إدلب في إطار الرؤى الاستراتيجية للدول الضامنة

Spread the love

خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط – بقلم: جلال سلمي* — تتضارب الآراء والرؤى حول مصير مدينة إدلب التي باتت تشكل المعقل الأكبر لفصائل المعارضة، وبالتالي أضحت صاحبة أكثر المعادلات تعقيداً في المسألة السورية.

تتسارع التطورات في سوريا متجهةً، على ما يبدو، نحو حسم المسألة لصالح النظام، وعلى حساب فصائل المعارضة، وفي هذا السياق يطرأ على السطح تساؤلٌ مفاده؛ ما هو مصير مدينة إدلب ومحيطها؟

في ضوء رغبتها في سلوك مسار يُبعد عنها التعقيدات الدولية ويسهل سيرورة ضمها للدول ذات الفاعلية تحت جناحها، اختارت روسيا طريق عقد محادثات مع الدول ذات الكعب العالي في مسارات الأزمة السورية السياسية والميدانية، وهما تركيا وإيران، في إطار ما بات يُعرف باسم “محادثات أستانة” التي أفضت إلى “مناطق خفض التصعيد” ميدانياً، تمهيداً لإنتاج عملية تسوية سياسية تُنهي الأزمة.

توصلت محادثات آستانة 6، وفقاً لصحف ومصادر مطلعة، إلى مقاربة حول إدلب تقسمها إلى ثلاثة مناطق، كشفتها الصحف التركية، لا سيما صحيفة “يني شفق” على النحو التالي:

 

1ـ منطقة خط حلب ـ دمشق: تمتد من جنوب حلب حتى شمال حماه،  تكون هذه المنطقة منزوعة السلاح وأفراد الفصائل المسلحين، وتخضع للسيطرة الروسية في البداية وتؤول إلى إدارة النظام المدعوم من قوات إيرانية وحزب الله في المستقبل، وقد يتم قبول مجالس محلية تؤسسها المعارضة التي تقبل التوافق مع روسيا، بحسب تقديري.

2ـ ما بين سكة قطار حلب والمسار البري الرئيس: يُتوقع أن ترزح هيئة تحرير الشام، جبهة النصر سابقاً، تحت حصار روسيا وتركيا في هذه المنطقة. وهنا سيكون أمام الهيئة خياران فقط؛ إما القتال، أو تفاهم يتمخض عنه حلها أو تعويمها، وتخضع للسيطرة الروسية في نهاية المطاف.

3ـ غرب المسار البري الرئيس، المنطقة الشمالية المحاذية للحدود التركية: وفقاً لمُخرجات اجتماع رئيسي الأركان الإيراني والتركي في أنقرة، ومحادثات آستانة 6، تكون هذه المنطقة من ضمن النفوذ التركي. وكما تم نشره في وسائل الإعلام، تعتبر هذه المنطقة نتيجة لاتفاق تركي ـ إيراني ضمني يمنح إيران سيطرة في جنوب دمشق، وبالأخص المنطقة الواقعة ما بين منطقتي داريا والسيدة زينب، في مقابل سيطرة تركيا في الشمال، أي إدلب.

وتتضح هذه المسارات بشكل جلّي، عبر التمعن في الخريطة التي نشرتها صحيفة يني شفق، المقربة من الحكومة التركية، ومركز عُمران للدراسات الاستراتيجية.

 

 

 

 

 

 

 

بالنظر إلى الخرائط أعلاه، يتضح جلياً أن الأزمة سورية يؤخذ بها، بشكل متسارع، نحو الحل. وفي إطار اكتساب الأزمة السورية زخم إجراءات التسوية بين الدول الفاعلة روسيا وإيران وتركيا، باستثناء الولايات المتحدة التي قد تتجه روسيا إلى التفاوض معها على المنطقتين الجنوبية والشرقية الشمالية بشكل منفصل، يبدو أن الأزمة السورية ستلقى الحل في إطار رؤى الدول الفاعلة على النحو التالي:

1ـ الرؤية الروسية؛ الشيشنة:

في ورشة عمل جرت بين مركز الشرق للسياسات، ومركز عُمران للدراسات الاستراتيجية، في منتصف أيار/مايو المنصرم، تبلورت لديّ الرؤى التي تسعى الدول الفاعلة إلى طرحها لحل الأزمة السورية.

بإيجاز، تعني الشيشنة أي تقليد الحل الذي انتهت به الأزمة الشيشانية. فبالتزامن مع توليه مقاليد الحكم في روسيا الاتحادية نهاية عام 1999، عمد الرئيس فلاديمير بوتين، إلى تحويل الصراع من روسي ـ شيشاني إلى صراع شيشاني داخلي يحقق لروسيا تشرذماً داخل الفصائل الشيشانية، ويؤول بإحكام قبضتها على زمام الأمور. وقامت روسيا بجعل الصراع داخلياً، عبر عقد اتفاقات مع بعض أمراء الحرب ذوي النفوذ الفاعل، ومنحهم مناصب سياسية واجتماعية مرموقة شرط قبولهم بالنفوذ الروسي على منطقة الشيشان التي آلت إلى أن تكون إحدى ولايات الفيدرالية الروسية الموحدة.

وفي التجربة الشيشانية، اخترقت روسيا صفوف الفصائل المتمردة عبر مفتي المتمردين الشيشانيين أحمد حجي قديروف الذي أحدث انقساماً داخلياً بين المتمردين، إلى أن دعمته روسيا تحت لقب “المتمرد الموالي” ضد “المتمردين غير الموالين”، وانتهى الأمر بحل الأزمة لصالح موسكو.

تتماثل هذه المقاربة إلى حدٍ كبير مع السياسة الفرنسية القائمة على أساس “فرق تسد”، إلا أن الفارق الأساسي هنا يكمن في أن روسيا تحافظ على سيطرتها في جغرافيا موحدة، وليست جغرافيا مُقسمة كما في النموذج الفرنسي.

وفي حين نظرنا إلى السياسة الروسية المُطبقة في سوريا، نرى أنها قريبة جداً من هذه المقاربة، ولا يوجد بينها سوى اختلافات جزئية، حيث طبقت هذه الرؤية ليس من خلال قسم الفصائل “المتمردة” فقط، بل من خلال الدول أيضاً. وتُذكر بعض المؤشرات لتطبيقها هذه الرؤية على النحو التالي:

ـ وضع تركيا في مقام “الشريك” أو “الوكيل”، من خلال إناطة لقب “الدولة الضامنة” بها، واستبعاد قطر والمملكة العربية السعودية من اللعبة، الأمر الذي خلق انقساماً واضحاً بين الدول الداعمة للمعارضة.

ـ دعوة بعض الفصائل إلى محادثات آستانة، وتجاهل البعض، لإحداث شقوق داخل صفوق المعارضة. فتطبيق الشيشنة يتم من خلال تصفية أكبر قدر ممكن من الفصائل المعارضة عبر تحويلها إلى فصائل إرهابية مسلحة لا تقبل بالحل السياسي، والخيار السلمي. وبذلك يتم إضعاف قوة المعارضة المعتدلة، ووضعها تحت عباءتها، بحيث تصبح المعارضة المعتدلة خائفة من التحول إلى فصيل “إرهابي”.

 

ـ تأسيس تيارات باسم “معارضة الداخل” أو “المعارضة الوطنية” تبقى تحت عباءتها، وتُمثل جناحها المعارض الموازن للنظام، والمُحكم لسيطرتها السياسية داخل سوريا، والمحدث لانقسام داخل صفوف المعارضة أو الفصائل المسلحة، ومن الأمثلة على ذلك، “الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير” بقيادة قدري جميل، ومعارضة “قاعدة حيميم” بزعامة إليان سعد.

 

ـ إجراء لقاءات مع العشائر العربية في الشرق السوري، ولا سيما عشائر السويداء ودير الزور.

 

ـ الترويج لدعايتها السياسية التي تصوّرها على أنها “وسيط” وليس “متورطاً” أو “طرفاً في الأزمة”، لاستقطاب أكبر قدر ممكن من قوى المعارضة السياسية والعسكرية والاجتماعية إلى جانبها.

 

وفي ضوء هذه الرؤية، استطاعت روسيا تحويل تركيا، وعدد من فصائل المعارضة، من دولة منافسة إلى دولة “شريكة” أو “وكيلة” تعمل رويداً رويداً على إنهاء المعارضة “المتطرفة” أو “الإرهابية”، لصالح حل الأزمة بمضان بقاء النفوذ الروسي الموجه والأكبر على كامل الأراضي السورية. فقد أسست روسيا “ميزان قوى” متآرجحاً بين تركيا وإيران، وتستطيع أن تؤرجحه لصالح طرف على حساب طرف آخر في حين احتاجت لضبط تحركهما. وفي ظل لعبها دور “القوة الموازنة” قد تخضع المناطق الواقعة من جسر الشغور حتى مناطق سيطرة النظام في محيط مدينة اللاذقية تحت الإدارة الروسية، لمنع أي احتكاك بين قوات النظام والقوات التركية.

غير أن وجود السيطرة الميدانية الأكبر لإيران في سوريا، وتمسكها بشخص الرئيس بشار الأسد رئيساً، ربما يشكلان العائقين الأساسيين أمام الرؤية الروسية للحل.

 

2ـ الرؤية التركية؛ الأيلولة القبرصية:

يُقتبس مفهوم “الأيلولة القبرصية” من سياسة تركيا حيال جزيرة قبرص التي تحتضن في كنفها مواطنين يونانيين وأتراك. وقد تبلور هذا المفهوم من خلال عقد كل من بريطانيا وتركيا واليونان، عام 1959، اتفاقية لندن التي منحت كل منهم حق الضمانة العسكرية لأمن الجزيرة. وبناءً على هذه الاتفاقية، حُددت مناطق السيطرة، عُرفاً، على نحو أن مكان وجود المواطنين الأتراك يتبع للضمانة التركية، والمواطنين اليونانيين للضامنة اليونانية، وبريطانيا تضمن الطرفين عبر الوقوف على الخط الأخضر الواصل بين منطقتي سيطرة الطرفين. وقد تم، وفقاً لهذه الاتفاقية، منح السيطرة السياسية والإدارية لحكومة قبرص الموحدة، غير أن السيطرة العسكرية الحقوقية على مناطق النفوذ بقيت، عُرفاً، مرتبطة بالدول الضامنة.

وبالتأمل في حيثيثات هذا المفهوم، ومقارنتها بالاتفاق الموضح في الخريطة أعلاه، يتضح جلّياً أن تركيا قد حققت رؤيتها، في الشمال السوري كما تصبو تماماً. فإلى جانب مناطق سيطرتها في محيط منطقة “درع الفرات”، مع منطقة إدلب، تصبح ذات نفوذ شرعي يكفل لها حماية أمنها الحدودي ومصالحها القومية. وعلى الأرجح، قد يتم، على صعيد استراتيجي، إيلاء الإدارة المدنية والسياسية إلى مؤسسات النظام السوري التي تحوي ممثلين عن المعارضة المعتدلة. ولا يظهر، في الأفق، عائق واضح، فالصفقات المبرمة بين الأطراف، روسيا ـ تركيا ـ إيران، تصب في صالح هدف منع قيام الكيان الكردي، وهذا ما يجمع هذه الدول في إطار “المصالح المطلقة” التي تدفعها نحو التوافق في إطار هذه الرؤية.

وقد حققت تركيا جزءاً كبيراً من هذه الرؤية عبر محادثات آستانة 6 الأخيرة، وتتحضر اليوم لدخول شمال إدلب بـ25 ألف جندي تابع لجيشها ولفصائل “الجيش الحر” بعمق 35 إلى 50 كيلومتراً، وبطول 130 كيلومتراً، أي حتى سراقب ومحيطها.

 

3ـ الرؤية الإيرانية: العرقنة أو اللبننة:

بإيجاز العرقنة أو اللبننة تعني بناء سلطة مركزية توحد الطوائف والقوميات المختلفة في إطار مؤسساتي موحد يعتمد على نظام المحاصصة، وفي إطار نظام المحاصصة يكون هناك توغل مؤسساتي ونفوذ أمني وسيطرة اقتصادية كبيرة مقارنة بالشركاء الآخرين. وتكون هذه السيطرة إلى جانب النفوذ مدعومين بشكل كبير من دولة خارجية ترمي إلى بناء نفوذ غير مباشر عبر وكيل داخلي. وهذا ما استطاعت إيران تحقيقه في العراق ولبنان. واليوم في سوريا، على صعيد الإدارة السياسية الداخلية لسوريا، تتجه الأمور نحو هذه الرؤية. إيران تأبى التخلي عن نظام الأسد وشخصه، وتنفذ مشروع “الطوق الخاص بها حول دمشق” الذي بات شرعياً بعد الصفقة المبرمة حوله مع تركيا بمباركة روسية. فالنظام القائم تابع لها، ولكن يشارك بعض المواطنين السنة والمسيحيين في بعض المناصب والمؤسسات، وتحافظ على وحدة سوريا كما هو الحال في العراق ولبنان.

هناك توافق كبير بين الشيشنة والعرقنة أو اللبننة، فكلاهما يرميان إلى الإبقاء على وحدة سوريا، غير أن إيران تحاول ترسيخ نفوذ رؤيتها عبر تقريب عدد من واسع من رجال الدولة وأمراء المناطق والعشائر إليها، ولا سيما في محيط دمشق، والحدود العراقية – السورية، والحدود اللبنانية – السورية، وبعض المناطق القريبة من حلب وريف حماه الذي هو موضح في الخارطة التركية أعلاه.

وفي هذا الإطار، يبدو التحدي الوحيد أمام النفوذ الإيراني هو الولايات المتحدة الأميركية، لكن مع وجود غطاء روسي وآخر دولي يشرعنان وجودها يبدو أنها باقية في سوريا من دون عوائق بارزة.

 

ـ التحديات المتوقعة:

وفي ضوء وجود التوافق السياسي النسبي، يبقى التحدي الأهم الذي يواجه الأطراف هو التحدي العسكري الممثل بـ”هيئة تحرير الشام”، جبهة النصرة سابقاً. فبالرغم من سعي تركيا لتعويم “هيئة تحرير الشام”، وإنهاء سيطرتها سلمياً، إلا أن الهيئة، مسنودة بـ”جيش النصر” و”جيش النخبة” و”الحزب الإسلامي التركستاني” و”جيش العزة”، أظهرت بإطلاق عملية عسكرية، في 19 أيلول/سبتمبر 2017، في محيط ريف حماه، أنها ماضية في خوض معركة استنزافية إما تثبت أقدامها أو تفضي إلى معركة حاسمة تقضي عليها بالكامل.

 

ولعل العوامل التي دفعت الهيئة لهذه الخطوة هي كالتالي:

ـ الفكر الجهادي الخاص بـ”هيئة تحرير الشام” وبقيادتها: يأتي الفكر الجهادي للهيئة من منطلق تأويل ديني يرى الدنيا مكان تناحر بين الأشرار والأخيار، أو الحق والباطل، الأفضل والأسوأ، والقتل واجب والموت مقدس، والعنف الذي يصيب المدنيين العزل من أجل إحقاق الحق مباح، كونه يصب في صالح الهدف الديني، والمخالف للمسيرة الجهادية أعداء، وبالتالي شياطين لا بد من مواجهتهم حتى النفس الأخير، فهم يحملون راية الحق، وجائز لهم كل الإجراءات. وقد يتم صبغ هذا العامل بصبغة براغماتية ترمي إلى الضغط على الفواعل الدوليين لتجنيب الهيئة أقل الخسائر، ومنحها بعض المكاسب المقبولة. ووفقاً لدراسات مختصة، فإن قادة الفصائل العسكرية لا يمكنهم أن يقبلوا بحل تنظيماتهم التي تملك موارد اقتصادية وسيطرة جغرافية ما، بسهولة. وعادةً، تتبنى قيادة هذه التنظيمات قاعدة “البقاء على ذات الحل أو العدم الكامل”. وبنظرة سلوكية سيكولوجية، يرى القائد نفسه والتنظيم وحدة واحدة، بمعنى أن انتهاء التنظيم يعني انتهاءه شخصياً.

 

ـ عدم وجود فصائل موازنة لقوة “هيئة تحرير الشام”: انطلاقاً من فكرها، كحركة تعتبر نفسها “محقة”، فقد “بغت” “النصرة” على الفصائل الأخرى، وأضحت صاحبة الكعب العالي في إدلب، وأمست ترى نفسها الأقوى المعدوم منافسه على الساحة، ولعل ذلك هو الذي دفعها نحو اختيار سبيل المواجهة، فعلى ما يبدو، رأت ظهرها محمياً.

 

ـ دور إقليمي: بات الصغير قبل الكبير يعلم مدى العلاقات التعاونية الرابطة بين قطر و”هيئة تحرير الشام” أو “جبهة النصرة”. وهذا ما يدفعنا إلى توقع أن قطر هي التي دفعت “النصرة” في هذا الاتجاه، لفرض ذاتها على مسار الحل الجاري.

 

في الختام، قد ينتج عن خوض “هيئة تحرير الشام” عملية عسكرية نتيجة عكسية تصب، نسبياً، في صالح النظام وإيران على حساب تركيا. ولإنهاء خطر الهيئة يمكن أن تنحو تركيا نحو تحقيق سيرورة “التحلل الناعم” للهيئة، والتي تعني فك الهيئة من الداخل عبر التواصل مع الفصائل “غير القاعدية” التي قد تتحول إلى معتدلة، والتواصل مع بعض “الشرعيين” الواقعيين أصحاب المسوغ الديني الذي قد يدعم الرؤية التركية، واستقطاب قيادات الشبكات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة داخل الهيئة، والذين قد يقبل بعضهم بالحل في مقابل الأمان حتى المؤقت منه، ودمج أكبر عدد ممكن من الفصائل، لا سيما السلفية منها، داخل إطار “الجيش الحر” المحسوب على تركيا، وتصفية “حراس المعبد” من أصحاب المناصب الأمنية والعسكرية والدينية الذين يرفضون أي مبادرة.

 

*جلال سلمي باحث فلسطيني مقيم في تركيا.

Optimized by Optimole