“جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي: جون راولز في مواجهة التقليد المنفعي”

Spread the love

Jadal-Adalah

“شجون عربية” — بقلم: عبد الفتاح نعوم — بالكثير من الحفر والتجذير قام الباحث التونسي الدكتور نوفل الحاج لطيف في كتاب له يحمل عنوان “جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي: جون راولز في مواجهة التقليد المنفعي”، -قام بتفكيك خطاطة أطروحة “العدالة الاجتماعية”، والتي يعتبر جون راولز الفيلسوف الليبرالي الأميركي هو من وضع لها حجر الأساس، وذلك منذ إصداره لمقاله “العدالة بوصفها إنصافاً” سنة 1957، وصولاً إلى صياغة معالم أطروحته في الموضوع في كتابه “نظرية في العدالة” سنة 1971. فيخصص بذلك الدكتور نوفل ستة فصول ومقدمة وخاتمة، موزعاً ذلك على 341 صفحة من القطع المتوسط.
وفي المجمل، قام راولز بوضع مبدأين هما عماد نظريته تلك، حيث بالاستناد إلى المبدأ الأول يكون لكل شخص قدر متساوٍ من الحقوق مع بقية الأفراد في مجتمع واحد، منظوراً إلى تلك الحقوق باعتبارها نسقاً شاملاً من الحريات الأساسية.
أما المبدأ الثاني فإن جوهره يكمن في اشتراط صيغة معينة تنتظم وفقها مظاهر التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، ما يجعلها تفاوتات لصالح الأقل امتيازاً في المجتمع من ناحية، وخاضعة لقواعد تكافؤ الفرص من ناحية ثانية. وبالتالي فإن هاجس راولز ومن ثم فلسفة العدالة الاجتماعية هي الموازنة بين ضرورة حماية الحرية الفردية، وفي الوقت نفسه تسويغ سياسة اجتماعية للدولة قائمة على أسس التضامن الاجتماعي.
ولا يتوقف نوفل الحاج لطيف عند حدود العرض المدرسي لأطروحة راولز، بل يجتهد لكي يضعها في سياق تاريخي إيديولوجي غاية في الحركية والتطور، ما يجعل المجال السياسي والفكري الأنغلو أمريكي متميزاً عن غيره، وجدير بأن يخصص له حيزاً من الدرس كهذا. فالأمر بالنسبة للباحث يتعلق بمستوى معيّن من الجدل الدائر بين جون راولز وبين التقليدي الليبرالي المنفعي حول مسألة العدالة الاجتماعية، حيث أن النفعية سواء كواقع تاريخي أفرزه نمو الرأسمال في مراحل معيّنة، أو كإرث فكري صاغه فلاسفة أنغلو أميركيون أمثال تشارلز بيرس ووليم جيمس، في كلتا الحالتين فإن النفعية تقصي عن حيز اهتمامها مسألة العدالة الاجتماعية، ولو من حيث سقف التفاوتات التي تتيحها الملكية الفردية بسقف يجعلها لصالح الأقل امتيازاً، هذا فضلاً عن أن هذا الإرث على صعيد الفلسفة ليس إلا امتداداً للتنظير الذي حفل به الاقتصاد السياسي الليبرالي الكلاسيكي، والذي يعلي من أهمية إطلاق يد المنفعة الخاصة، باعتبارها البوابة لتحقيق المنفعة العامة.
وبالتالي، فإن الدكتور نوفل الحاج لطيف يشدد على أن على فهم نظرية راولز في العدالة يستحيل دونما التوفر على فهم للنظرية المنفعية، لأن نظرية راولز ليست سوى سعي لتقديم بديل عنها لتسويغ المبادئ الليبرالية، وإضفاء مسحة اجتماعية عليها. وبالتالي فقد تمكنت النفعية من الهيمنة على الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعاصر، خصوصاً في المجال الليبرالي الأنغلو أميركي، وتمكنت بذلك من تعطيل العدالة الاجتماعية، ومنعها من أن تكون “الفضيلة للمؤسسات الاجتماعية، كما الحقيقة بالنسبة لأنظمة الفكر” على حد تعبير راولز.
إن السجال الذي أقبل عليه جون راولز حيال النفعية دفعه إلى استعادة مقولة العقد الاجتماعي بصيغتها الأنوارية، وذلك باعتبارها بديلاً عن النفعية التي لم يكن لديها اهتمام بمسألة العدالة التوزيعية. وبالتالي فهذا الجدل كان بالنسبة لراولز دافعاً إلى فهم الإرث النفعي من ناحية، وبحث الطريق المناسب لاستخدامه في الدفاع عن دولة الرفاهة. فالنفعية برأي راولز لا تستطيع أن تقوم كإيتيقا عمومية منسجمة مع شروط الديمقراطيات الدستورية المعاصرة، ذلك أنها لا مانع لديها عن التضحية بحقوق الأقلية باسم تحقيق الرفاهة العام، عكس ما تسعى إليه العدالة التوزيعية التي يطرحها جون راولز في مقابل النفعية.
صحيح أن كلاً من النفعية والعدالة التوزيعية تدعوان إلى رؤية جامعة وشمولية للمنفعة والخير والحياة الطيبة، إلا أن النفعية لا تشترط الأخذ بعين الاعتبار أي تمايز للأشخاص واختلاف رؤاهم لخيرهم الخاص ولمشروعهم الخاص لحياتهم الخاصة، بل تعلي من أهمية مبدأ الاختيار العقلاني الفردي على الاختيار الاجتماعي، لأنّ ما يعنيها في كل ذلك المجتمع ككل بما يقتضيه تجميع المنافع وحسابها و”تأويجها”. وهو ما يتعارض تمامًا مع مبادئ العدالة التي يقول بها راولز من حيث هي تأخذ بعين الاعتبار حرية الأفراد وتساويهم وتحض على أن تكون اللامساواة في صالح ذوي الحد الأدنى في المجتمع. وبالتالي فإن الدكتور نوفل يصر على أنّه من المستحيل وضع مساهمة جون راولز في حيز النفعية، وذلك على الرغم من أن بعض الدارسين أمثال ديفيد ليونس وسدناي ألكسندر يصرون على اعتباره كذلك.
لقد كان من بين حوافز تشكل فلسفة العدالة التوزيعية كما صاغها جون راولز، الحوافز التي تمثلت في التحولات الاقتصادية والفكرية التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين، سيما على صعيد نظم الاقتصاد والفكر الاقتصادي. فقبل الأزمة الاقتصادية الكبرى لسنة 1929 ساد التفكير في حقل الاقتصاد بأن إطلاق العنان للمصلحة الخاصة يفضي بالضرورة للوصول إلى المنفعة العامة، وكان التنظير لهذا المبدأ في الاقتصاد مواكباً لطبيعة النشاط الاقتصادي الرأسمالي، وهما معاً كانا مدعاة لتوفير مناخ فكري ملائم لنمو النفعية. إلا أن ما ترتب عن الأزمة الاقتصادية دعا إلى ضرورة إعادة التفكير في أسس الاقتصاد الرأسمالي برمته، بحيث أن الصيغة الكلاسيكية، ومنظورها لحجم الهوامش المتاحة لكل الأفراد في المجتمع لتحصيل المنفعة، باتت على المحك بسبب التداعيات الاجتماعية للأزمة.
وكانت النتيجة هي ظهور الحاجة المتزايدة إلى توسيع هامش العدالة التوزيعية، وذلك بالقدر الذي يجعل المساواة لصالح الأفراد الأقل قدرة على تحصيل المنافع من خلال آلية دور الدولة بوصفها الضامن للمصالح المجتمعية حيال النشاط الاقتصادي التنافسي الذي هو في جوهره فعل أناني صرف. فالدولة تصبح هي القادرة على ضبط التوازنات الكبرى لصالح الاستقرار الاجتماعي، ما يعني في النهاية إضفاء بعد اجتماعي على العمليات الإنتاجية الرأسمالية، وقد كان هذا هو جوهر مساهمة جون مانيارد كينز في حقل الاقتصاد السياسي. وقد أدت التطبيقات العملية للكينزية إلى توفير مناخ لظهور العدالة التوزيعية بوصفها نموذجاً نظرياً صاغه جون راولز في حقل الاجتماع السياسي والفلسفة، بالصورة نفسها الذي وفرت عبرها الأنماط الكلاسيكية من التفكير مناخاً لظهور النفعية، على أن المجال الثقافي والسياسي والاقتصادي الأنغلو أميركي لم يتوقف عند شيوع فكرة العدالة التوزيعية، بل تحفز تيار الليبرالية الجديدة للظهور داعياً إلى النكوص عن المضمون الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لفكرة العدالة تلك.
إن فكرة العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي تكاد تكون بأسرها متمحورة حول مآخذ جون راولز على التراث المنفعي، ذلك أن هذا الإرث وفضلاً عن كل ما تقدمت الإشارة إليه لا يعطي أي اهتمام لمسألة الحقوق والحريات الأساسية التي ينبغي أن تكون متساوية بين الجميع، فجون راولز جعل هذه القضية من أولى مطالبات مذهبه الجديد، وذلك لأن واقع التعددية الذي بات يفرضه المجتمع يقتضي تثبيت تلك الحريات. وهو ما جعل فكرة الحقوق والحريات المدنية والسياسية تحظى بقبول واسع داخل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة.
لقد كانت المنفعية تواجه بالرفض كل الفضائل التعاونية للحياة السياسية التي ينبغي أن تتلقى دعماً من المؤسسات السياسية والدستورية في مجتمع مستقر، والتي يجعل منها راولز نموذجاً: “فضائل التعقل وحس الإنصاف، وروح التسوية والاستعداد للقاء الآخر في منتصف الطريق، وهي فضائل من شأنها أن تؤمن الإرادة بل الرغبة في التعاون مع الآخرين وفق شروط يمكن للجميع القبول بها علناً على أنها منصفة على أساس المساواة والاحترام المتبادل”.
إن العدالة في فكر راولز باعتبارها إنصافاً اجتماعياً، وفضيلة أولى للمؤسسات السياسية تجد نفسها واقفة بالضرورة موقف مواجهة مع المنفعية، وبالتالي فالعدالة ليست مجرد واجهة تجميلية للديمقراطية المعاصرة، بل حاجة اجتماعية جوهرية في نظر راولز. ما يعني أن راولز أراد أن يدفع المنفعية الليبرالية إلى التخلي عن منطقها الحسابي القائم على تعديد المنافع، وأن تتخلى عن جعل النشاط الاجتماعي الاقتصادي إطار مرجعيته تكمن في المنفعة، أي أن راولز يرفض الاختزالية المنفعية التي تشدد عليها النفعية.
لكن تناول علاقة الصدام المحتدم بين راولز وبين المنفعية لا يعني أن راولز لم يحتفظ بأي مقتضى من مقتضياتها، حيث أن الدكتور نوفل الحاج لطيف يرصد بتدقيق كبير التخفيف من حدة النقد الراولزي للمنفعية في المؤلفات اللاحقة لمؤلف “نظرية في العدالة”، حيث تقلصت حدة ذلك النقد تدريجياً، وذلك بتأثير من الانتقادات التي تعرض لها مراراً من معاصريه من الفلاسفة النفعيين، ليقول راولز في هذا المضمار: “يسعدنا لو أن المنفعيين استطاعوا وفق وجهة نظرهم الخاصة أن يجدوا طريقة للإقرار بأفكار ومبادئ العدالة بوصفها إنصافاً، لأنهم بعملهم هذا يعني أنهم يمكنهم المشاركة في الإجماع التقاطعي على ذلك المبدأ”.
إلا أن ذلك لا يعني أن راولز كان منفعياً على الإطلاق، فهو يقرر بأن “العدالة بوصفها إنصافاً ليست في ذاتها منفعية”. ولذلك يدعو الدكتور نوفل إلى مراجعة كل رأي يزعم أن نظرية العدالة الراولزية هي مجرد صيغة منقحة من المنفعية، سيما وأن بين نظرية العدالة وبين النظرية المنفعية خيط رفيع جداً، هو نفسه الخيط بين الكينزية وبين النظرية الاقتصادية الليبرالية الكلاسيكية، ما يجعل الخلط الذي قد يحدث لدى البعض مبرراً.
لقد تمكنت نظرية راولز من أن تفجّر جدلاً فكرياً وسياسياً، وتمكنت بذلك من إحداث أثر بليغ في الأنظمة الأكاديمية والمعرفية والأخلاقية والسياسية، بل دفعت الكثير من المفكرين الكبار إلى إعادة النظر في الأسس المنفعية، فأمارتيا صن مثلاً تأثر بالعدالة الراولزية إلى الحد الذي جعله يوفق بين المبدأ المنفعي “أكبر رخاء لأكبر عدد من الناس” وبين تبنّي الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية الفردية، وتطوير القدرات الفردية ليكون الفرد قادراً على تلبية حاجياته من دون اعتماد على طاقة المجموع.
لقد جعلت العدالة الراولزية من الإنصاف مبدأً مركزياً قادراً على قلب المعايير التي دافعت عنها النفعية، حيث أن إعطاء الحرية الفردية الأولوية المطلقة يقصي الحالات التي لا يكون بمقدور الفرد فيها أن يلبّي احتياجاته الفردية بالكاد، كحالات المرض والإعاقة والجوع، وبالتالي ينبغي إعمال مبدأ الإنصاف باعتباره مساواة من نوع خاص، مساواة غير ميكانيكية على الطريقة النفعية، والتي تساوي بين الأفراد بين الحق في الوصول إلى المنفعة، دونما اعتبار لقدراتهم، في حين تتشدد العدالة بوصفها إنصافاً في حق كل فرد أخذاً بعين الاعتبار مختلف ظروفه الشخصية في أن يحصل على المنافع المختلفة.
يمكن القول إن الحاجة إلى ظهور فكر العدالة الاجتماعية باعتبارها “إنصافاً” وفق الصياغة الراولزية، لم تكن حاجة نظرية فقط، اقتضتها المحاججة والمجادلة مع أطروحات المنفعية، بل كانت حاجة اجتماعية عملية اقتضها ضرورة توسيع هوامش حقوق الأفراد في الوصول إلى المنافع بشكل متساوي ومنصف، وذلك لضمان قدر من الاستقرار والتوازن في المجتمعات.
ومن ناحية أخرى، فإن الاصطدام بين العدالة التوزيعية الراولزية والأطروحة المنفعية ليس بعيداً عن السعي الموضوعي والفكري الذي يسم العمليات الإنتاجية الرأسمالية في الحفاظ على وجود هذا النمط من الإنتاج، وذلك إبان الفترة التي كان الرأسمال بكل نظم السياسة والاقتصاد والفكر المواكبة له والمعبّرة عنه معنياً بأن يحاجج نمطا آخر يصارعه على الوجود. وكما كان الصراع الاجتماعي بين الطبقات العاملة وبين رأس المال في الحيز الأوروأميركي معبّراً عن موازين القوى الناظمة لهذا الصراع، كان الصراع بين الماركسية والليبرالية الكلاسيكية ممثلاً له في حيز الفكر والسياسة. وبعد أزمة 1929 كانت الكينزية والراولزية سعياً لتصحيح الخلل في بنية الإنتاج الرأسمالي، عبر الهجوم على المعتقدات الكلاسيكية في الفكر الاقتصادي الليبرالي، والرد على أطروحات الليبرالية الجديدة، لكن من دون التخلي عن الإطار الضابط للحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية الليبرالية المحكومة بمقولة “العقد الاجتماعي”.

عنوان الكتاب: “جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي: جون راولز في مواجهة التقليد المنفعي”
المؤلف: نوفل الحاج لطيف،
دار النشر: جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، يناير 2015 —

*باحث مغربي في العلوم السياسية، نشر في عدد من الدوريات العربية المحكمة والصحف العربية والأجنبية.

المصدر: الميادين نت

Optimized by Optimole