الأدب بين الكراهية واللامبالاة

Spread the love

بقلم: جوناثون ستيرجن — ترجمة: سارة حبيب —

من حيث المبدأ، لا يكون الأدب أدباً حتى يكرهه شخص ما. هوميروس وهسيودوس مثلاً لم يكونا شاعرين، بالمعنى الذي بتنا نفهم به الكلمة، إلى أن هاجم زينوفانيس وهيراقليطس وأفلاطون الشعر.
أفلاطون، متحدّثاً بلسان سقراط، خلع عن الشعر سلطته، ونفاه من مدينته الفاضلة. الشعر برأيه مثيرٌ للجنون، متساهلٌ مع الأصوات المتضاربة، وقد جعله موقعه الرئيسي في المنهاج التعليمي عدواً لجمهورية متخيَّلة، كل المواقع فيها معلّلة، وكلّ الخطاب يجب أن يكون متجهاً ببرود صوب الحقيقة. ذلك النفي، للمفارقة، أدّى إلى تعريف الشعر.
هذه هي فرضية كتاب ويليام ماركس “كراهية الأدب” الذي يعرّف الأدب عبر نقيضه الأقوى: كرهه.

كره الأدب، يقول هذا التصوّر، يمكن أن يخبرنا شيئاً أو أكثر عن علاقتنا بالآداب بالعموم. ووفقاً لماركس فإن اللحظة الأكثر شهرة في التاريخ الغربي فيما يتعلق بكره الأدب، أي نفي أفلاطون للشعراء، لا تحظى اليوم إلا بالنزر اليسير من الفهم. في تدليله على عمى معاصريه يكتب ماركس: “هم غير قادرين أن يروا أنهم يعيشون في العالم ذاته الذي تمناه، تخيّله وأراده، أفلاطون؛ في مجتمعٍ يفتحُ أفراده كتاباً فقط ليختبروا متع الخيال المجانية. إنه عالم فقد فيه الأدب كل قوته وسلطته تقريباً، وأصبح مجرد هيكل فارغ يُستخدم فقط لتمرير الوقت من قبل طبقة يتناقص عددها باستمرار، مقابل ازدياد استلابها من إلهاءات أخرى كثيرة”.

في كتاب “كراهية الأدب”، يختزل ويليام ماركس التهم التي وجهها المدّعون ضد الأدب بأربع: إساءة استعمال السلطة، غياب الأخلاق، تحريف الحقيقة، وفائدة متناقصة للمجتمع.
بدايةً، إذا اعتبرنا أن أفلاطون يؤثث للحالة الكلاسيكية لازدراء الأدب بتهمة إساءة استعمال السلطة، فيمكن القول أن هذا الكره يُدفع للأمام عبر مجموعة من الكتاب المسيحيين الذين يعيبون على الشعر الوثنيّ افتقاره لوحي الكتاب المقدس.
يذهب البابا غريغوري الأول، مثلاً، إلى حدّ الدفاع عن سِفر أيوب مدعيّاً أن الانعدام التام للبلاغة فيه هو دلالةٌ على السلطة الإلهية. بكلمات أخرى، يعتقد غريغوري، أن “البلاغة سمة مرتبطة بالكذب”، وخاصةٌ بالأسلوب الأدبي.
بدوره، يؤكّد القديس أوغسطين، الذي أراد أن يقرأ الشعر الوثني رغم إيعاز المزامير بالعكس، أنّ ناظمي المزامير أرادوا فقط أن يجنّبوا المسيحيين كتابات اليهود. ولهذا السبب علّم نفسه أن يقرأ بصمت.
فيما يخصّ موضوع غياب الأخلاق الذي يُتّهم به الأدب، يأخذ ماركس مثالاً الكاتب الفرنسي تانغوي لي فيفر الذي يُعمل سياطه ضد مجموعة من الشعراء. في كتابه “عقم الشعر”، يقول فيفر:
“إذا تقصينا حياة الشعراء الذين تُقدَّم أعمالهم كمراجع مُعتمدة للأدب، سنكتشف أن بعضهم كانوا سكيرين، بعضهم فاسقين، بعضهم زناة، وبعضهم كانوا ملوثين برذائل لعينة يُعاقب عليها بالموت في بلادنا: إسخيلوس كتب تراجيدياته تحت تأثير الكحول… هوراس وسوفوكليس كانا منغمسين في الملذات الجسدية… فيرجيل عبّر عن رغبته الخاصة عبر شخصية القس كردون… يوربيدس كان يكره النساء…”

إن هذا الوعظ الكنسي، يردّ ماركس، كثيراً ما يتكرّر عبر التاريخ المعادي للأدب، غالباً على شكل رهابٍ مقنّع. يمتد هذا الموقف إلى جان جاك روسو الذي تمتزج نصرته للمروءة بحماس غريب مع تصريحه “أنا أكره الكتب”، بالرغم من أنه هو ذاته ألّف الكتب. يرجع السبب في ذلك غالباً إلى قلقه الأخلاقي على مسألة التعليم الملائم للأطفال، لكن عبارات مثل هذه تشكّل رمزاً واضحاً للعداء ضد الأدب، وتُظهر تناقضاً خلف الإدانة الأخلاقية المتفاخرة التي يُظهرها روسو.
بهذا المعنى، يتحدث ويليام ماركس عن الرسائل التحذيرية التي تُوضع على أغلفة الكتب الأدبية. وفقاً له، إن فرض مثل هذه التحذيرات التي تنبّه القارئ مقدّماً لاحتمال أن يكون محتوى الكتاب مزعجاً أو غير ملائم، “يروّج لفنّ لغةٍ لن تكون بعد ذلك أدباً بالمعنى الذي نعرفه، فنّاً حرّاً ومستقلاً … أن ننكر على الأدب الحق في أن يصدم، يستفزّ، ويجعل الناس غير مرتاحين … هو أن نحوّل كل قارئ إلى قاصرٍ أزليّ”. أن تستهلّ عملاً أدبياً بتحذير كهذا، يقول ماركس، “هو أن تطلب منه أن يكون نصّاً مقدساً كاملاً، لا مأخذ عليه ولا سبيل للطعن فيه، أي بالضبط ما ليس هو”.

واحدة من التهم الموجهة أيضاً ضد الأدب هي أنه، عكس الدين والفلسفة والعلم، لا يستطيع أن ينقل الحقيقة. على سبيل المثال، يقول الفيلسوف غريغوري كيري إنّ الروائيين لا يستطيعون أن يقدّموا فهمَ النفس البشرية الذي تقدّمه المختبرات. ثم يمدّد فكرته إلى وجود خللٍ في عقول الكتّاب ذاتهم، الذين هم، حسب قوله، مليئون بالأمراض النفسية وغير قادرون، بسبب ذلك، على فهم العالم وحقائقه. مجموعة الكتاب، يشرح كيري، “تحتوي أعلى نسبة من الأفراد الذين يعانون أمراضاً نفسية حادة (حوالي خمسين بالمئة منهم)، مقارنة بالعلماء، الفنانين، والملحنين”.
بالمقابل، يرى ويليام ماركس أن فكرة كيري هذه جنونية وسخيفة، ويقول ساخراً: “لم يعد ثمة داعٍ إذاً لتكلّف عناء دراسة الأعمال الأدبية بالتفصيل لنتبيّن إن كانت تستحق سمعتها المشينة، نحتاج فقط أن نشوّه سمعة المؤلفين أنفسهم، وتنتهي اللعبة”.

آخر التهم الموجهة ضد الأدب تقول إنه غير ذي نفع للمجتمع. في الواقع، الحال هنا أسوأ من باقي التهم، فالأدب قد يكون حقاً بلا فائدة ملموسة. “الفكرة أن الأدب لا يعكس بشكل كافٍ كلّ المجتمع”، يقرّ ماركس، “فعندما يكون النظام أرستقراطياً، يُنقَد الأدب لأنه ليس أرستقراطياً بما يكفي ولا ينتمي إلى زمرة الأقوياء. وعندما يكون النظام ديمقراطياً، يُتهم الأدب بكونه نخبوياً ويُسهم في أخطاء النظام”. بالنسبة إلى ماركس، تكشف هذه الحالة جوهر الأدب: إنه قليل الحيلة، وعديم القيمة نسبياً. لكن ماركس، بالإضافة إلى التعاريف التي يقدّمها (“الأدب هو ما يبقى عندما يزول كلّ شيء”)، يجد عزاءً للأدب في الكراهية الموجهة ضده: “الأسوأ بالفعل من كره الأدب، اللامبالاة به. فلتمنع الآلهة ذلك اليوم من القدوم”.
لكن، في الواقع، ثمة ما يدعو للخوف أن يوم اللامبالاة المروّع ذاك هو أقرب مما يظنّ ماركس. وفي بعض الأماكن، يبدو أنه وصل بالفعل.
اليوم، يُشكّل المشتبه بهم في تهمة معاداة الأدب قائمة قصيرة: الإنجيليون المسيحيون مثلاً يحاولون من حين إلى آخر منع الكتب بحجة أنها إلحادية؛ العلماء التنويريون أمثال ريتشارد دوكينز يحذّرون من الأدب لأنه غير قادر على الوصول إلى “الحقيقيّ” الذي يَعد به العلم ويعطيه. بالإضافة لذلك، يريد التقدميون واليساريون ذوو النوايا الحسنة أن يصحّحوا مسار الأدب باستبعاد بعض المؤلفين، بدلاً من القيام بالعمل الأصعب: استخدام النقد الأدبي لتحدي كتاباتهم، أسلوبهم، الشكل أو المحتوى الأدبي لديهم.
من المهم أن نلاحظ أن الأدب بالنسبة إلى هذه الفئات هو مجرد هدف عَرضيّ، يهاجمونه بضراوة آخذة بالتضاؤل. ويبدو اليوم أن معاداة الأدب هي محض تحايل بديل عن معاداة رأس المال الاجتماعي والمالي، وهي أشبه باستغلال السوق حيث تُعدّ قيمة الأدب محدودة.
الأسوأ من ذلك، أن الخطاب الأدبي، وليس فقط التسويق والدعاية الأدبية، أصبح بشكل غريب تعويضياً ودعائياً بدوره؛ إنه يناور للحصول على مكان في السوق، ليس بالدفاع عن الأدب، بل بالاحتفاء بالكتب ــــ الشيء الذي يمكن شراؤه. إن اللغة الترويجية التي تحتفي بالكتب بشكل مجرّد، هي بذاتها شكل من أشكال معاداة الأدب (لأنها تستبدل الأدب بالكتب).

إن مجرى الأحداث هذا، لا مناص من القول، ليس مفاجئأ كثيراً؛ وبما أن الأدب عاجز وبلا قوة، فهو حتى لم يبدأ بالقتال. ولكي يزداد الطين بلّة، يتباهى الليبراليون في كل مكان بقوة التلفاز قبالة منافسه الضعيف، الأدب.
يقول ديفيد ريمنيك رئيس تحرير مجلة نيويوركر الأمريكية: “لقد أصبح التلفاز المنتج الثقافي الرئيسي في عصرنا ـــ إنه يصل إلينا في كل مكان، وأصبح يحلّ محلّ الأفلام والكتب في حديثنا مع أصدقائنا، عائلاتنا وزملائنا”، ثم يتابع بتعابيرَ عسكرية، “أولئك الذين يحبون التلفاز من بيننا، قد ربحوا المعركة”.
لكنّنا، نحن محبّي الأدب، نرفض أن نستسلم لهذه النتيجة. الحرب ضد الأدب ستظلّ حرباً غير منتهية، ولا سبيل لمعرفة خواتيمها الأكيدة. ويبقى العزاء لنا في قول ويليام ماركس: الأسوأ من كراهية الأدب، سقوطه في مجاهل اللامبالاة، وهذا ما لن ندعه يحدث.

المصدر: مجلة الإمارات الثقافية

Optimized by Optimole