خلق العوالم الخيالية من الميثولوجيا إلى أدب الفانتازيا

خلق العوالم الخيالية من الميثولوجيا إلى أدب الفانتازيا
Spread the love

بقلم: أحمد صلاح المهدي* |

لطالما ولع البشر بالأساطير والملاحم والحكايات الشعبية وتخيل العوالم الخيالية التي تتجاوز حدود العالم المادي، والحقول المألوفة، إلى حقول أخرى سحرية، وحكايات أبطالها الآلهة وأنصاف الآلهة والمخلوقات الأسطورية والأبطال من البشر. وهذه الأساطير تعكس حيرة الإنسان البدائي وتساؤلاته العميقة عن طبيعة الكون وخلق السماء والأرض وأصل البشر وسر وجودهم على الأرض، وعجزه أمام الظواهر الطبيعية التي لم يستطع فهمها حينها كالمطر والبرق والكسوف.

أساطير الخلق عند الشعوب
تعكس أساطير كل شعب من الشعوب القديمة نظرة الإنسان إلى الكون ومحاولاته للإجابة عن تلك التساؤلات، فلا تخلو ميثولوجيا أي حضارة من قصص الخلق، وتصورٍ أسطوري لشكل الكون. وقد تختلف هذه الأساطير داخل الحضارة الواحدة بحسب المنطقة الجغرافية والفترة الزمنية، مثل الأساطير المصرية القديمة التي وضعت نظريات عدة لخلق الكون. ففي مدينة أون (هليوبوليس) التي كانت معقل عبادة إله الشمس رع، نجد أن الإله رع هو أول من انبثق من الفراغ وأعلن نفسه حاكمًا للكون.
أما مدينة خمون (هرموبوليس في العصر البطلمي والأشمونين حاليًا) التي يعني اسمها الثمانية والتي كانت مركز عبادة ثمانية آلهة مصرية أشهرهم “تحوت” إله الحكمة والسحر، فافترضت انبثاق الإله “آتوم” من المياه الأزلية “نون”. أما في الفترة ما بين الأسرتين الثالثة والخامسة، عندما كانت السيطرة السياسية لمدينة منف فقد صار الإله الأول هو “بتاح” معبود المدينة، وهو من نادى على الدنيا للوجود، وصار الآلهة الآخرون أجزاء من جسد بتاح؛ فآتوم هو جوهر القلب واللسان، أما مظهر القلب فهو “حورس”، ومظهر اللسان هو “تحوت”. وقد تركت الأساطير المصرية بصمتها على حضارات أخرى مثل الإغريقية والرومانية.

تصور للآلهة المصرية القديمة بريشة الفنان المصري محمد سعد

ومن قصص الخلق الأشهر هي تلك الموجودة في الأساطير الإسكندنافية أو الميثولوجيا النوردية عند القبائل الجرمانية الشمالية، والتي تجعل العالم في شكل شجرة أسطورية تسمى إغدراسيل Yggdrasil والتي تكونت من الكائن الأسطوري الأقدم العملاق “يمير”، وتحتوي على تسع أراضٍ مختلفة، مثل “آسغارد” أرض الآلهة، و”آلفهايم” أرض الإلف أو الجن، ولكن في منتصف الشجرة يوجد “ميدغارد” أرض البشر والتي تعني ترجمتها الأرض الوسطى.
وبجانب أساطير الخلق، ظهرت الأساطير التي تفسّر الظواهر الطبيعية، فالسماء والأرض هما الإلهان جب ونوت عند المصريين، وهما أورانوس وجايا عند الإغريق. والبرق هو مطرقة ثور عند الجرمان وأسهم زيوس عند الإغريق، وقوس قزح عند الجرمان هو بيفروست الجسر الذي تعبره الآلهة من عالمهم آسغارد إلى عالم البشر ميدغارد، ويحرسه هايمدال إله النور، وهو الذي سينفخ في البوق المسمى غيالارهورن لينذر الآلهة بقدوم راجناروك أو معركة نهاية جميع العوالم. قبل أن ينبثق العالم من جديد وتصبح الأراضي خضراء خصبة وتعود البشرية من أبوين جديدين.

إغدراسيل شجرة العوالم النوردية بريشة روجر كريوس دوريكو

ولم يكتفِ البشر بوضع الأساطير لتفسير الظواهر الكبرى فقط، بل وضعوا أساطير حتى لأبسط الأشياء في الطبيعية، مثل الأسطورة التي تحكي أصل زهرة النرجس في الميثولوجيا الإغريقية، وتنسبها إلى شخص جميل يدعى نركسيوس أو نرجس كان يحب النظر إلى انعكاس صورته في مياه النهر، ومن رماد جثته نبتت زهرة النرجس وإليه تنسب النرجسية أو حب الذات المفرط.

جمع الملاحم والحكايات الشعبية
تناقل البشر تلك الحكايات شفاهيًّا حتى وصلت إلى عصر التدوين وبدأ البشر مرحلة جمع الأساطير وتدوين الملاحم في عصرٍ مبكر من التاريخ البشري، فدوّنت الإلياذا والأوديسا التي تنسب إلى هوميروس في القرن السابع قبل الميلاد. وجمع المؤرخ المصري مانيتون الأساطير المصرية في القرن الثالث قبل الميلاد، ولكن ما كتبه فقد في حريق مكتبة الإسكندرية. وجمعت المهابهارتا التي تروي الأساطير الهندية القديمة باللغة السنسكريتية في القرن الرابع الميلادي على يد فيدا فياسا. وجمعت الأساطير الفارسية في ملحمة الشاهنامة على يد الفردوسي في القرن السابع الميلادي. وجمعت الأساطير الإسكندنافية في الإيدا النثرية التي كتبها المؤرخ الأيسلندي سنوري سترلسون، قبل أن تظهر الإيدا الشعرية في القرن الرابع عشر.
بل ولعب جمع الملاحم دورًا في مصير بعض الشعوب مثل ملحمة الكاليڨالا الفنلندية التي جمعها العالم اللغوي الفنلندي “إلياس لونروت”. وكان الهدف منها إزكاء الروح القومية عند الفنلنديين والذين بدأوا يفقدون هويتهم بعد تعاقب احتلال عدد من الدول الأجنبية عليهم لقرون عدة مثل السويد وروسيا. ويعزى الفضل للكاليڤالا في إلهام الصحوة الوطنية التي قادت في نهاية المطاف إلى استقلال فنلندا عن روسيا في عام 1917.

لوحة تجسد أحد مشاهد ملحمة الكاليڨالا بالمتحف الوطني الفنلندي

دخل البشر بعد ذلك في مرحلة جمع الحكايات الشعبية أو حكايات الجنيَّات Fairy Tales، وهي قصص قصيرة لا ترقى إلى مستوى الملاحم وأساطير الخلق، ولكنها تحتوي بدورها على عناصر سحرية خيالية كالجنيات والساحرات والغيلان والعمالقة والأقزام والمردة والحيوانات المتكلمة، فظهرت كتب الحكايات الشعبية الشهيرة مثل؛ ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وحكايات إيسوب، وحكايات لافونتين.
ونشطت حركة جمع الأساطير في أوروبا مثل الأخوين غريم (1785-1863) في ألمانيا ومن أشهر الحكايات التي جمعاها: ذات الرداء الأحمر وبياض الثلج ورابنزل، وشارل بيرو (1628-1703) في فرنسا ومن أشهر الحكايات التي جمعها: الجمال النائم وعقلة الإصبع وسندريلا، وويليام بتلر ييتس (1865-1939) في أيرلندا ومن أشهر الحكايات التي جمعها: زمار القرية، وعشاء القس، والطفل المخطوف.

من الجمع إلى التأليف
وبعد ذلك انتقل المهتمون بالحكايات الشعبية من مرحلة الجمع إلى مرحلة التأليف، مثل هانز كريستيان أندرسن (1805-1875) والذي جمع العديد من الحكايات الشعبية الدنماركية، ولكنه تجاوز ذلك إلى مرحلة الكتابة والتأليف، فكتب عددًا من الحكايات الشعبية بنفسه مثل: بائعة الكبريت وملكة الثلج وحورية البحر الصغيرة، ولكنها ظلت حكايات بنفس طابع الحكايات الشعبية الأخرى التي تحاكيها.
ومن مرحلة تأليف الحكايات الشعبية، انتقل البعض إلى مرحلة كتابة الروايات، وأبرز من بدأوا هذه الحركة هو الكاتب الأسكتلندي جورج ماكدونالد (1824 – 1905) والذي يعده النقاد رائد أدب الفانتازيا، فقد اكتسبت حكاياته طابعًا فانتازيًّا سحريًّا لا ينكر، وتراوحت قصصه في الطول من الحكايات القصيرة إلى الروايات الطويلة.
قال سي. إس. لويس مؤلف سلسلة روايات نارنيا عنه إنه “أستاذ” وقال إنه قد اقتنى نسخة من كتابه فانتازيس Phantastes من متجر كتب في إحدى محطات القراءات، يقول: “بدأت أقرأ الكتاب، وبعد بضع ساعات أدركت أنني قد عبرت حدًّا فاصلًا عظيمًا”.
أما جي. كي. تشيسترتون مبتكر شخصية الأب براون فقد قال عن كتاب الأميرة والغوبلِن The Princess and the Goblin إنه قد صنع فارقًا في وجوده بأكمله. وقد تصادق جورج ماكدونالد مع الكاتب مارك توين الشهير بمغامرات هاكبلري فان ومغامرات توم سوير وهناك بعض الدلائل على أن مارك توين قد تأثر به.

غلاف رواية “الأميرة والجوبلِن” لجورج ماكدونالد

ورغم أن جورج ماكدونالد يعد كاتبًا في أدب الطفل إلا أنه يقول عن نفسه: “أنا لا أكتب للأطفال، ولكن لكل من هو طفولي، سواء كان في الخامسة أو الخمسين أو الخامسة والسبعين”. وكان ماكدونالد معلمًا للكاتب لويس كارول مؤلف رواية “مغامرات أليس في بلاد العجائب” وكان رد فعل أبناء جورج ماكدونالد المتحمس لرواية أليس هو ما شجعه على السعي لنشرها، وكان لدى جورج ماكدونالد أحد عشر ابنًا وبنتًا.

من الحكايات الشعبية إلى أساطير الخلق
كانت بلاد العجائب ذاتها هي محاولة لخلق عالم سحري آخر غير عالمنا المألوف كغيرها من المحاولات في بداية ظهور أدب الفانتازيا، ولكن الأدباء لم ينتقلوا إلى مرحلة ابتكار عوالم كاملة وأساطير خلق خاصة بهم إلا مع مجيء الكاتب الآيرلندي لورد دونساني، الذي عمل مع ويليام بتلر ييتس جامع التراث الآيرلندي وليدي غريجوري الخبيرة في الأساطير الشعبية الآيرلندية وغيرهما على مشروع إحياء الأدب الأيرلندي الذي حمل لقب الشفق الكِلتي Celtic Twilight. كما تبرع بمبلغ كبير لبناء مسرح آبي الذي عُرضت عليه مسرحيات تمثل الثقافة الآيرلندية والتراث الآيرلندي ويعد حتى اليوم المسرح القومي للجمهورية الآيرلندية.
بدأ دونساني مشواره في الكتابة سنة 1890 وكان كاتبًا نشيطًا حيث كتب طيلة حياته العديد من الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والقصائد الشعرية، وبلغ عدد كتبه أكثر من ستين كتابًا، إلا أن نجمه لم يبزغ إلا بعد نشر كتابه “آلهة بيجانا” “The Gods of Pegāna” سنة 1905. وهذا الكتاب وضع حجر الأساس لخلق العوالم الخيالية وأساطير الخلق الأدبية؛ ففي هذا الكتاب ابتكر دونساني مجمع آلهة بالكامل من خياله، بأساطير الخلق وجغرافيا العالم وحكاياته الأسطورية، حيث تتحدث الحكايات عن إله يسمى مانا يود سوشاي الذي خلق الآلهة الأخرى مثل كيب إله الحياة وسيش إله الزمن ومونج إله الموت، قبل أن يستريح مانا يود سوشاي ويخلد إلى النوم، وتبدأ الآلهة الأخرى في خلق العالم والحيوانات والبشر، وينتهي العالم بعدما يستيقظ مانا يود سوشاي من النوم. لذا يحرص سكارل قارع الطبول على العزف باستمرار كي تجعل موسيقاه وألحانه مانا يود سوشاي يستغرق في النوم، فلو توقف عن العزف لحظة واحدة لاستيقظ مانا يود سوشاي واختفت الآلهة والحياة والكون بحركة واحدة من يده.

لوحة تجسد مونج إله الموت من عالم آلهة بيجانا بريشة آليكس ميتشل

عُدَّ الكتاب عند نشره كقطعة غريبة متفردة، وقال عنها جون كاربن الناقد في جريدة “نيويورك تايمز” إنها: “محاولة لخلق أوليمب خاص به، بقاطنيه وآلهته، وكل واحد له سماته الشخصية وقوة ما يهيمن بها على حياة البشر بشكلٍ مقنع وخيالٍ متقن”. وقد أشاد المحرر إي. إف. بلايلر المتخصص في أدب الفانتازيا والخيال العلمي بالكتاب وقال عنه: “خلق مقنع رائع لكوزمولوجي غريب”. وقد قال الكاتب آرثر كلارك عن دونساني إنه من أعظم الأدباء في القرن العشرين، وقال عنه لافكرافت إنه: “مخترع ميثولوجيا جديدة، وحائك أساطير لا مثيل له”. كما قال عنه ويليام باتلر ييتس إنه: “قد تجلي بجمال في عالمنا المعهود”.

الرعب الكوني عند لافكرافت

تأثَّر العديدُ من الكُتّاب المعاصرين بدونساني وأسلوبه وأفكاره، فقد تأثر به لافكرافت عندما سمعه يتحدث أثناء واحدة من رحلاته الأدبية إلى الولايات المتحدة الأميركية ـ التي تكررت ما بين عاميّ 1919 و1950 ـ وانبهر به بشدة، فخلق لافكرافت عالمًا خياليًا من الآلهة خاصًا به ويطلق النقاد على هذا العالم اسم ميثولوجيا كثولو “Cthulhu Mythos”، نسبة إلى كثولو أشهر كيانات لافكرافت. كما أن أول ظهور لهذا العالم الخيالي المجنون كان في قصة “نداء كثولو The Call of Cthulhu” سنة 1926، وفي هذه القصة تظهر آلهة أو كيانات قديمة سادت الأرض قبل ظهور البشر ثم غرقت مدينتها ريليه في أعماق المحيط الهادي لتدخل تلك الكيانات في حالة من السبات تشبه الموت، وتطمح تلك الكيانات القديمة إلى العودة مجددًا كي تسود الأرض بمساعدة طوائف دينية مجنونة تعبد تلك الآلهة القديمة مثل كثولو، وداجون الذي ظهر لاحقًا في قصصٍ أخرى بعدما بدأ لافكرافت يتوسع في عالمه.

لوحة تجسد كثولو بريشة آندري والين

والجد الأكبر لكثولو هو آزاثوث Azathoth أول الآلهة ظهورًا في الكون، ويبدو التشابه واضحًا بينه وبين مانا يود سوشاي عند دونساني؛ فكلاهما يخضعان للنوم تحت تأثير ألحان الموسيقى، وكلاهما ينتهي العالم حين استيقاظهما، إلا أن إله لافكرافت إله أعمى مجنون يدمر العالم بدافع الفوضى، فيقول لافكرافت في قصته “رحلة الحلم لكاداث المجهول The Dream-Quest of Unknown Kadath” والتي كتبها سنة 1927 واصفًا آزاثوث:
“خارج العالم المنظوم يوجد هذا البلاء الهلامي من الفوضى السفلية التي تجدف وتزبد في مركز كل اللانهائية؛ وهو السلطان الإلهي اللامحدود آزاثوث، الذي لا تجرؤ شفتان على التلفظ باسمه بصوتٍ عالٍ، والذي ينهش بجوعٍ في حجراتٍ مظلمة لا يقدر العقل على تصورها، وراء حدود الزمان والمكان، بين القرع الجنوني المكتوم للطبول القبيحة، والأنين الحاد الرتيب للمزامير الملعونة”.
ورغم شاعرية دونساني وعالم الساحر إلا أن عالم لافكرافت كئيب وقاتم بآلهته المخيفة وكياناته المرعبة، يرى فيه عبثية الحياة أمام هذا الكون العشوائي الأعمى كآزاثوث. صار هذا النوع من الرعب الذي يقدمه لافكرافت المعروف باسم الرعب اللافكرافتي أو الرعب الكوني نوعًا فرعيًّا من أدب الرعب بسماته الخاصة.

أساطير من أجل إنجلترا
ومن الأسماء اللامعة في الفانتازيا هو الكاتب جي. آر. آر. تولكين مؤلف الهوبيت وسيد الخواتم، بل لعله الاسم الأشهر في هذا المجال، والعالم الخيالي الذي اختلقه والذي حمل اسم الأرض الوسطى. كان تولكين مولعًا بالملاحم والأساطير الشعبية مثل الإيدا النثرية والشعرية وبيوولف والكاليڨالا. وقد تأثر كثيرًا بالأخيرة والتي كانت تحمل اسم أساطير من أجل فنلندا، فقد كان يشتكي دومًا من فقر بلاده إلى الأساطير، وعكف بعدها طيلة حياته على مشروع “أساطير من أجل إنجلترا”.
كان طموح تولكين منذ البداية أن يقوم ببناء ميثولوجيا كاملة تتدرج من الحكايات الكونية وقصص الخلق حتى تصل إلى القصص الصغيرة وحكايات الجنيات، وأن يقوم ببناء حكايات كاملة مستقلة وسط هذا العالم الخيالي، ولا يشكل سيد الخواتم والهوبت إلا لمحات صغيرة من هذا العالم الساحر.
قال تولكين إنه “تأثر بشدة” بالأساطير الفنلندية، ويظهر في رسائله لخطيبته “إيديت برات” في عام 1914 رغبته في تحويل إحدى حكايات الكاليڤالا وهي قصة كوليرڤو والتي هي حكاية تراجيدية طويلة إلى قصة نثرية قصيرة مع مجموعة من الأناشيد. وقد كانت حكاية كوليرڤو هي نقطة تحول في حياة تولكين، فقد كانت المرة الأولى التي ينتقل فيها تولكين من كتابة الشعر إلى كتابة النثر، وتعد شخصية كوليرڤو البطل التراجيدي المأسوي هي البذرة الأساسية لأغلب شخصيات وأساطير تولكين، وخاصة حكاية أبناء هورين وبطلها تورين تورمبار.
تأثر تولكين كذلك بقصة الخلق في الكتاب المقدس، ويظهر هذا الأثر في قصة خلق عالمه، التي جمعت في كتاب واحد يحمل اسم السيلماريليُن نسبةً إلى أحجار السيلماريل، ففي عالمه هنالك إله أوحد يدعى إيرو إيلوڤاتار، لا عدة آلهة كعادة الميثولوجيا والحكايات المقتبسة منها، وهنالك الآينور “الملائكة” الذين يهبط بعضهم إلى الأرض لإعمارها من أجل والبشر والإلف الذين هم أبناء إيلوڤاتار، ومن أجلهم خلقت الأرض. من هؤلاء الآينور أو الڨالار واحد يدعى ميلكور والذي كان مفضلًا لدى إيلوڤاتار ولكنه يسقط في الظلمة ويتحول إلى “مورجوث” أي العدو الأسود بلغة الإلف، وصار مصدر الشر والإغواء على الأرض مثل حكاية إبليس في الكتاب المقدس.
يقول الكاتب والمترجم السوري أسامة أبو ترابة مترجم كتاب “السيلماريليُن” في كتابه الذي يحمل اسم “عالم تولكين والأرض الوسطى”، متحدثًا عن قصة الخلق عند تولكين: “لم ينشأ الكون عند تولكين من العدم، بل نشأته كانت من فكر خالق واحد وموجود، لكنه لم يتطرق بشكل أو بآخر إلى كيفية وجود هذا الخالق، على اعتبار أن مسألة وجوده وأزليته مسلمة غير قابلة للنقض أو النقاش. ثم يبدأ بعدها بشرح كيفية خلق الملائكة أو ما يسميهم (آينور)، فقد طرح فكرة بداية الخلق؛ في الفصل الأول المسمى آينولينداليه (أي موسيقى آينور) من رواية السيلماريليُن، على الشكل التالي: في البدء كان إيرو الأحد، والذي يسمونه في آردا إيلوڤاتار. خلق إيلوڤاتار أولاً آينور المقدّسين، فهم نسلُ فِكرِهِ الذي كان معه قبل كلِّ شيء”.
وبعد ذلك يشرح أبو ترابة شخصية ميلكور في كتابه قائلًا: ” كان إيلوڤاتار قد أعطى الكثير من الميزات والحكمة. لكن ميلكور سعى بكل حكمته وقوته اللتين يملكهما إلى مجدٍ ذاتي فقط. إذ راح يعمل بالسر ساعياً إلى حيازة النار الأبدية، لكنه بذلك سعى إلى دمار نفسه، فلا امتلك النار الخالدة، ولا بقي في مصافي الأخيار، فسقط إلى الظلام، وأصبح روحاً مبذرةً مسرفة. وبدأ يحسد هدايا أخوته ويشتهيها لنفسه، محاولاً الحصول عليها عبر الأكاذيب، حتى وصل به الحال أخيراً إلى التمرد على خالقه إلوڤاتار. وراح يخرب أعمال بقية أخوته الآينور”.

مورجوث وأحجار السيلماريل بريشة جاستن جيرارد

عالم تولكين ضخم وشاسع فهو لا يضم الأرض الوسطى وحدها بل هناك الأرض المظلمة في الشرق، وآمان أرض الڨالار في الغرب، وجزيرة نومينور وغيرها من الأراضي والجزر والقارات، ويروي قصصًا وحكايات تسبق سيد الخواتم بآلاف السنوات، ويرينا ممالك الإيلف التي سقطت في العصر الأول أمام مورغوث مثل دورياث وغوندولين ونارغثروند، وهي التي ذكرها جيملي بعد ذلك في قصيدة في سيد الخواتم وهو يقف في مناجم موريا قائلًا:

لقد كان العالم جميلًا والجبال شاهقة
في الأيام القديمة قبل سقوط
الملوك الجبابرة في نارغثروند وغوندولين
الذين عبروا الآن إلى ما وراء البحار الغربية.

وهناك مئات الشخصيات من الإيلف والدوارف والبشر والإينور والڨالار والمايار في أحداث ضخمة ومتشعبة. فقد استطاع تولكين خلق عالم كامل بكل تفاصيله وأجناسه وثقافاته ودياناته بشكل مقنع، فتشعر أنه تاريخ عالم حقيقي وليس مجرد حكاية خيالية يرويها راوٍ.

بوابة آرجوناث التي تميز الحدود الشمالية لمملكة جوندولين بريشة خوان كارلوس باركيه

تأثر تولكين في بناء عالمه بروايات العديد ممن سبقوه مثل كتابات دونساني عندما قرأها في شبابه، وقد تكرر اسم دونساني وكتبه مرات عدة في خطابات تولكين، وهناك تشابه بين قصص دونساني وبين قصائد “مغامرات توم بومبادل” التي كتبها تولكين. ولعل الكتاب صاحب التأثير الأكبر على تولكين هو كتاب العجائب “The Book of Wonders” الذي يرى النقاد أن له دورًا كبيرًا في بناء عالم السيلماريليُن الخاص بتولكين.
كما أن دونساني في روايته “بنت ملك الإلف” ” The King of Elfland’s Daughter” التي صدرت عام 1924 قدم صورة الإلف النبلاء طوال القامة في عالمه، وهو شكل مستوحى بشكل كبير من الميثولوجيا الاسكندنافية، بعيدًا عن الصورة الشعبية التي تصفهم بأنهم قصار القامة يسببون الأذى للناس ويعتدون عليهم، وهي الصورة التي نجدها في الأساطير الأيرلندية والإسكتلندية وغيرها. وكان تولكين قد لاقى صعوبات في النشر بسبب استخدامه لكلمة إلف في قصائده لما تحمله من انطباع سيئ عند الناس حينها، إلا أن كتاب بنت “ملك الجن” قد مهد الطريق أمام تولكين وغيره لاستخدام الإلف بالشكل المستقر في وجدان قارئي الفانتازيا المعاصرين.
تأثر تولكين كذلك برواية “التنين أوروبُروس” للكاتب إيرك إديسون والتي صدرت للمرة الأولى عام 1922 واحتوت على عالم مخترع بالكامل وأجناس أسطورية وسحر وحروب بين جيوش الخير وجيوش الشر. وقد قارن النقاد رواية “سيد الخواتم” عند صدورها برواية “التنين أوروبُروس”. وحتى تولكين ذاته يعترف بتأثره الشديد بها، وقد كتب لويس مؤلف “نارنيا” مقدمة قال فيها: “لا يوجد كاتب آخر نستطيع أن نقول إنه يشبه إديسون”.

وأخيرًا…
تسابق الكُتّاب في خلق عوالمهم الخيالية الخاصة، مثل روبرت هوارد مؤلف سلسلة كونان البربري، ومايكل موركوك مؤلف سلسلة إيلرك، وأورسولا كي. لوجوين مؤلفة سلسلة إيرثسي، وميرڨن بيك مؤلف سلسلة غورمنجاست. وحتى يومنا هذا يتبارى كُتّاب الفانتازيا في خلق العوالم الخيالية ورسم الخرائط واختراع اللغات والأجناس، وهذا الطريق الطويل قد بدأ بخرافات الإنسان البدائي القديم الذي وقف عاجزًا أمام قوى الطبيعة، حتى وصل إلى الإنسان الحديث الذي يخترع هذه العوالم بغرض المتعة والاستمتاع، والهرب إلى عوالمٍ أخرى شيقة بعيدًا عن الواقع الكئيب.

Optimized by Optimole