ماذا قال بورخيس في الشاعرَيْن بدر شاكر السيّاب وأدونيس؟

Spread the love

شجون عربية – بقلم: أحمد فرحات* –

هذه الحلقة الحادية عشرة، وليست الأخيرة، من حوارٍ بانوراميّ كنتُ أجريته شخصيّاً مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة، الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986). كان ذلك في باريس في العام 1978، وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، الناشطة الثقافيّة الفرنسيّة من أصلٍ أرجنتينيّ، والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس، وجعْله يمنحني أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوباً بحماسة مع جدلِ الأسئلة والأجوبة والمُناقشات، شجَّعه على ذلك أيضاً أنّني كنتُ بالنسبة إليه “الشاب العربيّ الأكثر قراءة واستيعاباً لأعماله الإبداعيّة ولبؤرة شخصه المُتمحور فيها”، حسبما أَخطرتني بذلك في ما بعد الصديقة غونزاليس. وهذا الأمر، على الأرجح، هو الذي فتحَ لي باب الصداقة الوثيقة معه، والالتقاء به لاحقاً في باريس، وفي جنيف، المدينة الأحبّ على قلبه، والتي مات ودُفن في “مقبرة الملوك” فيها في العام 1986.

في هذا الحوار معه، تناولَ بورخيس بعض مدارات الشعر العربيّ بوجهيه القديم والحديث، عاكساً خلالها مدى اطّلاعه العميق، وبصورة أكثر تخصيصاً، على تجارب شعريّة رياديّة حديثة لاثنَيْن من أهمّ رموزه ومُمثّليه: بدر شاكر السيّاب وأدونيس، فقال:
“العرب قوم الشعر في الماضي والحاضر وربّما في المُستقبل. وأهميّة الشعر لديهم أنّه أشبه بمرآةٍ تعكس واقعهم وأخلاقهم ومبادئهم وقصصهم وتلاوين حياتهم المتعدّدة في الصحراء وداخل المُدن العريقة التي أسّسوها، فضلاً عن صراعاتهم القبليّة أو حروبهم شبه المُستدامة، حتّى مع بني جلدتهم في القبيلة الواحدة، وكذلك حروبهم مع غيرهم بالطبع، علاوة على مواقفهم الوجوديّة والفلسفيّة والتصوّفيّة والتأمّليّة بوجهٍ عامّ، وخصوصاً بعد المرحلة الجاهليّة (والتي أراها مُهمّة للغاية على مستوى النِّتاج الشعري العربي الكلاسيكي القديم)؛ ولذلك سُمّي الشعر لديهم بـ”ديوان العرب وعنوان الأدب”؛ والطريف أنّ الذي أَطلق هذه التسمية هو الشاعر العربي المرموق أبو فراس الحمداني.

وأَردف بورخيس: “يلفتني من شعراء الماضي العربي القديم امرؤ القيس والنابغة الذبياني، ثمّ لاحقاً المتنبّي والمعرّي، وفي ما بعد، وتحديداً في المرحلة الأندلسيّة، الشعراء: عبادة بن ماء السماء، ابن خفاجة، لسان الدّين الخطيب، أبو البقاء الرندي وابن حمديس الذي جاء من صقلّية إلى أشبيليا في زمن المعتمد بن عبّاد ومات في حزيرة مايورغا”.

السيّاب

أمّا من الشعراء العرب المُعاصرين منذ منتصف القرن الماضي أو ما هو أقلّ بقليل، والذين سُمّوا في ما بعد، بـ”شعراء الحداثة العربيّة”، بحسب الأدبيّات النقديّة التي وصلت إلينا باللّغات الإنكليزيّة والفرنسيّة وحتّى بالإسبانيّة، فلَفتني من بينهم كلٌّ من الشاعرَيْن الكبيرَيْن: بدر شاكر السيّاب وأدونيس.

الأوّل وهو السيّاب، فقد كان شاعراً رومانسيّاً غيَّرَ من شكل القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة ولكنْ ليس من أبخرتها الروحيّة الموروثة، على الرّغم من انفتاحه على الشعر الغربي، والإنكليزي منه على وجه التحديد. وقصائده بالعربيّة التي كانت جديدة في وقتها، تمتّعت بنَوعٍ من العذوبة حتّى في الجانب السياسي منها. وزاد من أهمّيتها في ما بعد، استخدامه الأسطورة والرمز (تمّوز، عشتار، أدونيس، أورفيوس، سيزيف، ميدوزا، المسيح… إلخ). ومع دخوله في دائرة هذا الاستخدام أَخذت قصيدته تتغيّر وتكتسب بُعداً أكثر تجاوزاً ووعياً بالحياة والوجود. ولو قُدّر للسيّاب أن يعمّر أكثر، لكانت تجربته الشعريّة المُكتنزة قد تطوَّرت أكثر، وانقلبت على نفسها إبداعاً، أكثر فأكثر. فهو، ولا شكّ، يمتلك حسّاً شعريّاً خصباً ويستطيع أن يستثمره في لغةٍ عربيّة متجدّدة تكون منسجمةً مع ثقافةٍ عالَميّة تهتمّ بلَيْلِ الآخرين الآتين من أُممٍ أخرى.

أدونيس

أمّا أدونيس، فهو يقف في طليعة شعراء الحداثة العرب بلا مُنافِسٍ جدّي له، حتّى من الأجيال الشعريّة التي لحقته. شاعر استوعبَ مراحل الشعر العربي التاريخيّة كلّها، وانطلق منها بكفاءةٍ عالية إلى التحديث الحقيقي، فشقَّ فتوحاتٍ شعريّة جديدة ومُبتكَرة، لغةً ورؤيةً على المستوى العربي، الأمر الذي جَعَلَهُ يفرض نفسه، حتّى على المشهديّة الشعريّة في الغرب نفسه الذي أثَّر في سياق التجارب الشعريّة العربيّة الحديثة بصورة إجماليّة، بهذه الكيفيّة أو تلك.

وأهميّة أدونيس تتأتّى من كونه كان أيضاً، ولا يزال، ناقداً لافتاً، بل ومنظّراً للشعر في إطارٍ عربيّ وعالَميّ شامل. ولقد سمعتُ شيئاً مؤيّداً لكلامي الاستنتاجي هذا من الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، وأيضاً من الروائي وعالِم الاجتماع المكسيكي كارلوس فوانتيس ماسياس، المعروف بحبّه للشعر من موقعه كروائي متفرّد. وأنا شخصيّاً (والكلام لبورخيس طبعاً) أفضّل الشعراء/ النقّاد على الشعراء من ذوي البُعد الواحد، لأنّ الشاعر/ الناقد يستطيع مُعايَنة تجربته وتصويبها، وبالتالي كشف ما يعتريها من تبدّلاتٍ حادِثة مع الزمن؛ والزمن، كما تعرف، له سلطته على الشاعر، وليس على الشعر سيّد المعلوم والمجهول في طيّاته المجرَّدة التي تنتظر مَن يكتشفها ويَخترق عبرها حدود الرؤيا الكونيّة المُبهمة. وقلّة قليلة من الشعراء تدرك ذلك وتُفَلْسِفُه وتُعاينه لذاتها وللآخرين.. وهكذا فرصد الوقائع الزمنيّة المتبدّلة، إنّما يكون بلَون وجودها فينا كبشر، وبالتحديد في ذاتات الشعراء الأدلّاء الذين يعكسونها بالضرورة في أشعارهم المتحرّكة والمُواكِبة. وكم يذكّرني أدونيس الشاعر الناقد لتجربته والحاكِم عليها هنا، بشاعر روسيا الكبير ألكسندر بوشكين الذي قال عبارة لا تزال ترنّ في ذاكرتي حتّى اللّحظة: “أيّها الشاعر أنتَ المحكمة العليا لذاتك”.

وأدونيس أيضاً مفكّر تشغله قضايا بلاده العربيّة المعقّدة والمنشبكة مع قضايا العالَم، فيسعى إلى رسمِ حلولٍ لها بأدواته هو كشاعر مفكّر، وليس كسياسي بطبيعة الحال، وإنْ رأيناه أحياناً كشاعر، وعلى غرار شعراء مفكّرين آخرين في هذا العالَم، يؤثر الاندفاع، بوعي منه أو من دون وعي، صوب الاتّجاه الانطوائي، مُفضّلاً اليأس على الأمل، والغريزة على العقل، والفرد على الجماعة، وكلّ ذلك لأجل، لا البقاء في هذه الحال المُستهجنة من التمرُّد المعكوس، وإنّما للاستعداد للانطلاق منها إلى ضفافٍ تغييريّة قارّة وقاطعة هذه المرّة.

نعم، الشعراء مسؤولون عن هذا العالَم، حتّى وإن كانوا يتخبّطون في الأعقد من أزماتهم الفرديّة والمُجتمعيّة. وأنا شخصيّاً لا استثنيهم من دائرة واجب تنكُّب المعرفة والتثقيف المتجدّد للآخرين، وفي طليعتهم رجال السياسة، مهما بلغ احتدام صراع العقل الفاعل فيهم (أي الشعراء) مع العقل المُنفعِل. ولا غرابة في ذلك، فالصعب والسهل يكمّل كلٌّ منهما الآخر في يقين الشعراء.

وكيف قرأتَ شعر أدونيس؟ وما النماذج التي قرأتها له ومكَّنتك من الحُكم عليها وعليه في آن معاً؟ سألتُه فأجاب:
قرأتُ له من ضمن ما قرأت، مجموعة شعريّة تميّزت بقصائدها الطوال جاءت تحت عنوان: “وقت بين الرماد والورد” ولَفتني خلالها توجّهه الشعري البانورامي في قصائدها كلّها وبخاصّة قصيدته: “قبر من أجل نيويورك”. وهي مُطالَعةٌ شعريّة نقديّة ثالثة مُلفتة لهذه المدينة/ الظاهرة، سبقهُ إليها الشاعرُ الإسباني فريدريكو غارسيا لوركا في العام 1929 ثمّ في ما بعد الشاعر السنغالي الفرنكوفوني ليوبولد سنغور الذي كَتَبَ في نيويورك قصيدةً يدين من خلالها الزمن الديكتاتوري الرأسمالي الأكثر توحُّشاً، فضلاً عن عاهة التمييز العنصري بين الأسود والأبيض فيها.

أمّا قصيدة أدونيس في نيويورك، فلا تقلّ أهميّة عنهما، وهو فيها ينمّ عن شعريّة الفكرة النقديّة التي تؤكّد على إدانة فعْل القتل في سبيل السيطرة على العالَم باسم الحريّة وشعْلتها. وواضح أنّ هذا المَسار المكمِّل لمَسارات العصور الهمجيّة في التاريخ القديم، سيُسرِّع من اندفاعها إلى مصيرٍ يُماثل المصير الذي انتهت إليه الإمبراطوريّة الرومانيّة.

أثبت أدونيس في قصيدته “قبر من أجل نيويورك” أنّ الشعر في القرن العشرين تخلّى عن أن يكون غنائيّاً بحدودٍ كبيرة، ولجأ فيه الشاعر إلى “تذويب” الفكر السياسي بالحسّ الشعري، وكذلك باللّغة الشعريّة، الأمر الذي انعكس إيجاباً على القصيدة ونتائج علاقاتها الجديدة أو المُتجدّدة بقرّائها، فصارت في مساحةٍ كبيرة منها جزءاً لا يتجزّأ منهم، على الرّغم من أنّها لم تقدِّم لهم مفاتيحها بسهولة.

هل صحيح سيّد بورخيس أنّ بعضاً من الأدباء والكتّاب الأرجنتينيّين من أصولٍ عربيّة كانوا يساعدونك في تعميق قراءة نماذج كثيرة من الشعر العربيّ الحديث والقديم على السواء؟…أجابني من فوره:
نعم، في أثناء إقامتي شبه الدائمة في جنيف، وفي زياراتي المتكرّرة لعاصمة بلادي بوينس آيرس، كنتُ محظوظاً للغاية بلقائي بنفرٍ من الأدباء والشعراء الأرجنتينيّين من أصول عربيّة. كانوا هُم – ولهم الشكر كلّه – مَن يتولّى مُبادرة الاتّصال بي لإطلاعي على آخر نتاجات كبار الشعراء والروائيّين العرب والتداول معي بشأنها، تقييماً وتقويماً، ومساعدتي أيضاً على استيعاب بعضها مباشرة من متونها العربيّة، وخصوصاً النصوص التي كنتُ شخصيّاً أطلبها منهم، وأكون قي الوقت نفسه قد أَنجزتُ قراءتها مُترجَمةً إلى الإنكليزيّة أو الفرنسيّة أو الإسبانيّة في بعض الأحيان.

بلى، استفدتُ من جهد هؤلاء الشباب في تصويبِ أمورٍ كثيرة تتعلّق بتعزيز فهمي واستيعابي لنصوصٍ شعريّة وأدبيّة عربيّة حديثة، في طليعتها نصوص بدر شاكر السيّاب وأدونيس وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأنسي الحاج وسعدي يوسف ومحمّد الماغوط، مثالاً لا حصراً. وكذلك قصائد لشعراء عرب قدامى مثل المتنبّي والمعرّي والبحتري وأبي تمّام وابن عربي العظيم صاحب “الفتوحات المكيّة”. فضلاً عن سرديّات عربيّة آسرة خاصّة بالجاحظ والتوحيدي والبيروني والأبشيهي وابن المقفّع ومُسترسلات “ألف ليلة وليلة”… إلخ؛ وهُم بذلك (أي الشباب الأرجنتيني من أصل عربي) بَذلوا جهوداً طيّبة ومُجدية وجبّارة في الحقيقة، هكذا لوجه الثقافة والإبداع الخالص، عربيّاً وعالميّاً.

وهذا النفر من الشباب الأرجنتيني المُتحدّر من أصولٍ عربيّة لآباءٍ من جيل المُهاجرين في المائة سنة الأخيرة، كان حريصاً في الأساس، على أمانة أن يتعلّم اللّغة العربيّة التي أوصى بها وشدَّد عليها آباؤهم ممَّن أدخلوهم سائر المدارس التي كانت تُدرِّس لغةَ الضادّ في بوينس آيرس، وهي كانت قليلة العدد مع الأسف.

وثمّة آباء عرب مُهاجرون آخرون كانوا يستقدمون أساتذة لغة عربيّة مباشرةً من بيروت ودمشق والقاهرة لتدريس أبنائهم العربيّة في المنازل؛ وهؤلاء بالطبع كانوا من طبقة الأغنياء الموسرين، الغيارى بدَورهم على ربْطِ أبنائهم بلغةِ الآباء والأجداد في العالَم العربي. وقد نَبغتْ من بين هؤلاء الأبناء الأرجنتينيّين في ما بعد أصواتٌ مهمّة في فضاءات الشعر والرواية والقصّة والمسرح والسينما والفنّ التشكيلي، فضلاً عن المُشتغلين في حقول القضاء والقانون والمُحاماة والطبّ والصيدلة والهندسة. كما أنّ البعض منهم كان قد تبوّأ مَناصب سياسيّة وقياديّة عليا في وطنه الجديد… المهمّ أنّ نفراً من هؤلاء الشباب الشعراء والأدباء الأرجنتينيّين من أصولٍ عربيّة، كان يتّصل بي، ويَعرض عليّ خدماته الثقافيّة دونما مقابل؛ وتلك لعمري ظاهرة ثقافيّة مُدهشة قلَّ نظيرها في عالَم ثقافات اليوم؛ وربّما لهذا السبب ما زلت أحتفظ بأسمائهم نديّة في ذاكرتي وهُم: أنطونيو لوبيز إبراهيم، ومارسيلو ماتياس عيسى، وباولو فرنانديز فيّاض، وأدولفو رودريغز سالم.. وأنا مدين لهم جميعاً بهذه “المُثاقفة الإبداعيّة” الماراتونيّة العميقة التي استفدتُ منها، وعوَّلْتُ عليها في الحُكم على إبداعِ قاماتٍ كبيرة في الشعر العربي بوجهَيه القديم والحديث، والأمر عَيْنه ينسحب على رموز السرد العربي ممَّن سبقَ وذكرت أسماءهم. وفي الخلاصة أقول إنّ الإبداع يستتبعه دوماً إبداعٌ جديد يكمّله، ويَدخل بدَوره سجلَّ التاريخ وآفاق التغيير الذي لا بدّ أن يعني الجميع، كلّ الجميع على وجه هذه الأرض.

بورخيس.. ما هو حَجَر أساسكَ كشاعرٍ وكساردٍ أيضاً.. وأين نصيب التأثير العربيّ عليك فيهما؟
بعد إطراقةٍ منه دامت أقلّ من نصف دقيقة، أجاب مُحدّثي الذي يتمتّع بمَلامح إغريقيّة لافتة وشامِخة:

في صورة الأدب بوجهٍ عامّ، كان التذبذُب، ولا يزال، حاصلاً بين الشعر والنثر، لكنْ تعلَّمتُ من العرب أنّ الغلبة هي دائماً للشعر، فهو اللّغة الإبداعيّة الأصليّة لهم، وربّما أكثر من سائر الشعوب الأخرى.

كما علّمني العرب أنّ فنّ السرد الروائي هو في نهاية المطاف قصيدة مكثّفة. وسرفانتس عملاق أدباء وشعراء اللّغة الإسبانيّة، كان من خلال رائعته: “دون كيخوتي دي لامنتشا” بين عامَي 1605 و1615، أوّلَ مَن مَزَجَ بين المُبدعين الأوروبيّين الشعر بالنثر، ومهَّد لما سُمّي في ما بعد بالواقعيّة السحريّة في الأدب السردي عن طريق تطعيم الكثير من عناصر الفانتازيا والإدهاش في نصوصه.

كما كَتَبَ سرفانتس الشعر الملحمي بالنثر أيضاً، وعلى قاعدةٍ كتابيّة متعدّدة الأشكال والألوان ومعاني البثّ الساخر والجدّي والطارىء بساعته، وكانت كلّ تلك الأساليب والخلائط، وما تندّ عنه، بمثابة علاج للتمزّق الذي كان يعتريه.

كما تأثّر سرفانتس في رائعته: “دون كيخوتي دي لامنتشا” ببعض سرديّات “ألف ليلة وليلة” وبفضاءات السحر الإبداعي الغامض الذي خلَّفه شعراءٌ عرب كِبار في الأندلس، ولاسيّما في أشبيليا التي استقرّ فيها في العام 1593 يعمل في وظيفة جابي ضرائب متأخّرة؛ لكنّه دخل السجن الملكي الأشبيلي لاحقاً بعد إفلاس البنك الذي كان يودع فيه المال الضرائبي. وفي السجن وُلدت روايته العظيمة “دون كيخوتي دي لامانتشا” التي بوّأته لاحقاً أجندة عمالقة كُتّاب هذا العالَم من طراز شكسبير ودانتي وبودلير وميشال دي مونتين وعمر الخيّام.. وغيرهم.. وغيرهم.

مقطع القول سرفانتس هو ابن البيئة العربيّة الأندلسيّة ثقافيّاً، تلك التي امتدّ رشاش تأثيرها إلى عموم شبه الجزيرة الأيبيريّة، ومنها انطلق في ما بعد إلى ما يسمّى اليوم بأميركا اللّاتينيّة بعد غزوة كريستوف كولومبس الشهيرة لها.

وأنهى خورخي لويس بورخيس كلامه بالقول إنّ التراث العربي/ الإسلامي له تأثيره وعلاماته المباشرة، وغير المباشرة، على اللّغة الإسبانيّة وأدبها، واستطراداً كلّ مَن كَتَبَ ويَكتب بها حتّى اليوم، وهو تأثير تاريخي موروث أرجو ألّا يفقد بريقه العظيم بعدما خَفَتَ بريقُ العرب داخل بلدانهم وخارجها هذه الأيّام.

*شاعر وكاتب لبناني.

المصدر: نشرة أفق – مؤسّسة الفكر العربي