زمن الأبطال.. ملحمة كلكامش الجديدة

Spread the love

تأليف: د. عماد الدين عيشة – ترجمة: أحمد صلاح المهدي —

حبست بجفني المدامع لا تجري
فلما طغى الماء استطال على السكر
نسيم صبا بغداد بعد خرابها
تمنيت لو كانت تمر على قبري
لأن هلاك النفس عند أولي النهى
أحب لهم من عيش منقبض الصدر
زجرت طبيبا جس نبضي مداويا
إليك، فما شكواي من مرض يبري
لزمت اصطبارا حيث كنت مفارقا
وهذا فراق لا يعالج بالصبر

سعدي الشيرازي —

“ما هذا يا بني؟”.
سأل البدوي ابنه، وهو ينظر إلى… شيء معدني ضخم يلمع أسفل أشعة الشمس الملتهبة في الصحراء القاحلة.
أجابه الفتى: “يبدو كمحرك طائرة يا أبي”.
قال الأب بتعجب: “انها طائرة مقاتلة”!
قال الفتى: “بالطبع لا يا أبتي، إنه فقط المحرك الذي يشغلها”، ثم أشار نحو السماء؛ رأيا تشكيلًا من الطائرات المقاتلة بالقرب منهما، الله وحده يعلم إلى أين هم متجهون. الموجة الأخيرة كما قيل.
قال البدوي بلهجة انتصار: “إذن يمكننا بيعه على هيئة خردة”.
قال الفتى محتجًا: “لا يا أبي، أريد الاحتفاظ به”، ثم مرر يده على الغطاء المعدني، فدغدغ جلده الخشن.
قال الأب: “ماذا ستفعل به؟ هل ستبني به منزلاً على الشجرة مثل الأجانب؟” لم يكن لديهم شجر في المعسكر لبناء بيتٍ عليه.
أفصح الفتى من دون تفكير: “تجارب!”.
كان صبيًا متقد الذهن، وأبوه يعرف ذلك قطعًا. لا ضير من ذلك، مجرد… هواية أخرى من هواياته الغريبة. من الصعب التخلّص من تلك التقاليع هذه الأيام، وخصوصًا بين الصغار، كما أن هذا سيبقي ابنه هادئًا حتى موعد الغداء، إذن فليكن.
عشيرته لديها ما يكفي من الجمال لجذب هذا المسخ المعدني والعودة به معهم، من دون إرهاق أي من الحيوانات، لا مانع من هذا المزاح .
أعني، كيف يمكن أن تسوء الأمور؟

***

كان “الشيء” أخف مما توقع، كأنه مصنوع من مادة أخرى غير المعدن، أو ربما مجوّف من الداخل.
أصر ابنه مصطفى أن يمتطي هذا الشيء المعدني في طريق عودتهم إلى المعسكر، كان الفتى أخف من الريشة لذا لم يكن عبئاً بالنسبة إليهم، كما أنه حرص على أن تظل الحبال ملتفة جيدًا حول الجسم المستطيل طيلة الرحلة، كشبكة صيد تجذب حوتًا رماه الموج على الشاطئ، وبدا ابنه كنسخة مصغرة من النبي يونس عليه السلام.
قال مصطفى: “هل يمكن أن أدلف داخله؟”، ثم حاول أن يفتحه، كان يمتلك الأدوات والمعرفة اللازمة لذلك.
قال أبوه رائد وهو ينفض الغبار عن ملابسه: “انتظر حتى الغد”. كانت لديه أولويات أخرى، فقد توارى أخر شعاع للشمس وراء الأفق، وهما لم يضعا في جوفهما أي شيء طيلة اليوم. الغداء يعد رفاهية في تلك الأيام. سيضطرون إلى جمع الوجبات في وجبة واحدة، كما جمعوا الصلوات أثناء رحلتهم، فقصر الصلاة أثناء السفر هي سنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سرعان ما أمسى الغداء رفاهية لسكان المدينة أيضًا، سكان المدينة السابقين.
لم تكن صفوف البدويين متكدسة بهذا الشكل أبدًا عبر التاريخ المكتوب، كان سكان المدن يفرون إلى الصحراء كما لم يحدث من قبل. حسنًا، ليس منذ أيام جدهم الأكبر، النبي إبراهيم عليه السلام. كان التاريخ يعيد نفسه في القرن الحادي والعشرين مع الأسف، أحس رائد بالحزن لذلك.
لهذا السبب كان ابنه الوحيد ذكيًا للغاية. أساتذة جامعيون يعيشون جنبًا إلى جنب مع حثالة الأرض، الأناس الذين يزدرونهم ويرغبون في نسيانهم. الله وحده يعلم ما الذي ستصير إليه الأمور فيما بعد.
حان وقت الحديث مع أخته ليرى ما الذي قد أعدته لهما في الموقد الذي يعمل بالطاقة الشمسية.

***

استيقظ مصطفى في منتصف الليل.
لم يستطع انتظار شقشقة فجر اليوم التالي، سيفحص الآلة قبل أن يستيقظ أحد ويدرك ما حدث.
تسلل من فراشه، وأمسك في يده بمصباح طاقة شمسية، وقد علق حول خاصرته حزام الأدوات وجهازاً لوحياً هولوغرامياً.
تلفت حوله ليتأكد من عدم وجود متلصصين بالجوار. كانوا قريبين للغاية من الحدود الإيرانية. هذا الجزء من الحطام هو على الأرجح كل ما تبقى من سلاح الجو العراقي.
ولكن الغريب مع ذلك هو أن العلامات على محرك الطائرة ـ إن كان كذلك حقًا ـ كانت بالإنجليزية، ليست العربية ولا الفارسية.
هل كانت طائرات أجنبية هي التي تقاتل طيلة الوقت؟ هذا لن يثير دهشته، فزعماؤهم قد باعوا أرضهم مرات عديدة لحمل الآخرين على القتال من أجلهم. ولكن على أيّ حال ليس هذا ما يشغله الآن؛ حان وقت تفكيك هذا الشيء، قطعة بقطعة.
ربما يمكنه أن يصنع منه لوح طاقة شمسية، أو طبق استقبال لإشارات الهواتف الخلوية، أو سيارات لسباقات الرالي، أو صاروخاً ليصل إلى النجوم، أو درعاً من المعدن اللامع… أو… أو…
هناك احتمالات لا نهائية.
شرع على الفور في فك البراغي التي تحفظ هذا الشيء متماسكًا.

***

“ما الذي تفعله عندك أيها الفتى؟ عد إلى هنا على الفور!” كان أبوه يعرف أين يبحث عنه، فقد استيقظت عمة مصطفى في الليل وجدت فراشه شاغرًا، خافت أن يكون مكروه قد ألم به.
ولكن أباه كان يعرف الحقيقة.
“مهلًا يا أبي، لقد أوشكت على الانتهاء…” كان قد فرغ من حل آخر البراغي، عندما اجتاح جسده كله إحساسٌ بالدغدغة.
تسللت هالة مضيئة من شقوق جسد الشيء المعدني، ثم اجتاحتهما دوامةُ من ألوان قوس قزح قبل أن تتحول إلى زوبعة من ضوءٍ ساطح يعمي الأبصار.

***

قال رائد وهو يشعر بالعطش والخوف: “أين نحن؟”
كان الخوف هو الشيء الوحيد الذي يكبح جماح غضبه من مصطفى.
كانا قد استيقظا في النهار، ورأساهما كأنهما يقرعان بالمطارق، وقد اختفى المعسكر، كأنه لم يكن هناك قط، بلا أدنى أثر، لا خطوات أقدام، ولا بقايا حط النيران، لا خدوش على الرمال، لا قمامة، لا شيء على الإطلاق.
أي سحر هذا؟ حتى لو حدثت غارة كانت لتترك أثرًا؛ جنازير دبابة، خطوات أحذية، صارية علم، مظاريف فارغة من إطلاق النار، رائحة اللحم المحترق، ولكن لم يكن هناك شيءً من ذلك.
يمكنهما أن يستدلا على موضعهما ليلًا، أن يهتديا بالنجوم الخالدة. بالنهار هما ضائعان، والصحراء ذاتها بدت مختلفة، لم تكن مقفرة بالقدر الذي اعتادها عليه.
كان هناك رقع من الحشائش هنا وهناك، وكانت هناك … آثار، استطاع أن يراها في الأفق، أثار مخالب.
كيف يعقل هذا؟ كان رائد يظن أنه لم يعد من ذئاب في الوقت الحاضر. أما الأسود فهو لم يسمع عنهم سوى في الحكايات وهم متحلقون حول نار المخيم.
وأين هذه الآلة الشيطانية؟
ولكن أولًا وقبل كل شيء عليهما أن يستظلا من الشمس وأن يعثرا على بعض الماء العذب، من دون أن يضيعا أي وقت.

***

قال مصطفى: “أتمنى لو أنني قد أحضرت حقيبتي معي”، ثم تجرع جرعة أخرى من الماء الذي بدا لذيذًا كالعسل بالنسبة لشفتيه الظمآنتين.
قال رائد: “أتمنى لو لم نتورط!”، كان صوته هادئاً لا حدة فيه ، كان أكثر حيرة من أن يلقي عليه باللوم. كان هناك الكثير من النباتات، فلم تكن هذه واحة مهجورة. فيها نبع ماء عذب، وهنالك غزلان بالجوار، قطيع كامل منهم، وهذا ما أقلقه.
فحيثما تكون هناك فرائس، تكون هناك حيوانات مفترسة. ولكن لم يكن معهما أي شيء ـ ولا حتى خنجر ـ ليدافعا به عن نفسيهما.

***

صاح مصطفى بصوتٍ أعلى مما يفترض به: “أنظر يا أبتاه! آثار!”.
كانا يسيران عكس اتجاه الرياح، هذا يعني أنه باستطاعتهما شم رائحة أي شيء أمامهما، بينما لا يستطيع أي شيء أمامهما أن يشم رائحتهما.
نظر رائد إلى حيث يشير ابنه، فرأى خطين متجاورين في الرمال، آثار عجلات، وآثار حوافر. عربة يجرها حصان، وقد مضى من هذا القرن ما مضى؟ ربما يكون بائع فاكهة قد ضل طريقه، ولكن هل ابتعد هذا القدر في الصحراء؟
كان صبره ينفد مع مرور كل دقيقة، يجب عليهما مواصلة السير.
أخذ رائد يتشمم الهواء بأنفه.
سأله مصطفى: “ما الأمر يا أبتاه؟”
أخبار سيئة.

***

لقد أرسله الحكماء، بعد وصول أخبار عن شيء يتربص بهم، وحش يخيف قطعان الماشية وقوافل الجمال التي تغذّي المدينة.
هذا أمرٌ خطير، لو تذوق هذا الوحش!! اللحم البشري، لن يكون نهاية لخطره. هذا الحيوان، أيًا كان، لن يكتفي مجددًا بلحم الغزلان أو الماعز أو حتى الخيل. سيزحف وحشٌ أسوأ منه أسفل جلده، يجعله متعطشًا للدماء، لن تناسبه أية فريسة بعد الآن سوى الإنسان.
ستبارك الآلهة من يذبح هذا الحيوان، من يخرج إلى البرية حيث لا يجرؤ على العيش إلا الملعونون.
هناك رجل واحد يصلح لهذه المهمة. لقد توسل إليه مجلس الحكماء أن يرتدي درعه المعدني، ولكنهم كانوا يعرفون جيدًا أنه لن يستمع لهم.
لهذا كان هو الأصلح لهذه المهمة.

***

يا للدقة! قال رائد ذلك لنفسه وهو ينظر في رهبة إلى السهم الخشبي البارز مباشرًا من عين الحيوان.
أما مصطفى فقال لنفسه إنه حظ المبتدئين.
تجاهلهما الرجل الملتحي ذو الشعر المموج والعضلات المفتولة. كان اهتمامه منصبًا فقط على غنيمته، وسيفه القصير جنبه، يده ترفرف فوقه. كان يتقدم ببطء ناحية الحيوان، وقوسه معلق وراء ظهره.
قال له مصطفى: “يجب ألا تأكل لحم الحيوانات المفترسة، هذا محرم”، وأراد أن يضيف أن هذا الفعل يفسد التوازن البيئي، ثم قال بثقة: “ألا تعرف تعاليم الدين في هذه المسألة؟”
لم يكن مصطفى بمثل هذه الثقة والأسد يطارده. لقد قفز ناحيتهما من وراء إحدى الكثبان الرملية، فاحتمى الفتى وراء جسد أبيه، قبل أن يأتي سهم من حيث لا يدريان لينقذ حياتهما.
من يستخدم الأسهم هذه الآونة؟ في زمنٍ صارت فيه طائرات الأباتشي موضة قديمة، حتى البدو يستخدمون بنادق الطاقة.
قال الفتى: “أنا أتحدث إليك!”.
قال رائد موبخًا: “أصمت”، فقد رأى أن أسلوبه يفتقد إلى التهذيب ويفتقد أكثر إلى المنطق.
سار مصطفى ناحية الرجل، و… عربته. كان الرجل يربط الأسد إلى صندوق خشبي، يجرّه حصانان، ليسا من الخيول العربية على الإطلاق، بل بديا كحيوانات المزارع.
لا عجب أن هذا الرجل ـ الصياد على الأرجح ـ يحتاج إلى قوسٍ وأسهم؛ فهذان الحصانان المسكينان بعبئهما هذا لا يستطيعان أن يسبقا بغلًا.
قوس وأسهم، ورمح ـ العديد من الرماح ـ وفأس، وهراوة، وسيوف، و… لم تكن هذه الأشياء مصنوعة من الحديد، بل بدت مائلة للون الأصفر، مثل البرونز أو النحاس . وملابس الرجل؛ كان صدره عارياً، فالشيء الوحيد الذي يرتديه عدا نعليه كانت تنورة. هل هو من إسكتلندا؟! هل كان الكلتيون ذوي بشرة داكنة وعيون سوداء وشعر مجدول بجدائل صغيرة؟ ولحى بلا شوارب؟
لا شك أنه عربي، بالرغم من بشرته الضاربة إلى الحمرة! وأمير بن قومه، بناءً على الطريقة التي يمشي بها.
سأله مصطفى من دون مناشدة: “هل يمكنك على الأقل أن تأخذنا إلى بلدتك؟”
لم يقل الرجل كلمة واحدة منذ ظهوره، هل يعقل أنه لم يفهم ما نقوله؟
تجاهلهما الصياد وهو يمتطي عربته ويستعد للمغادرة، فلم ينظر ورائه سوى لوهلة واحدة.
بدا أن مصطفى وأباه ينكمشان في الأفق قبل أن تبدأ عربة الخضروات المتهالكة حتى في الحركة. هكذا تشعر في الصحراء الشاسعة، وحيداً وضئيلاً، وخصوصًا لو لم تكن مسلحًا، على عكس هذا الزميل، بعدته الهجومية المتكاملة.
وكأنه قد قرأ تعبيرات وجهيهما، لمعت نظرة فضولية في عيون الصياد، ثم دعاهما بابتسامة لركوب العربة.

***

لم يكن الرجل وقحًا، ولم يكن فظًا، هو فقط لا يثق في قاطني الصحراء، ناهيك عن أولئك الذين يرتدون ملابس غريبة ولا توجد قبيلة كاملة في أعقابهما. كما أنه لم يستطع فهم ما يقولانه.
لم يستطع فهم كلمة واحدة من حديثهما، فقد بدت له الكلمات كأنها عطاس.
في رحلة عودتهم على الطريق الوعر، استطاع إدراك أن ما يخرج من فمهما هو كلمات، وخصيصاً من فم الفتى الصغير الذي بدا أنه لا يصمت أبدًا. حقًا، الأطفال دومًا هم الأكثر تلهفًا إلى المعرفة. الآن يعرف شعور والده عندما كان في مثل هذا السن الشيطاني.
ولكن الغريب هو أنه رغم عدم تكلمه بلغتهما، وعدم تكلمها بلغته؛ إلا أن بعض الكلمات بدت مألوفة بشكلٍ غريب، مشوّهة كأنها حديث شخصٍ أبله.
أثارت عجلات العربة الغبار وهي تقطع طريقها نحو المدينة البعيدة التي تلوح في الأفق. عندما صارت المدينة أخيرًا على مرمى البصر أحس مصطفى أنها مجرد سراب، ولكنه غيّر رأيه عندما رأى البوابات الخشبية العظيمة تفتح، كوحش فاغر فاه لابتلاعهم.
خرجت العذارى من الأزقة لتمطرنهم ببتلات الزهور، بينما الفتيات الأخريات يلوّحن بسعف النخيل أو يطرقن بلا هوادة على دفوف صغيرة، كان سن معظمهن لا يزيد عن سن الفتى الصغير.
ماذا كان اسمه؟ موسـ ـ طا ـ فا، أو شيء من هذا القبيل، هكذا فكر الملك. سيحب الفتى المكان هنا، الجميع مرحب بهم داخل أسوار المدينة، الجدران التي بناها هو، شريطة أن يثبتوا حسن نيتهم.
وإلا فإنهم سيصلبون على أسوار المدينة ذاتها، كعبرةٍ لمن يعتبر.
سأل مصطفى أبيه بصوتٍ هامس: “أين نحن يا أبي؟”
أجابه رائد: “وكيف يمكنني أن أعرف؟ وما هذه الأكواخ الطينية التي يزعمون أنها بيوت؟ ألم يسمعوا من قبل عن الخرسانة المسلحة؟”
“لا أعتقد أنهم قد سمعوا عن الحديد من قبل يا أبي، ناهيك عن الاسمنت”.
كانت الفتيات اللاتي يؤدين الهتافات لديهن وشوم على وجناتهن، كان هذا مألوفًا بما يكفي، لم يستطع مصطفى مقاومة ابتسامة إحداهن.
كان الرجال جميعًا ملتحين بغض النظر عن عمرهم، وكانت اللحى مؤلفة من تلك الجدائل الصغيرة للغاية، مما جعلها تبدو كآلات أكورديون الموسيقية. وكان الرجال جميعًا قصار وممتلئي الجسم، ببشرةٍ بيضاء شاحبة، ووجوه سمينة ممتلئة، كتلك التي رأوها في الأفلام الأميركية.
أخذهم الرجل، الصياد، إلى ساحةٍ عامة، وأرسل الأسد مع من خمّن مصطفى أنهم خدمه، لا شك أنه سيصير تذكار انتصار، ثم ألقى خطبة إلى الحشد المجتمع ـ لم يكن هناك الكثير منهم في الواقع، لقد رأى مصطفى مدنًا أكبر من قبل ـ وأومأ إلى ضيوفه.
يا لها من لغةٍ غريبة. استطاع مصطفى أن يميّز كلمة أو كلمتين قد تكونان من اللغة العربية، ولكن البقية لم تكن سوى ثرثرة بلا معنى بالنسبة له ولوالده.
المحطة التالية كانت بيت الرجل، قصر بالمقارنة مع الأكواخ الطينية، يخدمه الفتيان والفتيات.
ما أثار انبهارهما عندما دلفا إلى المكان لم يكن الصناديق البرونزية، ولا الدروع والسيوف ـ الأشبه بالسكاكين ـ المعلقة على الحوائط، ولا البلاط الخزفي على الأرض؛ بل كانت أصص النباتات. دومًا ما تلفت الحياة النباتية اهتمام البدوي. أشجار النخيل تزيّن المدينة مثل المآذن في عالمهما، والحقول الخضراء تصافح أعينهما في الأفق. الحياة تبدو يسيرة هنا، لا شك أن المأدبة التي سيدعوان إليها ستكون مشبعة بالفاكهة الغريبة.

***

لم يكن هناك سوى الخضراوات، غير مقطعة، وكمثرى فقط.
كان اللحم جيدًا رغم ذلك؛ لحم ضأن مشوي، ولحم ماعز، وغزلان، ودواجن من أنواع مختلفة لم يريانها أو يتذوقانها من قبل، ولحم الأسد الذي تجنبه كلاهما. كان الرجل كريمًا، فقد دعا جميع رجال البلدة تقريبًا. لم يكتفِ بدعوة التجار والكهان والنبلاء، ولكن دعا كذلك الحرفيين والمزارعين ومن بدا أنهم متسولون. كان الجميع في موضع ترحيب في مسكنه المتواضع.
جلس الرجل على وسادة على الأرض مثل الجميع، لم تكن هناك مقاعد، ناهيك عن عرشٍ. لم يكن هناك حراس واقفون في أي مكان، ولمح مصطفى شحاذًا يختلس طبقًا نحاسيًا صغيرًا.
كان الخبز… غريبًا، لم يبدُ مذاقه مثل أي شيء يعرفانه، وكان منفوشًا للغاية. ولم يكن هناك أرز! ولا توابل، لا كمون ولا كركم ولا ملح ولا فلفل. كم يمكن لأناس بمثل هذا الثراء أن يكونوا عديمي التذوق هكذا؟
كانت كانت التمور جيدًا جيدة كما هو متوقع، وكان متعدد الأشكال والأحجام والملمس حسب مدى نضجه. أما المشروبات فقد قدمت في أقداح غريبة الشكل كرؤوس الكباش، وكان طعمها مثيرًا للريبة. تذوق والد مصطفى عينة منها أولًا، ثم حذر ابنه، واكتفيا بشرب الماء ولبن الماعز. لماذا لا يوجد جبن؟ من في كامل قواه العقلية يمكنه الحصول على لبن ولا يحوّله إلى جبن؟ ما هذه البدائية!
كان الترفيه جيدًا أيضًا، مع أنه لا يشبه أي شيء اعتادا عليه في المعسكر؛ فتيات راقصات وغناء وأناشيد، وهناك تلك الدفوف الصغيرة الصاخبة والآلات الوترية الغريبة التي تعبث بأعصابك. (أخذ والد مصطفى يغطي عينيّ الفتى، وكان هو يتمنى لو غطى أذنيه بدلًا من ذلك).
مرّ الوقت مع استمرار المزيد والمزيد من الأكل والمحادثات والمرح، حتى أوشك اليوم أخيرًا على الانتهاء.
كل شيء لم يؤكل حُمل خارجًا لإطعام الفقراء ـ اللحم خصيصًا ـ وعندما لم يعد هناك فقراء لإطعامهم حمل ما تبقى من خبزٍ وخضروات إلى الدواجن والماشية.
أدرك مصطفى السبب وراء ذلك، إنهم لا يملكون ثلاجات في تلك المنطقة النائية، لذا فكل شيء سيكون مصيره النفايات إن لم يؤكل وعلى الفور، ومن الواضح أن هذا الرجل أنه أكثر من مجرد صياد، إنه شيخ هذه المدينة، ولا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي وهناك جائع في قومه.
كان رجلٌ تسري في عروقه دماءٌ نبيلة، ويفضل أن يجوع هو على أن يشاهد قومه يعانون.
بعض الأشياء لا تتغير أبدًا، ولا يجب أن تتغير، هكذا فكر مصطفى بابتهاج وهو يتوجه إلى الفراش كي يخلد إلى النوم بين ذراعيّ أبيه.
إنه سيحب العيش هنا، أيًا كان هذا المكان!

***
كانوا محاطين بالكهنة، والسحرة، يطوّقونهم مثل أنشوطة حبل مشنقة بشرية. عبقت الرائحة العطرية الهواء، وعلقت بملابسهم مثل ندى الصباح الباكر.
كان جهاز مصطفى اللوحي (الذي يعمل بالطاقة الشمسية) قد أطلق تنبيه إيقاظ في الصباح، ولم يوقظ صوت الأزيز الفتى من نومه وحسب، ولكنه قد جذب الخدم الذين لم يستطيعوا استيعاب الصورة ثلاثية الأبعاد المنبعثة مما قد ظنوا أنه لوح طيني.
الآن لم يعد مضيفهم مرحبًا كذي قبل.
كان جالسًا في منتصف الدائرة، أمام مصطفى ورائد، متوسدًا جائزة الأمس، فراء الأسد. كانت رأس الوحش تشير إليهما، وأنيابه حادة كالخناجر، مثل أول مرة رأوه فيها، وهو يقفز ناحيتها بكل ضراوته وبراعته، قبل أن يسقطه … التعبير الغاضب المترسم على وجه الصياد قطع سحب الحديث المتبادل بين الرجال. كان يشعر أنه تم غدره ، هذان الضيفان هما جاسوسان أرسلا إلى هنا ليخدعاه كي يفشي أسرار دفاعات المدينة. لقد سببا له حرجًا عظيمًا، استطاع مصطفى إدراك ذلك من التعبير المرتسم على وجهه.
لو كان باستطاعته فقط أن يتواصل معهم؛ سيتيقنون أن الأمر كله مجرد سوء تفاهم. كيف يمكنه أن يقول “جهاز لوحي” بلغتهم؟
الجهاز اللوحي هو مفتاح الحل.
يحتاج مصطفى إلى عينة مكتوبة من لغتهم ليستطيع البحث عنها على الجهاز كي يجد المفردات الأساسية ويضعها جنبًا إلى جنب لتكوين جمل مفهومة. كان موقنًا في أعماق قلبه أنهما يتحدثان لغة مشتركة، ولكن الزمان والمسافة قد فرّقا لهجتيهما.
تقدم ناحية شيخ المدينة، مضيفهما الكريم، وأراه الجهاز، ثم كتب عليه في عجالة بعض الكلمات العربية من اليمين إلى اليسار. التمعت عينا الرجل واسترخت ملامحه، لقد فهم، فقومه أيضًا يكتبون من اليمين إلى اليسار، رغم أنه لم يفهم أحرف اللغة العربية المتشابكة.
ألقى أمرًا ما على أحد خدمه، وبعد وقتٍ قصير أحضر له لوح طيني وعود خشبي مدبب، استخدمه في كتابة بعض الحروف على اللوح الطيني الذي لا يزال رطبًا.
صاح مصطفى: “أبي! إنها المسمارية!”.
المسمارية؟ لم يستطع رائد أن يصدق أذنيه! لم يعد أحد يستخدم هذه اللغة في العصر الحديث في أي مكان في العراق. لا يزال الأشوريون والكلدانيون المسيحيون يتحدثون لغتهم القديمة في بعض الأماكن المعزولة في الدولة، ولكن حتى هم يستخدمون كتابة قريبة إلى الخط العربي؛ لا شيء يشبه هذه، أقدم لغة مكتوبة غير مصوّرة في العالم.
بحث الفتى عن اللغة المسمارية في المكتبة الصوتية على جهازه اللوحي، واستخرج الأصوات والمصطلحات الموازية لها في اللغة العربية، ولكنه احتاج أن يساعده أبوه لفعل ذلك. كانت نقطة تفوق مصطفى هي الرياضيات والهندسة، لا الشعر والخطابة مثل أبيه.
“بالله عليك يا أبي، لا يوجد ما تخشاه، نحن هنا وسط أصدقائنا، قومنا”.
خطا رائد خطوة مترددة ناحية مضيفهم، الرجل الذي بدا الآن نساخاً متعلماً يتلقى بإخلاص دروس معلمه لا قاهر وحوش أو سيد قومه.

***

عمل الكهان على تنقيتهما بالأعشاب والماء المقدس وهم يتمتمون بصلواتهم، بينما السحرة يتلون التعاويذ ويلقون أجسامًا منحوتة حولهما لدرء الأروح الشريرة.
حاولوا إقناع الملك أن يغادر منزله ويتخذ مسكنًا في مكانٍ آخر، حتى يتأكدوا أن هذين الإثنين ليسا مصدر خطر، ولكن الرجل لم يقبل ذلك. لقد واجه الأعداء وجهًا لوجه، ورفض تصديق أن هذا الرجل وابنه الصاخب عدوين، قد يكونا مباركين من الآلهة، أو ملعونين، ولكنهما ليسا عدوين من وجهة نظره.
كبّر مصطفى الإسقاطات الهولوغرامية التي تمثل الحروف العربية جنبًا إلى جنب مع ما يقابلها من لغة الرجل ـ التي اتضح أنها الأكادية ـ وجعل أباه ينطق الحروف، وتراكيب هذه الحروف. عندما أخفق كل شيء آخر، استخدم الفتى قاعدة البيانات البصرية على جهازه اللوحي ليري الملك صور أشياء ويطلب من أبيه أن ينطق الاسم العربي، بينما الملك يتحدث بالأكادية.
اتضح أن اللغتين ليستا مختلفتين كثيرًا كما كان يتوقع الطرفان؛ فلديهما جذور لغوية مشتركة، وكلمات وقواعد وحتى تعبيرات متشابهة. كانت العربية أكثر رقيًا وصقلًا، والأكادية حلقية أكثر وتدخل مباشرةً إلى صلب الموضوع (مثل موسيقاهم المزعجة إلى حدٍ كبير)، ولكن هناك نقط التقاء كافية لينسجم العربي التقليدي والأكادي التقليدي سويًا من دون أن يتناحرا.
ولكن الكتابة كانت أمرًا مختلفًا تمامًا، فالكلمات الأكادية مجزأة مثل لحاهم، ومسائلهم الحسابية مرهقة.
كانت الشمس على وشك أن تتوارى وراء الأفق، سيكون هذا أفضل بكثير، طلب مصطفى إحضار المنجمّين ليتمكنوا من مقارنة البيانات. كان أبوه يحفظ الكوكبات النجمية عن ظهر قلب، ولدى ابنه قاعدة بيانات فلكية محملة على جهازه مما سيمكنهما من تحديد مكانهما، والأهم هو تحديد الزمان الذي هما فيه.

***

“أعُدنا في الزمن إلى هذا الحد؟”، قالها رائد وقد سرت في جسده قشعريرة باردة.
لم يكن لديه فكرة أن محركات الطائرات باستطاعتها العودة في الزمن، لا عجب أن الكثير من الطائرات قد اختفت فوق مثلث برمودا، هكذا قال لنفسه.
أما مصطفى فقد أدرك الأمر بشكلٍ أفضل، هذا لم يكن محرك طائرة، بل سلاح سرّي طوره الأميركيون، في محاولة فاترة لمساعدة حلفائهم، العراقيين، في حربهم العظمى الأخيرة مع… الفرس.
الشيء الوحيد الذي أصابه بالذهول هو كيف أن يد القدر قد أخذتهم إلى هذا المكان من بين كل الأماكن، وإلى هذا الزمان، في حضرة رجل ومكان أسطوريين، كلكامش ـ كما يطلق عليه في اللغة العربية الفصحى ـ من مدينة أوروك. لم تكن هذه مجرد مصادفة من وجهة نظر مصطفى.
هذا هو الرجل الذي يحلمون به، الرجل الذي سيعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، لو استطاع فقط أن يتصل باليوتيوب ويريه ما حدث لأرضه الحبيبة، في زمانهما، يمكنهما أن يغيّرا كل شيء.

***

“ما تتحدث عنه ليس ممكنًا”، قالها كلكامش بلغته العربية الثقيلة.
“ولكنه ممكن، أنظر إلينا، أنظر إلى هذا”، أشار الفتى إلى الجهاز اللوحي. كان ذلك في اليوم التالي، وقد أعاد مصطفى شحن جهازه في الشمس، عندما سمحت الغيوم بذلك.
قال الرجل الجليل في تحدٍ: “سحر”.
قال مصطفى في تحدٍ مماثل: “علم”.
“إنهما الشيء ذاته؛ نحن ننظر إلى النجوم لنرى المستقبل، وأنت من المستقبل، أو هكذا تزعم، ومن زمنٍ … لا أتخيل أن العالم سوف يستمر طويلًا إلى هذا الحد.” هل سيظل هناك هواء لنتنفسه في المستقبل البعيد؟ ألن يكون قد استُهلِك حينها؟ وبالتأكيد ستصير الأرض مجدبة حينها ويتبخر الماء في الهواء، وتصير التربة مالحة، والقشرة الأرضية هشة، وينمسخ الحيوانات والنباتات و… البشر إلى أقزام؛ فكيف يمكن لهؤلاء الناس من المستقبل أن يكونوا طوال القامة ونحيلي العضلات بالمقارنة مع البشر الأوليين الأفذاذ الموجودين الآن؟
في الحقيقة كان رائد يفكر في الأمر ذاته الذي يفكر فيه الملك الجليل، لقد تربى على الأساطير التي تروي عن عمالقة ساروا على الأرض يومًا، وأن آدم نفسه كان عملاقًا، وأن البشر في الماضي عاشوا في قصور ذهبية وشربوا من أنهار من اللّيْم، وكانوا محاطين برمالٍ من الياقوت واللؤلؤ. من الواضح أن الحكايات ليست حقيقية في هذا العصر، رغم حياتهم المترفة؛ حتى خواتهم وأساورهم الذهبية تبدو كأسلاك من النحاس، ولم تكن ملابسهم مريحة كما يبدو عليها.
لقد جرّب ارتداء ملابسهم وكل ما أحس به هو “الحكة”، أما هم من جانبهم فكانوا يفحصون ملابسهم بتعجب، ملابس بدوية بسيطة ـ صنعت في الصين ـ كانت ناعمة الملمس في يدهم ومحاكة بطريقة معقدة لا يستطيعون استيعابها، مما أقنع الكهنة والعرافين أنهما ـ مجددًا ـ شبحان من عالمٍ آخر، حيث ينقض عليك البوم من الأعالي لينتزع روحك، ويجذبها إلى ارض الظلال .
كان الملك يقلّب الأمر في رأسه، مفكرًا فيما أخبراه به، عن عالمهما.
دولتهما جثة مريضة ملقاة في الصحراء، تنهشها النسور، جيران الأرض أنفسهم، وليس فقط من يتحدثون لغة مختلفة عنهم؛ لا يستطيع أن يتخيل مثل هذا المصير. أن نوعاً لعيناً من البشر يقبل بهذا العار؟ ألا يوجد رجال في هذا العصر الآخر؟ إنه سيقبل التضحية بحياته من أجل قومه، وهم سيفعلون المثل من أجله، وسويًا سيردعان كل من تسوّل له نفسه المساس بالمدينة.
ما يتحدثون عنه يتخطى حدود المعقول، ولكن من أي مكان آخر يمكن أن يكونوا قد أتوا؟ ولم يكن فقط اللوح الطيني الذي يكتب عليه الفتى، بل كان معه كرة تتوهج في الظلام ولكن لا ينبعث منها أي حرارة، وكانت مصنوعة من معدن فضي لا يستطيع التعرّف عليه، وأدوات من المعدن ذاته يمكنها تفكيك أي شيء معدني.
أي أشباح يمكنهم أن يكونوا مسلّحين بالمعدن؟ أي أشباح يحتاجون إلى الأكل والنوم، ويحتاجون إلى طاقة الشمس لتشغيل أجهزتهم السحرية؟ يحافظ الأشباح على بقائهم بالاعتماد على الظلام، الجميع يعرفون ذلك.
ماذا يجب أن يفعل؟ ما الذي يمكن أن يفعله أي أحد؟

***

قال الملك بصوتٍ أجش: “لن أهاجم جيراني من أجل شيء قد يفعلوه وقد لا يفعلوه في المستقبل، هذا فعلٌ جبان”.
قال مصطفى محتجًا: “ولكنهم سيهاجموننا، لقد أخبرتك بذ…”.
قال الملك موبخًا: “لا يوجد قدر محتوم، أنت بنفسك قلت ذلك”.
ما يحسب للفتى أنه قد أقنعه بذلك على أقل تقدير، ما الذي قاله الفتى؟
هناك إلهٌ واحد وقد ترك القدر كتابًا مفتوحًا لنا، إن كان قد قضى بأن المستقبل لا يمكن أن يتغير؛ إذن لم نكن لنستطيع أن نقطع هذه الرحلة. إن مستقبلكم هو ماضينا، تمامًا كما أن مستقبلنا سيصير ماضيًا بالنسبة لهؤلاء الذين سيأتون بعدنا، الله في السماء يرشدنا، يرينا الطريق الصحيح، لا أكثر. نحن من يجب علينا أن نقطعه.
كان الفتى حكيمًا بشكل يفوق سنوات عمره، وإن كان مندفعًا بعض الشيء.

***

“هل يمكننا على الأقل أن نعقد مجلس حرب؟” كان مصطفى يلح في الأمر مجددًا.
تبادل الملك والبدوي نظرةً متفهمة، كان هناك عصور تفصل بينهم ولكن الآباء يعانون معاناةٍ مماثلة في مختلف العصور.
حان الوقت لتعليم الفتى سنن الكون التي لا تتغير.
ربت الملك على ركبته وقال: “تعال هنا أيها الصغير مصطفى”.
نظر الفتى إلى أبيه، فأومأ له برأس مشجعًا.
جلس مصطفى “على ركبة الملك” أو “على ركبته” ، وقد أحس بأنه غير جدير بذلك.
قال الملك الجليل: “اسألني سؤالًا”.
“عن ماذا؟”
“لماذا بنيت سورًا عظيمًا يحيط بنا، بمدينتي الحبيبة؟”.
“لإبقاء الأسود خارجها”، هذا كل ما استطاع مصطفى التفكير فيه.
عندها ضحك كلكامش، كان من الرائع رؤية أن الضحك، وكذلك الأصوات المعبّرة عن الحزن، لم تتغير، مهما عُدت بالزمن.
قال الملك أخيرًا بعدما تمالك نفسه: “لقد بنيت هذا السور لإبقاء الأسود في الداخل، إن جاز التعبير”.
“أنا… لا أفهم أيها الملك الجليل”.
تبادل كلكامش نظرةً أخرى مع والد الفتى، فرائد بسبب كونه بدوياً فهم كل شيء على الفور.
“أنا ملك هذا حقيقي… شيخ، كما تقول، ولكن حتى الملك ليس لديه سوى مساحة معينة من السلطة لأداء وظيفته، لقد اختارني الحكماء لأحافظ على السلام، ولكي أقاتل أعداءنا؛ ولكن بوسعي إخبارك بذلك، ليس كل أعدائنا يقعون وراء بوابات المدينة. هؤلاء الذين يتخيلون أعداءً حيث لا يوجدون، فينفقون ويلتهمون أكثر مما يستطيعون، حتى تنفجر أمعاؤهم، وقد ينفقون كل مواردنا، وشباب مدينتنا، بلا طائل، وهم يطاردون أشباحًا لا توجد إلا في ظلمات قلوبهم. السور موجود هناك ليبقى طموح الإنسان في حدود متناوله.” ثم صمت قليلًا، ليتذكر كلمات الفتى، قبل أن يكمل: “قدر العالم قد لا يكون محتومًا، ولكن هذا لا يعني أنه باستطاعتنا تقرير أي قدر سيكون. اختبار الرجل الحقيقي هو أن يعرف حدوده”.
كاد مصطفى أن ينفجر في البكاء، ولكنه تمالك نفسه وقال: “إذن باستطاعتنا بناء سور عظيم، حول دولتي؟”.
“حسبما أخبرتنا، فهذا سيكون غير ذي نفع في زمنك، فأنتم لديكم عربات معدنية يمكنها أن تطير في الهواء، ومقاليع تطلق النار باستطاعتها تجاوز أي سور مهما كان ارتفاعه”.
“إذن، ما الذي يمكننا فعله؟”.
“أول قاعدة في القتال هي ألا تواجه عدوًا تعرف أنك لا تستطيع الانتصار عليه؛ لا يوجد أي عار في الانسحاب من ساحة القتال”.
قال رائد: “هذا هو منهج البدو يا مولاي”.
قال مصطفى بسذاجة: “إذن ماذا يفترض أن نفعل، أن نشق طريقنا عبر أنفاقٍ أسفل الأرض؟”
قال الرجل، الملك: “لا شيء دراماتيكي للغاية، هل تعرف بشأن مشروعي البنائي الآخر؟” ثم غمز له بعينه.
عرف مصطفى بالضبط ما الذي يتحدث عنه.

***

أحس رائد بالرعب مما رآه، كيف يمكن لشيء أن يكون كبيرًا إلى هذا الحد؟
أحس كأنه يبتلعه دفعة واحدة، والأرض أسفل قدميه تصير كالعجين. لقد قرأ عنه، ورأى صوره في التلفزيون الهولوغرامي، ولكن لا شيء يمكن أن يعدك لمثل هذا الشيء الهائل.
كان ابنه أعلم. إنها فقط بركة ضفادع مقارنة بما ينتظرهما. إنهما سيصيرا نوعاً جديداً تماماً من العرب.

***

“هل أنت متأكد أن هذا سينجح أيها الملك الجليل؟” سأله البدوي هذا السؤال للمرة الألف.
“ليس لدينا خيار سوى المحاولة. هل تظن أنه من قبيل المصادفة أن الآلة التي جلبتكما إلى هنا لم تأتِ معكما؟ لتحرمنا من الطريقة الوحيدة للمعرفة؟ الشيء الذي يستطيع أن يسافر بك إلى الوراء يمكنه بالتأكيد أن يأخذك إلى الأمام”.
لم يعرف رائد ماذا يقول.
“أنت بدوي، فلتنظر إلى الأمر بهذه الطريقة؛ أليس الجمل سفينة الصحراء؟”.
أومأ رائد برأسه.
“لقد أتى أسلافي من الصحراء، لأن أسلافهم لجأوا إلى هناك بعدما أعماهم غرورهم البشري، فقد اعتصروا الحياة من الأرض حتى أحالوها إلى الصحراء التي حاولوا الهرب منها، كما فعل أسلافهم”. حماقة البشر هي هوة بلا قاع.
قال رائد: “لماذا لا نتوجه إلى الصحراء مجددًا يا مولاي؟ إنها خيار أكثر أمانًا”.
“لا، يجب أن نفاجئ أعداءنا مرة واحدة وإلى الأبد”. وإذا بقيت في الصحراء فترة طويلة، من دون طين لتكتب عليه ماذا الذي تعلّمته ومن أين أتيت، ستنسى من أنت، وتتحول إلى وحش. أبقى كلكامش هذا لنفسه، فلم يرغب في الإساءة إلى صديقه البدوي.
سأله رائد: “إذن لماذا نذهب من دون علم مجلس الحكماء؟”.
هز كلكامش كتفيه ـ إذن لديهم هذه الحركة حتى في هذا الزمن ـ وقال: “لأنهم لن يفهموا، وسيعارضون القرار بضراوة، أو يوشون بنا إلى أعدائنا. لا تشغل بالك، فأنا لن أكسر أي قانون كتب في الحجر”. ثم أضاف في صمتٍ لنفسه، الشكر للسماوات أننا نستخدم الطين، فأي قانون يكتبه البشر من الممكن إعادة كتابته، ما لم يضِع الطين في أتون النار.
“ولكن أنت أسطورة أيها الملك الجليل”.
“هذا هو طريق سقوط أي رجل. دعهم ينشرون الأكاذيب عني، عن غطرستي، عن وقوفي في وجه الآلهة وإهانتهم. لقد أديت دوري. لا يوجد مدينة تستمر إلى الأبد، رغم أنه يؤلمني قول ذلك. سأبحث في الخارج عن مراعٍ أكثر خضرة، وأحمل معي من قومي من يرغب في أن يتبعني نحو المجهول بإرادته الحرة”.
“أين ستكون محطتنا الأولى أيها الملك الجليل؟”.
“أنت الرائد يا رائد، وأنا أثق في حكمك”. كانت عربية الملك تتحسن مع كل يوم، كان قادرًا على استيعاب المعنى الحقيقي لكلمة رائد.
أجابه رائد في تواضع: “أنا أثق في حكم ابني، هو من اختارته يد القدر، كما أنبأ اسمه. لقد ماتت زوجتي أثناء ولادته، وكانت أمنيتها دوماً أن تسمّي ولدنا ـ كانت واثقة أنه ولد ـ على اسم … نبينا”، ثم أضاف مؤكدّاً: “في نهاية الأمر الصغير دومًا هو من يقود الكبير؛ إنهم المستقبل. نستطيع فقط أن نرشدهم إلى الطريق، بمساعدة النجوم”.
أكمل الملك جملته: “وبمساعدة خرائط ابنك اللوحية”.

***

قال مصطفى بفخر: “البدوي يجيد استخدام ما يقع في يديه من موارد”. كان قد تكيّف على الوحش الخشبي الذي صار يمتطيه أسرع من أي واحد فيهم، حتى الملك. لم يفرق دوار البحر بين الحاكم والمحكوم، كما لم يفرق الأسد بينهما من قبل. “أرى أن ننقذ ما يمكننا إنقاذه قبل أن يدمر زحف الزمن كل أثر للبشر العظماء الذين يشابهوننا التفكير”.
قال رائد بحدة: “إذن ما هي محطتنا التالية؟”. فقد أصابه التعب من كل هذه الألغاز. كان يفضل الهند، للحصول على التوابل التي يحتاجونها بشدة لتحسين مخزونهم من الطعام عديم النكهة.
نقر الفتى على جهازه اللوحي حتى عثر على الخريطة التي كان يبحث عنها، وكبر صورتها الهولوغرامية من كل الاتجاهات.
قال كلكامش في تعجب: “بلاد فارس!” كان هذا آخر شيء يتوقعه من مثل هذا الفتى المفعم بالحماسة الزائده .
قال مصطفى بانتصار: “عيلام على وجه التحديد، وفي الوقت المناسب تماماً، قبل أن يجد الأشوريون فرصة لتدميرها بوقتٍ طويل”.

الخاتمة
جلس شابًا في القرن الثاني والعشرين على طاولة في الكلية الحربية منفردًا بنفسه، وهو يتصفح أوراق المخطوطة لسجلات كلكامش. لقد أرّخوا لمآثر الشتات المهاجرين من مدينة أوروك، الذين تفرقوا في أنحاء العالم، في عملية هجرة لم يشهد العالم مثيل لها من قبل ولا من بعد.
كانت مراكب في مثل عظمة المراكب التي بناها الفينيقيون ـ أو تفوقها عظمة ـ بهياكل خشبية عميقة لتخزين الطعام والماء، ليشقوا طريقهم إلى أركان الأرض الأربعة، ليبنوا إمبراطورية بحرية تربطها التجارة واللغة. إنهم لم يفعلوا أي شيء رغم ذلك، لم يعكروا صفو السلام في أي مكان، لم يشاركوا الأمم في ألعابها السياسية، فقد ظلوا منغلقين على أنفسهم، فلا يختلفون كثيرًا عن مجتمعات التجار الصينيين حول العالم، يعملون في صمت.
كان الأمر كأنهم ينتظرون الوقت المناسب.
لقد عادوا فقط لتخليص وطنهم الأم ـ تجاهلوه طيلة هذه القرون، وآلاف السنين، خشية من تغيير مجرى التاريخ قبل الوقت المناسب ـ وأنقذوا العالم القديم قدم التاريخ.
ليس عن طريق العنف بالمناسبة، بل بالتوازن بين العنف والإبداع، إنهم تجار على كل حال، ولكنهم تجار يحملون على عاتقهم مهمة؛ أن يشتروا ما تعرض الأمم الأخرى بيعه، من ناحية المعرفة والتقاليد، يتوارثون الاختراعات على متن قواربهم الطويلة، وكلها مخفية عن أعين علماء العالم الذي سيسخّرون هذه المعرفة من أجل المكاسب العسكرية.
من دون إطلاق رصاصة واحدة، استطاعوا تحرير وطنهم من التدخل الأجنبي، وأعادوا تعزيز سكانه وحضارته، وتحدوا جيرانهم في لعبة الذكاء والاختراعات، وفي الوقت المناسب أيضًا.
تم إرسال قاذفة قنابل أميركية أخرى، طائرة قاذفة الشبح (متخفية من الرادار) هذه المرة، مع حمولة قاتلة ثانية. (لقد رفعت السرية عن هذه الملفات للتو). أداة إزاحة زمنية، الغرض منها هو محو أثر أفعال أي من … أي من تجرأ ووقف في طريق القوة التي كان يجب أن تسود، لإخفائهم من التاريخ، مع كل إنجازاتهم، تدمير تاريخ منطقة قديمة ومهمة من العالم مثل الشرق الأدنى، القلب نابض للعالم.
وحدهم الأميركيون متعجرفون بما يكفي لفعل شيء كهذا، يعتقدون أن التاريخ الذي قد جرى قبلهم لا يعنيهم بشيء، ولن يؤثر عليهم. ولكنه كان يفهم حقيقة الأمر بشكلٍ أفضل.
إذا انفجرت القنبلة في إيران، كما كان مقدرًا لها، لما كان هناك كورش الكبير ولا إعلانه العالمي لحقوق الإنسان والتسامح الديني والمساواة. إذا تحطمت الطائرة ـ مثل سابقتها ـ داخل الحدود العراقية المتزعزعة، إذن كلكامش وحمورابي والقنوات المائية ونظام الأربعة وعشرين ساعة وعلم الفلك والقيثارة والمذهب الذري وكل هذا سيُبتَلع.
مع كبح جماح الإيرانيين، استُدْعيت الطائرة المقاتلة المتخفية، وأوقِف مشروع إزاحة الزمن، وحفظ كنز الذكريات التاريخية الواقع بين النهرين إلى الأبد.
عندها بدأ التاريخ يتغير للأفضل، في كل بقعة من الأرض، شتات كلكامش (أو جلجامش كما كان يعرف في الغرب، حتى صحح أحفاده السجلات). شقوا طريقهم من الشرق الأوسط إلى الخارج، مستخدمين معرفتهم الدقيقة بما حدث حقاً في زمن داوود وسليمان (عليهما السلام) ليضعوا نهاية لجرائم المستعمرات الصهيونية بشكل قاطع ونهائي. لقد تحولوا من وسطاء سلام إلى محررين إلى حافظي الثقة العامة، بينما المؤرخون من كل أنحاء الأرض يتوافدون على شواطئهم ليشربوا من نبع الحكمة القديمة الذي تدفق مجدداً.
كانت هناك أوراق مخطوطات من بيت الحكمة (متضمنة كتاب ماني ذي الصور المحظورة) ومن مكتبات سمرقند وبخارى. كان هناك لفائف بردي من مكتبة الإسكندرية – التي لم يدمرها المسلمون أو الأقباط – ومنها سجلات الكاهن برصوص (العالم كان أكثر قدماً مما يعتقدون) إلى أسرار التحنيط والطب المصري القديم إلى النصوص الكاملة لديموقريطوس وطاليس وأرسطرخس. كانت هناك الأعمال الضائعة للناسخين، مدن ماتشو بيتشو ونالندا… كلها كان المقدر لها أن ينفض عنها التراب وترمم لكي يراها الجميع. لقد نهض العالم أخيراً من نسيانه القديم، ولن يعود إليه أبداً.
لهذا قرر الالتحاق بالكلية الحربية. الكلية الحربية في تكساس. ليتعلم من الماضي، كيفية تجنّب الحرب، ومنع حدوث أي مجابهة زمنية أخرى، هذه المرة بين التحالف القوقازي الأميركي – الكندي، واتحاد الأزتك والإنكا المعاد إحياؤه في الجنوب.
كانت تكساس هي خط المجابهة، خط مجابهة صحراوي متزعزع آخر، وهو من سيجنّب الناس على جانبيّ الحدود العديد من الويلات، وهو يعرف يقينًا أنه الرجل المناسب لفعل ذلك.
لقد فحصوا حمضه النووي عند تجنيده أول الأمر وتم تحديد عرق أسلافه، فعثروا على آثار لدماء أكادية وعربية. مزيج أصيل كمزيج العربية والمسمارية في الكتاب العظيم الذي يقرأه، وهي اللغة المشتركة الجديدة للعالم المتحضر.
معرفة هذا النسب النبيل وحجم المسؤوليات التي يحملها على عاتقه قد نمت في نفسه. ليست مختلفة عن مستودع المعرفة الذي جمعه الشتات من كل الحضارات التي لاقوها، قبل أن تنهار هذه الحضارات على إثر الاحتلال أو الطاعون أو الكوارث الطبيعية أو الحروب الأهلية.
إنه يحمل هذا في دمائه، أن يصنع قدره بنفسه.

المصدر: موقع ذا ليفانت نيوز
http://the-levant.com/arabic-science-fiction-demigods-time/?fbclid=IwAR3A3JbENOR8EWhafbvxKdVm0RTnr-Jg7t1KYNn5fsLAyZcZOq50MeqR6ws

Optimized by Optimole