عدة؛ (الشرق الأواسط، آسيا، أفريقيا…)، تُوزع بها تهديداتها الأمنية وتحركاتها العسكرية وتطرفها الديني.
وسنستعير عبارة “اليد الخفية” لوصف هذه القوى المحركة لهذه الجماعات وللوقوف بإيجاز على مساراتها وتوظيفاتها. فقد وفرت القوى الإمبريالية-الديكتاتورية للحركات والمقاتلين ترانسفيراً رسمياً لبؤر التوتر بشعارات تضليلية من أجل مناصرة الشعوب المظلومة، كانت البداية في أفغانستان والبوسنة والهرسك … وبأجندة سياسية الدفاع عن مصالح الدول وخاصة الأميركية وحلفائها، ونجحت في توسيع قاعدتها وتثبيت أعمدتها، متجاوزة زمن السرية الى رحاب الحركات العلنية الجماعية، بعد إرسائها دعائم حكم مركزي في مناطق شاسعة في العالم بمسميات كثيرة، في أفغانستان والعراق وسوريا والصومال وغيرها.
تتأسس فكرة اليد الخفية عند آدم سميث على أن الأفراد وفي سعيهم لتحقيق مصالحهم الخاصة يحققون المصلحة العامة؛ فتحقيق مصلحة الجميع عبر المواءمة والتوازنات الخفية والتي يبدو كأن قوة خفية تعمل في الخفاء للبقاء على النظام والتوازن، وهو نفس المنطق الذي يسطر على جينولوجيا الحركات الجهادية-الإرهابية. فلقد كانت النشأة الأولى للحركات الجهادية السلفية كحركات جنينية تسعى لإحياء الفريضة الغائبة والثورة على المجتمع الجاهلي. وما لبثث أن أسست أول هيكلة لها في أفغانستان بقدرة اليد الخفية، فبدأت كمحطة استقبال للمجاهدين العرب وغيرهم ضد الاتحاد السوفياتي بمباركة أميركية لحسم الحرب الباردة، ومن خلالها تمخضت فكرة الجهاد العالمي بتأسيس تنظيم القاعدة، من منطلق التحالفات التي رسمت في ساحة الجهاد الأولى -أفغانستان- وفق تصور عبد الله عزام، وبمناورات أيديولوجية تجدد التجنيد والتسفير الى بؤر أخرى ولنفس الأهداف مع تغيير الأولويات في الشيشان والصومال وأخيراً في العراق وسوريا.
وبلا شك، تتحرك اليد الخفية ليس بمنطق المؤامرة إنما بمنطق الاستباقية عالمياً؛ فتتغاضى دول عدة عن نشأة هذه الحركة أو تلك وعملياتها وتحركاتها، وما بدأ كصفقة سهلة وكوسيلة طيعة بيد الدول تحوّل لظاهرة منفلتة أو هكذا رسم لها. وقد سهّلت التحولات المتسارعة في ترقيتها كتهديد عالمي مستمر ومتطور، وكانت مستوياته قبل تأسيس تنظيم القاعدة ضعيفاً، وفي حدود ضيقة مُتحكم فيها، غير أن تأطيرها وتثويرها بدأ في أفغانستان واستمر في مناطق أخرى، ومعه تضاعفت مستويات تهديدها ومنطق توجيهها والتحكم فيها، قبل أن تُشكّل أجيال متتالية مع توالي النزاعات وانتقال الجهادين لبؤر التوتر العالمية فانتقل الفكر الجهادي ليتوزع في كل القارات، بعيداً عن منطق الحركات بتشجيع “الذئاب المنفردة”.
عولمة الحركات الجهادية انطلقت ملامحها الأولى بتوظيف الدين في الصراعات، فشجّعت بعض الأطراف على استثمار البعد الديني لتحقيق أهداف سياسية، كما تساهم عوامل الضعف في البنية المركزية للدول وتوظيفات الهوية الدينية في نشأة الحركات الجهادية. غير أن المستور يكشف تحركات جهات خفية بأهداف غير معلنة.
وكانت اليد الخفية التي تحرك هذه الحركات تعمل بمنطق “دعه ينمو”. فكانت بعض الأنظمة تشجعه للاستثمار في عملياته وتحركاته خدمة لأجندتها، وكانت الأعين تتغاضى عن نمّوها وتحركاتها في المساحات الرمادية، لإعادة رسم الخرائط كما يشاء مُحركوها. كما كان الدعم يقدم لها سراً وعلانية لتقويتها، وكانت أفغانستان شاهدة على هذا المنطق، وفي بقاع أخرى، وسيفضح في سوريا والعراق.
وفي مستوى ثانٍ، ولتشكيل معالم جغرافيا جديدة، أرادت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن احتلال العراق كبداية لورشة “بناء شرق أوسط جديد”، غير أن الرهان تقهقر أو انتهى. وكانت أولى خطوات إدارة الحاكم المدني الأميركي بول بريمر حل الجيش العراقي، وقد استغلت الحركات الجهادية الفراغ الأمني واستثمرت فرصة حل الجيش لملء الفراغ، ليس أقلها تحكمها في مساحات رمادية في المثلث السني وفرض سلطتها وتنفذ عملياتها، أو عبر تغلغلها في أنشطة المقاومة العراقية، أو من خلال الانتقال لتأسيس حركات مستقلة لها، كتنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” والتحولات التي مرّ منها -هذا التنظيم- وصولا إلى إعلان دولة الخلافة الداعشية.
وكأي سلعة تخضع لمنطق العرض والطلب؛ عادت تحركات اليد الخفية لاستثمار هذه العوامل الجديدة في رقعة السياسة العالمية، ليس أقلها تمويلات دولية مشبوهة لهذه الجماعات تمويلا ًوتسليحاً، من دون إغفال التغاضي عن انتقال المسلحين إلى بؤر التوتر، كان تنظيم “داعش” وقبله “القاعدة” أكبر مستفيد، ولكأنه تعزيز لتجارة حرة للإرهابيين، تُمكّنهم من تجاوز ممرات المراقبة، إذ كانت اليد الخفية فعالة في تشكيل ملامحه منتقلة لمنطق “دعه يعمل”.
ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب، أذيعت أخبار وبرزت تحقيقات تُظهر تهاوناً في مكافحته، حيث تقوم الحكومات باستثمار الفرص التي تقدمها هذه الحركات لإضعاف خصومها، رغم أنها سياسة ذات حدين. وبهذا المنطق، كانت التحركات الدولية في إطار التجاذبات الاستراتيجية-بين الجانب الأميركي وحلفائه والجانب الروسي ومن معه-توفر لهذه الحركات هامشاً للتحرك ولإرساء دعائمها. كان الأمر واضحا في سوريا كما تبلور بوتيرة أقل في الصومال واليمن وأفغانستان وغيرها من بؤر التوتر. وأخيرا، تقوم اليد الخفية بحركاتها النهائية، وبترتيب مسبق وبإحكام على رقعة الشطرنج تجهز على الحركة إن انتهى مفعلوها، أو قد يتم إضعافها تمهيداً لمراحل لاحقة قد تستدعى لتعيد سيرتها الأولى، أو تنسى بإضعافها والإجهاز على قاداتها وكشف خططها.
إجمالاً، لقد استطاع هذا الفكر الجهادي المتطرف أن يؤسس لبنية لفكرية وساهمت بروباغندا الجهادية في استقطاب المقاتلين وتسريع انتشاره بكل أنحاء العالم. وكان الدعم السري والعلني يزكي ويفتح له ساحات المعارك. وبين هذا وذاك تضيع هذه الحقائق، لإخفاء حقائق أخرى مجهولة، حقائق من يحركها من وراء الستار، بيد خفية وبرهانات استراتيجية، فكلما اختفت حركة تظهر أخرى أقوى منها.

Optimized by Optimole