بجعات بريّة في مجتمع شموليّ

Spread the love

بقلم: د. عبد الله إبراهيم* —

لازَمني كِتاب “بجعات بريّة” للكاتبة الصينيّة يونغ تشانغ أكثر من عقد ونصف من الزمان، فأعود إليه كلّما توهّمت أنّني فرغت منه، وقد بَعَثَت قراءاته في نفسي خواطر كثيرة، ستكون موضوعاً لهذه المقالة، ما جعلني أغفل الإشارة إلى مصائر النساء الثلاث: الجدّة، والأمّ، والحفيدة، اللّواتي تقاسمن فيه قرناً من تاريخ الصين، وهنّ البجعات البريّة في هذا الكِتاب.

ابتكرَت الكاتِبة صيغة سرديّة مُثيرة جعلت فيها النساء الثلاث شاهدات على نشوء الاستبداد الشمولي في الصين خلال القرن العشرين. ويُمكن إنزال كِتاب “بجعات بريّة” في المجاز المحيّر لعالَم الأدب، وهو السيرة الذاتيّة، غير أنّه تخطّى الهدف الذاتي إلى ضربٍ من التمثيل المَلحميّ لأمّة كبيرة، وهي تنعطف بقوّة تاريخيّة لترهن مصيرها لأيدولوجيا شموليّة، وهي الصين.

لم يُشعرني الكِتاب بالمُفاضلة بين الصين القديمة: الإقطاعيّة، والصين الحديثة: الشيوعيّة، فقد رسمَ حالةَ انكسارِ أمّة حاولت أن تستجمع نفسها من شتات التمزّق الكامل لتجد ذاتها تُضغط في بوتقة التماثُل المُطلق، حينما دُفعت إلى مرجل الأيديولوجيّة الشموليّة، ذلك المرجل المُلتهب الذي يحسب التنوّع الخلاّق مَنقصة، والتباين الطبيعي عاراً، فأصبح الأفراد، الذين كانوا في العصر الإقطاعي جماعات مُنفرطة، كائناتٍ مُتماثلة، أمسوا سرباً من مخلوقات مذعورة، زُرع فيها الخوف، وسيطر عليها الهلع. والحال، فالكِتاب ملحمة نادرة المثيل صوَّرت الكيفيّات التي يؤول الإنسان فيها، بفعل الخوف الجماعي، إلى وحشٍ فاتك يجب الحذر منه، وكَشَفَ، فضلاً عن ذلك، الطرق التي يتنامى فيها ضعف الإنسان ليُصبح أسيراً لفلسفة الطّاعة العمياء الهادفة إلى تحويل الاختلافات الطبيعيّة إلى تماثُلات كاملة بغية تحقيق الولاء الكامل.

وفي مثل هذه التجارب الشموليّة- التي صوّرها ببراعة كِتاب “بجعات بريّة”، تنزلق المُجتمعات إلى عالَم التطهُّر الخادع، وادّعاء النقاء، والخضوع الكلّي للنزعة (التوتاليتاريّة)، فيقع اجتثاث الماضي الشخصي الدّافئ، بصورة منهجيّة، ليحلّ المواطنُ المُشبع بأيديولوجيا الولاء محلَّ الفرد المُستقيم، ولتسود حكمة القطيع التي يُحرِّكها راعٍ يقبع في الخلف مُتوارياً في غموضٍ وهَيبة، مُتعالياً في وسط أسطوري مُبهم خاصّ به، ومُتطابقاً تمام المُطابَقة مع نفسه، فهو وأفكاره مُتلازِمان. يتلاعب بالآخرين الذين لا هَمّ لهم سوى تطبيق رؤاه، فيمضون أعمارهم تحت مديونيّة خوف من أنّهم دون ما ينبغي عليهم أن يكونوا، ويُعاد صوغ علاقاتهم في ظلّ رهبة تُطاول خصوصيّاتهم الإنسانيّة، ويتمّ اقتلاع المكوّنات الحميمة لوجودهم، ويُصبح كلّ ذلك ضعفاً ينبغي اجتنابه وإزالته، وتختلق مُمارسات لا حصر لها يعلن فيها الجميع الولاء، يصبح التكوين الإنساني شاحباً، ويُعاد تشكيل المجتمع طبقاً لمعايير يَحكمها الولاء، والذلّ، والتبعيّة، ويسود التكاذُب، والمراءاة، والخداع، ويَرتهن الجميع أسرى لفكرة يملك سرّها شخص واحد، فيتحرّك الجميع كدمىً بين يدَيه، أو كظلال باهتة لحقيقته الغامضة، وتشغل النخبة بتأويل أفكاره، ومدّها خارج الزمان والمكان من جهة، والسيطرة الكليّة على المجتمع، وإخضاعه بالقوّة لتلك التأويلات من جهة ثانية. وكما قال كونديرا، فالنّظام الشمولي “يحرم الشعب من ذاكرته، فيحوّل الأمّة كلّها إلى كتلة من الأطفال”.

وفي الوقت الذي ينخرط فيه الجميع في ولاءٍ كاذب، يصبح الاقتصاص هو الوسيلة الوحيدة ليس لمُواجَهة أولئك الذين لم يمتثلوا بعد، إنّما حتّى لأولئك الذين كان سوء طالعهم قد جعلهم مُختلفين عن كلّ ذلك في حقبة سابقة، بسبب انتماءاتهم الطبقيّة أو الدينيّة أو العرقيّة أو المهنيّة، فلا يُدان المرء على حاضره، فحسب، إنّما على ماضيه، ولذلك تُنبش سيرته الشخصيّة من النواحي الفكريّة والعرقيّة والطبقيّة والروحيّة، ويقع التشهير به لكلّ نأمة طاوَلت حياته قبل ظهور الأيديولوجيّة الشموليّة، وتُعقد مُواجهاتٌ للعقاب والتقريع، ويُصطلح على ذلك فخراً بـ”النقد الذاتي”، ويتحمّل الإنسانُ خطأ لم يتسبّب فيه، خطأ الوجود والتاريخ؛ فتلك الأيديولوجيّة لا تهدف إلى فرض التماثُل على الحاضر والمستقبل إنّما على الماضي أيضاً.

وليس غريباً في المجتمعات التي خضعت لأيديولوجيّات شموليّة، سياسيّة أو دينيّة، أن يتراصف المفكّرون، الأدباء، والعُلماء، ورجال الدّين، وكلّ أولئك الذين تميّزوا بأفكارهم أو أدوارهم، أمام مَجاميع من الرعاع المُتخمين بأيديولوجيّات التماثيل، فيُجرَّمون على ذنوب كاملة، لم يجرِ اقترافها في غالب الأحيان، وكثير منهم يُقتل أو يُخوَّن أو يُنفى أو يُهان، أو يُجرَّد من كلّ شي؛ لأنّ الأيديولوجيّة الشموليّة تحتاج إلى تذكير أنصارها بأنّ العقاب يلحق بكلّ مَن ينطوي على إثم الاختلاف، فهي تضع الجميع مَوضع الشكّ، ويجري بين وقت وآخر فتكٌ بكِبار أنصارها ومؤيّدها بتُهمٍ كاذبة لكي يبقى الذعر متّقداً بين الجموع، فلا يأتمن أحدٌ أحداً، ولا يعرف ماذا سيقع له بعد لحظة، فالترقّب يحكم الجميع، وفي مثل هذا المحيط المُشبع بالخوف تنشأ الأجيال الجديدة، وتلقَّن على الطّاعة، فتتوهّم أنّها بالامتثال لذلك إنّما تنهض بمهمّة تغيير تاريخي عظيم، لأنّها بلا ذاكرة، ولا تعرف غير بُعد من أبعاد الحقيقة، بل إنّها لا تعرف غير البُعد الأكثر سوءاً في تصرُّف الإنسان: الخضوع للنزوات والأحقاد.

وينتهي المجتمع في ظلّ الأيديولوجيّة الشموليّة إلى التفسُّخ والتحلُّل، فتنهار القيَم الكبرى، وتنقلب المَفاهيم، ويوضع الإنسان البريء في خانة المتَّهم، لكي يُخدع بوعد النجاة، ويُصبح المجتمع نفسه شموليّاً، وتقع مُقايَضة غريبة من نَوعها، فبالقيَم الإنسانيّة تُستبدَل الدَّسيسة، والاغتياب، والخوف، وتحدَّد مصائر الإفراد بناءً على مَصالح تقتضيها حالة محو الذاكرة الحيّة. في المجتمع الشمولي يكون كلّ شيء واضحاً وغامضاً في الوقت نفسه، واضحاً لأنّ الجميع فُرض عليهم أن يفكّروا بطريقة واحدة، وغامضاً لأنّ ليس من أحد يعرف الحدودَ التي ينبغي عدم تجاوزها. وخلال ذلك يجري تنميطٌ عامّ للأمّة. وفي الوقت الذي تتحجّر فيه الأيديولوجيّة الشموليّة بوضْع نفسها في مُواجَهة التشكيلات الأصليّة للأبعاد الإنسانيّة، وتحول دون شيوع روح الابتكار، والتفكير الحرّ، ينشأ قطيع الطّاعة العمياء، وتشيع روح اللّامبالاة، وتُصبح المسؤوليّة عبئاً يحذر الجميع منه، ويتجنّبه، وتنتهي الأيديولوجيّة الشموليّة بمسْخ مجتمعاتٍ بكاملها، ويَترك انهيارُها مجتمعاً حائراً انسدَّت أمامه سُبل الحياة، ومُسِخ وجدانه الداخلي، وضَمُرَت استعداداته الإبداعيّة، وانفرَط عقده، ولم يتهيّأ لتقبّل البدائل اعتقاداً منه أنّه سيظلّ إلى الأبد في نعيم الخوف الذي رضخ له، وتقع الفوضى العارمة في العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقيميّة، ويصبح الحراك الاجتماعي خاضعاً لانهياراتٍ مُفاجئة، لأنّ الأيديولوجيّة الشموليّة حالت من قبل دون أيّ تطلُّع مُختلف، وعَرضت عبر الدعاية والتعليم نجاةً أبديّة للجميع، ولأنّ المجتمع يوضَع تحت الرقابة بأشكالها كافّة، وتظهر الدولة الاستبداديّة التي تُهيمِن على الجميع، ويتمّ التحذير من الانحطاط، مع أنّه ينتشر في تفاصيل الحياة الاجتماعيّة، وتتركّز السلطات كلّها بشخصيّة القائد الذي يتزعَّم قطيعاً مخدّراً من الخوف، ذلك هو القائد/الضرورة، الكائن المُطلَق في قدراته، المتجسِّد في الفنون، الآداب، الأفكار، الاقتصاد، التاريخ، العلوم، فتحلّ الهستريا الجماعيّة المعبّرة عن الولاء الكامل له محلّ التأمّل بمَعرفته الحقيقيّة، فتكرَّس له الكرنفالات من أجل تضخيم صورته، وتكريسها نهائيّاً، وتُنسب له المُعجزات التي تفوق طاقة البشر، ويتحوّل كلّ عمل يقوم به إلى مكرمة شخصيّة يتفضّل بها على المجتمع.

ومن أجل أن يعبِّر القائد عن هدفه، ويكرِّس وجوده الرمزي المُهيمن على مجرى الأحداث يحتاج إلى تبنّي مفهوم الذكورة المتجسّد بالرجال والقوّة، وتُعاد تربية المجتمع على مفاهيم صارمة تُخاطب الحسّ الوطني أو القومي أو الديني أو العشائري الضيّق لزرْع فكرة التعصّب والتفوّق، ويُرافق ذلك بَرمجة الاقتصاد لدعْم هذه الطموحات، وتبدأ عسْكرة المجتمع، فيُختزل وجود المجتمع، والتاريخ، والمصير، بشخصيّة القائد، الذي تمركزت الأمور كلّها حول شخصه، فصار الآخرون يتماهون رمزيّاً به في كلّ تصرفاته، فيقع استشفافٌ كامل بينه وبين شعبه وأمّته وتاريخه. وحصل ذلك لدى كثير من الأُمم، فالأيديولوجيّة الشموليّة تُكرِّس مُجتمعاً ينقسم فيه الأفراد إلى قائد يأمر وبقيّة تطيع، وينتهي الأمر بوجود قطيع من البشر لا يفكّرون إنّما ينفعلون فحسب، ويتحوّل هذا القطيع إلى أداةٍ بيد القائد لتحقيق أهدافه وأفكاره، وينزلق المجتمع، بفعل الخوف، إلى الخداع العظيم، وهو الإغراء بلعب دَورٍ خيالي، وتدمير كلّ المزايا الواقعيّة والطبيعيّة للنَّفس البشريّة، ويمجّد الموت بدل الحياة، وتُهيمن مفاهيم التضحية والشهادة ذوداً عن فكرة وهميّة.

وفي كلّ الأحوال يُعتبر القائد، والأيديولوجيا التي يمثّلها، أغلى من كلّ شيء، وينبغي على الجميع افتداءها بأنفسهم، ولا يتمّ التفكير بالقائد كإنسان، إنّما يُفكّر به بوصفه كائناً متعالياً، متفرّداً، ومميّزاً، لا مثيل له، حتّى أنّ الأخطاء التي تُقترَف يتمّ تخريجها- إذا اعترف بها – على أنّها وقعت من دون علمه، وتُنسج حكاية نضال شخصيّة لطفولة القائد يسلَّط الضوء فيها على المَسار الصعب لحياته، فيتماهى بالأنبياء وكِبار المُصلحين، وتنشأ نزعة تربويّة مُغلقَة توافق توجّهات القائد. نزعة تقوم على الطاعة العمياء، ويتمّ التخلّص من المُختلفين بلا رحمة، وتُؤسَّس منظّمات للشبيبة، والطلائع، والحَرس، والفدائيّين، واللّجان الثوريّة، لتولّي هذه المَهامّ، ومُمارَسة العنف لتطبيقها. لا مكان للبجعات البريّة في المجتمع الشمولي، مُجتمع العنف والاستبداد.

*ناقد وكاتب من العراق

المصدر: مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole