مونودراما “أبوشنّار” واقع فلسطيني مرّ يفيض بحلم زيناتي قدسيّة الحرّ

مونودراما “أبوشنّار” واقع فلسطيني مرّ يفيض بحلم زيناتي قدسيّة الحرّ
Spread the love

دمشق – عامر فؤاد عامر — يلخّص قولُ الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله “يفتّش في الحلم عمّا يريد؛ وحين لا يجده يصطاده الصحو” المقولة الأساسيّة التي أرادها أبو شنّار في عرضه المسرحيّ الذي شاركنا إيّاه منذ لحظة استفاقته الأولى بعد حلمٍ جميل له عديدٌ من الألوان والمعاني، وقبيل العرض يبقى جمهور زيناتي قدسيّة مترقباً ومنتظراً باحترام لما سيقدّمه هذا الممثل القدير الذي أنعش ذاكرة المسرح بالعديد من العروض المسرحيّة منذ ثمانينات القرن الماضي، ومنها عروض المونودراما التي أتحف بها خشبة المسرح السوري والعربي، كما عرض “أبو شنّار” اليوم.
يرحّبُ أبو شنّار – رجل بعمر الثمانين – بضيوفه بعد أن يلتقط أنفاسه من منامه الذي يتراوح بين رحلة سعيدة فيه الأمل والسعادة لتحقيق الهدف وبين الصدّمة في عدم تحقيق مُناه والهدف منه، وعندما ينتبه لامتلاك حسّ الجمهور وانتباهه، يؤهّل بهم غير مرّة، ويُدخلهم الحكاية، وهنا تبدأ العقدة أو بداية الجولة، إذّ يرغمنا أبو شنار وهو يجلس في فرشته بأن حشداً حوله قد التفوا على هيئة مؤتمرٍ ولقاءٍ صحفيٍّ معه، فهناك صحفيين ومن بينهم أجنبي يراقب الحدث، وهكذا يشتعل خيال المتلقي مع حديث أبو شنار الممتع ما بين رغبته في رواية تفاصيل حلمه قبل أن يدخل في الإنترفيو أو لقائه الصحفي.
يُعدّ نصّ مونودراما “أبو شنّار”، الذي ألّفه الفنان زيناتي قدسيّة، نصّاً معاصراً اعتمد فيه الكاتب على نصوص للأديب غسان كنفاني، عن رجل فلسطيني حاضر بذاكرته الحضاريّة الحيّة في مواجهة شرطي مراقب بلا ذاكرة ولا إحساس، ومن هذه المعادلة يكرر “قدّسيّة” شخصيّة أبو توفيق التي قدّمها غير مرّة في مسرحيّة “الطيراوي”، ليسرد أبو شنّار هذه المرّة حكاية الفلسطينيين وتغريبتهم المؤلمة منذ أيّام النكبة 1948 إلى اليوم، وشوقهم في حق العودة للدّيار ولحضن وطنهم الأمّ فلسطين، وتعرية موقف المتآمرين على القضيّة من خلال قصّة الحلم الذي بدأ بحضور صوت يبشّر أبو شنّار بأن ابنه شنّار ما زال على قيد الحياة، وهو موجود في عُمان، في حين يتلقى أبو شنار هذا الخبر وهو موجود في طنجة في المغرب، لتبدأ رحلة اللقاء بينهما عبر سندباديّة الانتقال من المغرب إلى مصر، ودول الوطن العربي، مروراً بفلسطين وضيعة “إجزم” التي ينتمي إليها أبو شنّار وصولاً إلى سلطنة عُمان، لاغياً الحدود ولاعناً الاتفاقات، التي قسّمت بين أبناء الوطن، وزارعاً الأمل في وجدان المتلقي عبر السؤال: “لو كان الوطن العربي دولةً واحدة لا حدود تُفرّق بين سكّانه، فكيف سيكون أمر حاله؟”.

يحمل العرض بالمجمل حالة الحكواتي مع حضور مؤطّر للمونولوج، ففي معظم العرض يبقى الفنان زيناتي قدسيّة حاضراً بصوته الجهوري، ومستخدماً مقدرته في تقمّص عديد من الشخصيّات، التي يلتقيها أبو شنّار عبر قفزاته من مكانٍ لآخر، ومقنعاً الجميع بلغة حواريّة تنوسُ بين الإدهاش والتنكّر، وبين السخرية من الواقع والأمل بما يمكن أن يكون، أمّا المونولوج فهو أعلى حضوراً عندما يطير أبو شنّار فوق فلسطين ويزور “إجزم” ويصف جمال هذه القرية، ويتنعم بطبيعتها ونقائها، وطبعاً كلّ ذلك وهو يجلس في فراشه مستحضراً كلّ أدواته في وضعيّةٍ واحدة لا غير، وهذا ما يدلّ على خبرة ومقدرة ما يزال “زيناتي” محافظاً عليها من دون أن يقع المتلقي في زاوية الملل بل على شوقٍ في أن يلتقي هذا الشيخ بابنه المفقود في النهاية!
يقول زيناتي قدّسيّة في تصريحٍ خاصّ: “يحرص المشتغلون في فنّ المونودراما على وجود بنية حركيّة تشغل خشبة المسرح تعويضاً عن مسألة عدد الممثلين، لكن في هذا العرض حكمتُ بنفسي على هذا الرجل بأن يكون مشلولاً! فماذا عساي أن أفعل هنا وهو مشلول؟ وهي حالة تحدّي بالنسبة لي واجهته لأجعله ميّزة خاصّة به بأن لا يتحرك على المسرح أبداً، وفي نفس الوقت سأبقى محافظاً على عنصر الجذب.
هناك ميّزة أخرى في العرض لا سيّما المسؤولية في طرح الحقيقة الموجودة في الواقع كما هي، فكثير من الأشياء التي طرحها أبو شنّار لها مرجعيّة واضحة في ذهن وعقليّة المشاهدين التي يتداولونها فيما بينهم وإن بالسرّ أحياناً، وميّزة أخرى في العرض هي أنني قصدت أن أقدّمها باللهجة الفلسطينيّة البكر وقد أصررت استخدام بعض الكلمات التي ترتبط بهذه اللهجة أيضاً”.
اكتنفَ الدّيكور على بساطة الأدوات، التي تنتشرُ بتواضعٍ حول أبو شنّار دلالةً على فقرِ الحال، وعلى الترحال المستمر، وما يبقى واضحاً للعيان هي الصرّة التي تنتقل بين يديه، والفراش الذي ينهض منه، ولكلّ من تلك الأدوات دلالاتها كما رغيف الخبز الذي شارك الجمهور إيّاه، وجرّة الماء، في حين كانت الإضاءة متناغمة مع فرضيّة العرض، أيّ حكاية المنام، فهي خافتة أكثر لتمنح جوّاً من التفكير والتعمق بالضوء الذي سُلّط فقد على أبو شنّار من فراشه، كما كان للدخان حضوره عبر قفزاته وطيرانه السندباديّ من مكانٍ لآخر، فأوفى بالغرض المطلوب.
جاءت الموسيقى من اختيار الفنان قصي قدّسية، المتعاون فنيّاً أيضاً في شكل العرض ومضمونه، وانتقاءات الموسيقى كانت مرتكزة على جغرافيّة الأماكن التي زارها أبو شنار، ومنها ما أعطى الصبغة التراثيّة الموّحية لسكان المناطق بعينها، في حين كانت موسيقى الجزء المرتبط بـ”إجزم” أكثر روحانيّة وشاعريّة في آنٍ معاً.
العرض من تأليف وإخراج وتمثيل زيناتي قدسية الذي قدّمها لأوّل مرّة في نيسان 2011 ليعيد عرضها اليوم تزامناً مع ما يجري في غزّة، والعرض من إنتاج وزارة الثقافة ومديريّة المسارح والموسيقا، عُرضت على مسرح القباني في دمشق، وهي تدور في جولتها عبر مسارح المحافظات السوريّة في حمص واللاذقية ودرعا وطرطوس وغيرها، وهناك برنامجها الخاصّ في عرضها خارج سوريا.

Optimized by Optimole