مَن يسرق مَن؟

Spread the love
فيروز وسط عاصي ومنصور الرحباني
فيروز وسط عاصي ومنصور الرحباني

بقلم: محمود الزيباوي | في حوار نُشر في مجلّة “الشبكة” في كانون الأول-ديسمبر 1977، وجّه عبد الغني طليس إلى منصور الرحباني السؤال التالي: “أسوق إليك اتهاما كبيرا، حوله بعض اللغط. طلال حيدر ينسب أجمل شعركم المغنّى لنفسه. نطلب الكلمة الفصل؟”. وردّ منصور بسخرية لاذعة: “بتعرف. بصراحة أنا صرت سمعان كتير عن هالقصة، وقد سألت طلال عدة مرات عن ذلك فكان ينفي نفيا قاطعا. بس معليش، بسيطة، طلال بيمون على كل أعمالنا ومسرحياتنا. وشو ما بدو يقول، يقول. وإذا أراد أن يأخذ شي مسرحيتين، كمان ماشي الحال. مش فارقة بيناتنا”. وأضاف المحاور هنا: “وحتّى لا يؤخذ سؤالي على غير ما يحمل من البراءة، أترك المجال مفتوحا لشاعري طلال حيدر فيقول كلمته، إذا كان لديه ثمة كلام”.

على خطى طلال حيدر، ظهر في السنوات الأخيرة أكثر من شاعر “ينسب لنفسه أجمل شعر الأخوين المغنّى”، وظهرت أكثر من رواية حول هذه المسألة المثيرة، وكلّها روايات لا تستند إلى أي حجة ملموسة. يوم الثلاثاء الماضي، كتب طوني حداد مقالة بعنوان “فيروز والسيّد الشيعي” نسب فيها قصيدتين من روائع السيدة إلى الشيخ النجفي علي محمد جواد بدر الدين، والشيخ بحسب تعريف الصحفي من مواليد جنوب لبنان عام 1949، “ظهرت لديه موهبة الشعر وهو صبي وأبدع في القصيد الغزلي ولم يتجاوز الخامسة عشرة”، وقد التقى عاصي الرحباني “بترتيب من أحد الأصدقاء”، وباعه “أكثر من قصيدة” لقاء “ثلاثين ليرة لبنانيه في القصيدة الواحدة”. “خرج الى النور بتلحين الأخوين رحباني وبصوت السيدة فيروز الاسطوري ودون ذكر الشاعر قصيدتان” من تأليف “هذا الشاعر العشريني” معروفتين في عالم الغناء، الأولى هي “لملمت ذكرى”، والثانية هي “أنا يا عصفورة الشجن”. لم يذكر طوني حداد مصدر الخبر، وقد نقله في الواقع عن مقالة من توقيع جواد غلوم نُشرت في آذار-مارس تحت عنوان “أيام الشاعر علي بدر الدين النجفيّة”. ويبدو أن الرواية ظهرت على شبكة الانترنت منذ أكثر من ست سنوات، وعادت للواجهة اليوم، وانتشرت كالنار في الهشيم من دون أي تدقيق.

في الواقع، تسقط هذه الرواية بسرعة عنذ ذكر تاريخ الأغنيتين المذكورتين. غنت فيروز لأول مرة “لملمت ذكرى” في العام 1953 أيام “محطة الشرق الأدنى” ضمن لوحة غنائية رحبانية هي “حلوة الموطن”، وكان علي محمد جواد بدر الدين يومها في الرابعة من عمره، ثم أعادت تسجيلها بشكل مستقل العام 1956 لصالح “الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية” في العام التالي، وصدرت في أسطوانة العام 1957، ثم صدر هذا التسجيل ثانية في أسطوانة من انتاج شركة فيليبس”، وهي من تأليف منصور وألحان منصور كما جاء على الغلاف الخلفي للأسطوانة. في تموز 1979، أجرى محمد الكردي حواراً لافتاً مع فيروز، وفيه اختارت من أعمال عاصي “طريق النحل”، ومن منصور “قصيدة لمملمت ذكرى لقاء الأمس”. سألها المُحاور: “هل لهذه القصيدة ذكرى خاصة؟”، وكان جوابها المختصر: “أحبّها كثيراً”. في السنوات الأخيرة من عمره، ذكر منصور هذه القصيدة في أكثر من مرة، كما في حديثه عن عمر أبو ريشة: “من أكثر اللحظات تأثراً في حياتي: يوم انتهى عرض أحد مهرجانات معرض دمشق الدولي. جاء يهنّئنا، عاصي وأنا، فقال: خذا كل شعري واعطياني قصيدتكما “لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب”، وخاصة البيت الذي يقول: نسيت من يده أن أستردّ يدي/ طال السلام وطالت رفة الهدب”. في المقابل، سُجّلت “أنا يا عصفورة الشجن” مع مجموعة من القصائد في منتصف الستينات لحساب الإذاعة الكويتية، يوم كان محمد جواد بدر الدين في الخامسة عشرة من عمره، ولم تنتشر إلا بعد صدورها العام 1995 في أسطوانة ضمت مجموعة من قديم فيروز عنوانها “هموم الحب”. والقصيدتان منشورتان في ديوان “قصائد مغناة” الذي نشره منصور العام 2007، قبل رحيله عن هذه الدنيا مطلع 2009.

قبل انتشار حكاية “فيروز والسيّد الشيعي”، شاعت في مواقع النت، حكاية أخرى مشابهة نُشرت في صفحة “أبو علي زين شعيب” في شباط-فبراير 2013، ونصّها: “يُحكى أن الراحل عاصي الرحباني وزوجته العظيمة فيروز، قصدا ذات يوم منزل الشاعر الزجلي زَين شعَيب، وسبق لشاعرنا زَين أن وعدهما ببعض الكلمات، واشترط زَين على عاصي أن يزوره برفقة فيروز. حين وصل عاصي وفيروز ودخلا منزله، كان الصالون ضيقاً ومُكتظاً بالزوار، تلّبك زَين واحتارت فيروز أين ستجلس وسألته باللهجة اللبنانية: وين بدنا نقعُد يا زَين؟ دون انتظار أجاب زَين شعَيب: سمرا يا ام عيون وساع والتنورة النيليي/ مطرح ضيّق ما بيساع رح حطك بعيني. فصاح عاصي: الله الله خلصت الزيارة، أكمل الأغنية وأبعثها. وبعد فترة أكملها زَين ولحّنها الرحابنة وكانت تلك الأغنية العظيمة من أجمل ما غنت فيروز”.

توفّي زين شعيب في ربيع 2005، وخرجت هذه الحكاية إلى الضوء فجأة بعد ثماني سنوات على رحيله، ولا ندري من ألّفها. صدرت “سمرا يا أم عيون وساع” العام 1957 باسم الأخوين رحباني، وشنّ عليها يومها سعيد فريحة حملة عنيفة، إذ رأى أنها أغنية “هابطة” لا تليق بفيروز، وانتقد ناظمها عاصي، وظلّ على موقفه رغم النجاح الهائل الذي حصدته، وأسّس جائزة “الأنوار” للأغنية العربية في العام 1960 لمحاربة هذا النوع من الأغاني “الهابطة”، واليوم يأتي من يؤلف حكاية جدية لـ”تلك الأغنية العظيمة”، وينسبها لزين شعيب.

ziad

بعد هذه الحكاية، خرج الإذاعي الأردني ممدوح ابو الغنم في العام 2014 بقصة أخرى مشابهة، ونسب نص مغناة “القصة الكبيرة” إلى صلاح أبو زيد، مؤسس مؤسس الإعلام الرسمي، وأوّل صوت قال: هنا عمان”، وذلك في حوار تلفزيوني أجرته معه لانا القسوس في برنامج “يسعد صباحك”. روى ممدوح ابو الغنم قصة اكتشافه لهذه المغناة الرحبانية المجهولة، وقال انها كُتبت كتحية لـ”معركة الكرامة”، والمعروف أن هذه المعركة وقعت في 21 آذار 1968، يوم حاول الجيش الإسرائيلي احتلال نهر الأردن. في الحقيقة، كتب الأخوان رحباني نص المغناة قبل هذا التاريخ، وسجلاها في منتصف آذار، ودُعيت الصحافة إلى حضور هذا التسجيل في “استوديو بعلبك”، كما تشهد المقالات المصوّرة التي نشرت قبل اندلاع “معركة الكرامة”.

يقودنا هذا الحديث إلى الكلام عن قصيدة رحبانية شهيرة يصرّ الشاعر الفلسطيني قاسم هارون رشيد على نسبتها لنفسه، وقد ذهب في ادعائه إلى حدّ نشرها عام 2009 في ديوانه “الصوت والصدى”. هذه القصيدة هي “سنرجع”، وهي في الذاكرة الجماعية من أغاني العودة، غير أنها في الأصل أغنية “لبنانية” تتحدث عن عودة المهاجرين إلى الوطن، وقد قدّمت لأول مرة في الإذاعة اللبنانية بمناسبة عيد الاستقلال في خريف 1956. أعادت فيروز تسجيل الأغنية في العام التالي لحساب شركة “صوت الشرق”، وحمل ظهر الغلاف الخلفي للأسطوانة نصّا يتحدث عن حنين المهاجر إلى العودة للوطن “ليجلس مع الأهل والأصحاب قرب أشجار الأرز الخالدة”، “فيغني مع فيروز: سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المنى”.

في العام 1962، أعاد الأخوين تسجيل الأغنية للمرة الثالثة ضمن سهرة ميلادية خاصة بالقدس، وتحوّلت الأغنية إلى احدى أشهر الأغاني “الفلسطينية” عند صدورها على اسطوانة “القدس في البال” عام 1968. ويبدو أن قاسم هارون رشيد تمنّى أن تكون من تأليفه، فنسبها لنفسه، مثلما فعل من قبله ومن بعده أكثر من شاعر، فكما كتب انسي الحاج سنة 1981: “ما من مكافأة لشاعر أكثر من تغنّي له شاعرة الصوت”.

المصدر: صحيفة المدن

Optimized by Optimole