قراءة في كتاب «الرومي .. دين الحب»

Spread the love

بقلم: عائشة موماد* —

تستهل ليلي أنفار كتابها عن مولانا جلال الدين الرومي “الرومي – دين الحب” ببيت شعري من ديوان شمس تبريز:
غرق محيطي في ذاته…
مذهل أنا، ذلك المحيط من غير شاطئ
كأنها تدعونا إلى دخول ذلك المحيط الشاسع، إلى عوالم مولانا جلال الدين الرومي من غير رجعة، حيث تقول: “أولئك الذين قرؤوا ودرسوا وأحبوا أعمال الرومي زهاء 800 سنة، مروا بتجربة الدخول إلى محيط من غير شاطئ، تصعب العودة منه”
اعتمد في إعداد هذا العمل على مجموعة من الأعمال السابقة، بغية إعطاء لمحة عن حياة مولانا، وكيفية تأثير سيرته في تكوين أفكاره وصياغة أعماله، حيث اهتمت الباحثة بأعمال كل من:
– بديع الزمان فروزانفر، الذي نشر جميع أعمال مولانا جلال الدين الرومي.
– فرانك ليويس، الذي دون كل ما قيل عن مولانا جلال الدين الرومي في مؤلفه: “الرومي ماضيا وحاضرا، شرقا وغربا”
– الأستاذ علي موحد خوارزمي، الذي نشر كتاب مولانا شمس الدين التبريزي “مقالات”
– الأستاذ محمد استعلامي، الذي نشر ووثق “المثنوي
بالإضافة إلى مراجع فارسية، ترجمت مادتها إلى اللغة الفرنسية:
– كتاب”فيه ما فيه“و”كليات شمس“أو”الديوان الكبير“لفروزانفر
– كتاب”المجالس السبعة“لتوفيق سبحاني
– كتاب”مناقب العارفين“لأحمد شمس الدين أفلاكي
– كتاب”معارف: مجمع المفايز وكلمات السيد برهان الدين محقق الترمذي“
– رسائل سبهسالار لفريدون بن أحمد سبهسالار
– كتاب”معارف“لبهاء الدين ولد
– كتاب”ولد نامه“لسلطان ولد
تؤكد ليلي أنفار على استحالة تقديم جميع جوانب حياة مولانا، حيث فضلت التركيز على الجانب الروحي الذي كان محط اهتمام مولانا جلال الدين الرومي، لذلك كان من الواجب التعريف بالشخصيات التي أثرت في حياته ثم تقديم أعماله ومؤلفاته الرئيسية.
تقول ليلي أنفار:”يجب التأكيد من الآن على أنه من الضروري تناول أعمال مولانا من زاوية روحية صرفة، فلأي مقاربة أخرى تعتبر تفسيرا خاطئا، ومن أجل ذلك علينا الخروج من دائرة التصورات المعاصرة. لقد عاش الرومي في عالم حيث يتآلف الروحي والمقدس واللا طبيعي من أجل تشكيل الحياة“
فالتصورات والتأويلات المعاصرة تغلب عليها المادية بخلاف الوضع أيام مولانا جلال الدين الرومي، حيث كانت الجماهير تتجه إلى تأويل الواقع من خلال نظرة أكثر روحانية رغم احتياجاتها المادية بالطبع، و”كانت الجوانب الدينية والروحية تعطي معنى للحياة وتكون بنية الوجود“ل.أ.
حاول مولانا إيصال كلامه حيث يعجز اللسان عن الكلام، فعالم الروح لا يمكن التعبير عنه، وجماله ينير كل أنحاء الكون. فكان لا بد من خلق لغة للروح تجلت في أشعاره التي جابت العالم وعرفت صدى كبيرا في الغرب، لبعدها الروحي أولا، دون إغفال البعدين الاجتماعي والديني. ف” لتجاوزه الضوابط والبنى التقليدية، قد وصل إلى الكونية“ل.أ، وشيد عالما جميلا، كان”انعكاسا للحب الذي يسكنه“ل.أ.
قدمت الباحثة مؤلفها في جزأين رئيسيين مرفقين بانطولوجيا. تتعمق من خلال الجزء الأول في حياة وسيرة مولانا منذ الولادة حتى الرحيل، وتبرز كل المراحل والرموز التي ساهمت في تكوينه وتغيير منحى حياته، أما الجزء الثاني، فإنه يشكل قراءة معمقة لأعمال مولانا جلال الدين الرومي الشعرية والنثرية ورسما متقنا لعالمه البديع.
اعتمدت ليلي أنفار في خطها لسيرة مولانا جلال الدين الرومي على مجموعة من المصادر، اعتبرتها متكاملة ومتناسقة، وتمكن من تتبع مسيرة الشيخ الصوفي والشاعر المتميز (قد تم ذكر كل المصادر في المقدمة)، وتؤكد أن تعدد هذه المصادر يشكل منجما ثمينا للباحث بالرغم من قولها أن بعضها ذو طابع قداسي وتختلط فيه الحقائق بالخرافات. فشخصية مولانا المشرقة جمعت حوله كثيرا من الباحثين عن الحقيقة وحتى بعض المتطفلين، أناس من كل التوجهات الدينية والانتماءات الاجتماعية التي ساهمت في خلق”أسطورة الرومي“على حد تعبيرها.
فمن أجل ذلك كان من الواجب لدى المؤلفة تحقيق كل المتن على قدر المستطاع ومقارنة الأساطير على ضوء المعطيات التاريخية والنصية، وتقبل بعض السرد الخرافي لأنه يخبرنا بمعطى أساسي، ألا وهو نظرة معاصري مولانا لشخصه وكيفية تلقيهم لتعاليمه وقراءتهم لأعماله.

لن يبقى سوى اسم
إن الاسم الكامل لمولانا هو جلال الدين محمد ابن سلطان العلماء بهاء الدين ولد ابن الحسين ابن أحمد خطيبي، ولهذا الاسم دلالات كثيرة حول آبائه، حيث كان والده سلطان العلماء وهو الذي أطلق عليه لقب”جلال الدين“، وكان جد والده خطيبا.
كما أن للموقع الجغرافي نصيبا من اسم مولانا، فقد لقب ب”الرومي“لانتمائه إلى منطقة الأناضول وقد كانت تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية آنذاك، وسمي كذلك ب”البلخي“نسبة إلى”بلخ“مسقط رأسه وهي مدينة في أفغانستان الحالية، لكن الإسم الشائع والذي أطلقه عليه مريدوه هو”مولانا“في كل بلاد فارس وتركيا.

لا من الشرق ولا من الغرب
عبر مولانا عن لانتمائه لذلك العالم الذي مزقته الحروب وسفكت فيه دماء ملايين البشر تحت قوة الجبروت والغطرسة، في أبيات من الديوان الكبير:
داخل الحرب والدماء…قد دمر التتار العالم….أعلم ذلك
لكن الخراب يخفي كنزا…أي مكروه يستطيع إصابته؟
قد دمر العالم….اعلم ذلك…لكن، ألست صديق ذوي الحياة المحطمة؟
من كان ثملا بك…كيف يلحقه الدمار؟
”هذا العالم الدامي والذاهب نحو الهاوية ليس سوى معبر للوصول إلى بعد آخر. وفي نفس الوقت، كل إيقاع، كل لحظة جمال، كل نظرة تأمل في وردة، في وجه، في الشمس أو المحيط، كلها شهادات على عظمة الخلق، ما وراء كل الآلام“. ل.أ
معلومة جديدة تشير إليها المؤلفة من خلال دراستها لأعمال”فريتز ميير“و”ف.ليويس“، هي أن مولانا لم يولد ب”بلخ“بل ب”فاخش“وهي مدينة صغيرة بعيدة عن”بلخ“في طاجيكستان الحالية. لكن”من أجل رجل عشيرته من عالم ما وراء الأكوان، ويرنو إلى فضاء ما وراء اللامكان، فهذا ليس بالأهمية الكبرى“ل.أ
قد أشار مولانا إلى أهمية الحركة في العالم الطبيعي والعالم الروحي الذي يقابله، فكل الأشياء في حركة دائمة، وتكوين أكبر الصوفية كان من خلال الترحال والسفر، فمن المستحيل أن يكون هناك عالم ثابت وإلا فإن مصيره الهلاك والموت.
فكيف لنا أن نتصور مصير عدد من الرسل والأنبياء دون حركة وسفر: غياب يوسف عن أبيه ورحلته نحو مصر، فراق موسى لأمه، تنقل عيسى وإحياؤه للموتى، هجرة محمد من مكة ثم عروجه إلى سدرة المنتهى للقاء ربه.
يمكن أن نقيس على ذلك هجرة مولانا مع أسرته من مسقط رأسه الذي دمر وأحرق من طرف جيوش جنكيز خان.”الحركة جسمانية كانت أم روحية، فهي مرادف للحياة، للتطهر، للعروج وللنور“.ل.أ
وكما يقول مولانا في كتاب مناقب العارفين لأحمد الافلاكي:”الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي ينمو و يرتقي كل يوم. …التشبث بشيء ما أو الوقوف يؤدي بك إلى الموت“.

كنت نيئاً، ثمّ نضجت، ثم احترقت…

لا يمكن تجريد تصوّف مولانا جلال الدين الرومي من إطاره العام، أي الإسلام المحمدي، على الرغم من ابتعاده عن صلابة الشريعة وعن التصوف المؤسساتي كما تفعل بعض التيارات الغربية.

“في هذا المنحى، فقد كان دائما وفيا للتقليد، حرا في فكره، متميزا في رؤيته وتناوله للأشياء” ل.أ.

“وإن كان الرومي أمير العشاق، فلأنه عرف أن يَعشق ويُعشق، أن ينشأ ويتلاشى في العشق” ل.أ.

من هنا كان لزاما التعريف بمعلميه والمساهمين في رقيه الروحي: الأب “سلطان ولد”، شيخه ومريد والده “برهان الدين محقق” ثم معشوقه “شمس الدين التبريزي”. وكما يقول “إريك جوفروا في كتابه ”Initiation“: ”الشريعة، الطريقة، ثم الحقيقة“.

نتطرق في هذا الجزء إلى تعاليم الوالد بهاء الدين ولد، ومن بعده مريده برهان الدين محقق الترمذي، ثم نخصص جزءا ثالثا من هذه القراءة إلى الشمس الساطعة: شمس الدين التبريزي.

في كتاب “المعارف” لوالد مولانا، وفي مصادر أخرى مختلفة، يظهر أن هذا الأخير كان ذا بنية دينية وروحية لا مثيل لهما، وكان صاحب كرامات كثيرة ومريدين كثر. وتقول الباحثة إن قراءة كتاب “المعارف” يظهر أن بهاء الدين ولد كان شيخا عارفا بالله، منغمسا في جو روحاني غني. ل.أ.

لكن حسب “ف. ليويس” في كتابه “الرومي ماضيا وحاضرا، شرقا وغربا” ينكر الباحث ذلك ويأتي بدلائل وحجج، ويذهب إلى حد إنكار تأثير بهاء الدين ولد على ابنه، فقد حجب شمس الدين التبريزي كل ذلك، وكان شيخه الحقيقي وقطبه الروحي. “في أعمال الرومي نفسه، لا نلاحظ أنه ذكر والده أو أشار إلى أعماله أو تأثيره عليه بشكل مباشر”. ل.أ.

ويعتقد أن سلطان ولد قد وضع أفكارا ومعلومات غير محققة عن أبيه وجده، و”يعزى ذلك إلى حب الانتماء إلى سلالة من علماء الشريعة. كما أنه، رغم معارضته لبعض سلوكيات أبيه، أراد أن يضفي نوعا من المشروعية الدينية عندما يضع والده داخل إطار عائلي “صحيح دينيا”. ل.أ.

وتوالت بعد ذلك السير التي أتت بجملة من الادعاءات، وتفاقم الجانب الخرافي فيها، حيث اختلط بالوقائع.

لم يحظ بهاء الدين ولد بمثل شهرة ابنه، لكن ذلك لا يمنع من كونه معلما روحيا كبيرا، ساهم في التكوين الروحي لجلال الدين الرومي. “فمن المحاور الأساسية لفكر الرومي أن الحقيقة الروحية لا تقاس بمعيار الشهرة”. ل.أ.

لقد كانت حياته الروحية متوجهة نحو عشق الخالق في جميع الحالات وكل الأشياء، لكن ذلك بعيد كل البعد عن وحدة الوجود “Panthéisme” التي يعتقد بها الفلاسفة الغربيون. ألم يقل سبحانه إنه أقرب إلينا من حبل الوريد؟ كفى بذلك دليلا.

بعد وفاة سلطان العلماء بهاء الدين ولد بسنة، التحق برهان الدين محقق الترمذي بقونية من أجل إتمام ما بدأه الأب بشأن مولانا جلال الدين الرومي، وقد اختلفت الروايات حول سبب مجيئه. هناك من يقول إنه جاء باحثا عن شيخه لكن المنية سبقته، وهناك من قال إن شيخه أمره أثناء الحلم بالذهاب إلى قونية والتكفل بالتكوين الروحي لمولانا. دام ذلك تسع سنوات زار فيها مولانا حلب ودمشق، ودرس علوم التفسير وعلم الحديث والفلسفة والحكمة الإشراقية “Théosophie”.

كانت هذه المرحلة مناسبة للإحاطة بالعلوم الظاهرية “الشريعة” حتى يتمكن بعد ذلك من ولوج “الطريقة”.

يقول برهان الدين محقق في كتاب “ولد نامة” لسلطان ولد مخاطبا مولانا الذي يعتبره كابن له: “مهما كنت بارعا في العلوم وليس لك مثيل: اعلم أن أباك كان يمتلك الأحوال الروحية. ابحث عن ذلك وتتجاوز (علم القال). الآن وقد أصبحت متمكنا من هذا العلم مثلي، ادخل إلى سكر أحواله وجاهد على أن تحصل على إرث أبيك كاملا لكي تكون كالشمس ناشرا للنور، أنت وريث أبيك بالنسبة للقشرة، انظر، فأنا قد حظيت باللب”.

نصح برهان الدين محقق تلميذه بقراءة أعمال والده بغرض استبطان المعاني الروحية من خلال الطقوس الظاهرية، وقد كان الشيخ متعلقا بالصيام والصلاة، وكان يحث على الخلوة من أجل التمرن على الزهد والتأمل، وقد قال في هذا الشأن:

“نستطيع الهروب من كل شيء، ذلك يسير، لكن لا نستطيع الهروب من أنفسنا. فالنفس هي سبب آلامك. لن تعرف الراحة قبل أن تصير (لا شيء) وتفني النفس وشهواتها. مت قبل الموت وادفن (نفسك) في قبر (اللاشهوة)، عندها ستصل إلى السعادة…”. (موتوا قبل أن تموتوا) من الأحاديث النبوية التي تأمل فيها الصوفية كثيرا وحاولوا تحقيقها على أرض الواقع عبر مجموعة من المجاهدات. وقد ذكر الرومي مرات عديدة ”الموت قبل الموت“، أي التخلي بطريقة قطعية عن النفس وعن كل ما يربطها بالدنيا والابتعاد عن ”النفس الشهوانية“ للوصول إلى كيفية أخرى للبقاء ”mode d’être“ تكون هي السعادة الحقيقية”. ل.أ.

وقد قال مولانا في غزل شهير من الديوان الكبير:

موتوا، موتوا في هذا العشق، موتوا

عندما تموتون في هذا العشق، تحظون بالروح كاملا

موتوا، موتوا، لا تخافوا من هذا الموت

لأنكم ستصلون إلى السماء وأنتم تغادرون هذه الأرض

موتوا، موتوا، انفصلوا عن هذه النفس

فهذه النفس قيد وأنتم لها سجناء

تناولوا الفأس وهاجموا هذا السجن الفارغ

سوف تصبحون ملوكا وأسيادا بعد تدميره

موتوا، موتوا بالقرب من الملك الحسن الوجه

سوف تصبحون ملوكا وأمراء، إذا متم بالقرب منه.

لهذا نلاحظ أنه كان لبرهان الدين محقق تأثير كبير على مولانا نشهده في الحكايات والقصص التي يرويها في آثاره التعليمية. “فالشيخ كان يلجأ إلى القياسات والصور المجازية من أجل شرح مسائل روحية بطريقة ملموسة وجذابة… وكان هو من شجع الرومي الشاب على قراءة الأشعار ذات الطابع الروحي كمصدر للحكمة والتعلم، حيث أن الأشعار في تلك الحقبة الزمنية، لم تكن تدخل في إطار التكوين الروحي”. ل.أ.

كان برهان الدين محقق متذوقا للشعر، صانعا منه مصدرا لإلهامه وطريقة للتعبير عن أحواله الروحية التي يعجز عنها الوصف، وقد ظهر ذلك جليا وبصورة أكثر وضوحا في مختلف أعمال جلال الدين الرومي الذي تهيأ لمدة تسع سنوات للقاء. “هل كان يعلم أن هذا الاستعداد الروحي للقاء الله كان استعدادا للقاء محرق، سيضرم النيران في إلهامه الشعري؟ هل أحس بذلك؟ ليست هناك أي مصادر تستطيع الجزم بذلك”. ل.أ.

تعددت القصص والحكاوي حول لقاء مولانا جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي، لكن ما يهم، كان هو ذلك اللقاء، ولادة مولانا جلال الدين الرومي الحقيقية التي وثقت بعناية, كان ذلك في 9 نونبر 1244 فيما أطلقته عليه المؤلفة “مرج البحرين” استشهادا بالآية القرآنية. كان ذلك أهم لقاء في حياة مولانا حتى أننا نجد ابنه سلطان ولد يذكر شمس الدين التبريزي عندما وثق لسيرة والده قبل ذكر برهان الدين محقق أو جده بهاء الدين ولد.

يقول سلطان ولد في كتابه ولد نامه:“ بعد انتظار طويل، أخيرا، رأى وجهه وظهرت له الأسرار، واضحة كالنهار. رأى ما لا يُرى وسمع ما لم يسمعه أحد أبدا. لأنه في اشتياقه قد استنشق عطره، دون حجاب. وثملا بالعشق وغائبا عن نفسه، أضحى أمامه كل شيء ولا شيء”.

ويذكر شمس الدين التبريزي لقائه بمولانا في كتابه “مقالات” حيث يقول:
“أول كلامي مع مولانا كان سؤالي له: إذا كان بايزيد البسطامي صادقا عندما قال أنه كان يسير على نهج المصطفى، لماذا لم يتصرف مثله ولماذا قال”سبحاني“بدل أن يقول”سبحانك؟“
لأنه كان صافيا وذا روح مشرقة
فهم مولانا في الحال ما أردت قوله
أخذ قولي في كامل عمقه
رأى إلى أين يؤدي هذا الكلام
عذوبة الكلام
أصبح ثملا
ورغم أني لم أدرك ذلك بنفسي
فتلك الثمالة أثارت انتباهي لعذوبة كلامي.

لم يرد في مقالات شمس ولا في مؤلفات سلطان ولد أي جواب لهذا السؤال رغم أن الكثير من كتاب سيرة مولانا قد حاكوا قصصا حول هذا اللقاء واختلقوا إجابات كان الدافع من ورائها إبراز مكانة مولانا جلال الدين الرومي.
تقول ليلي أنفار:”البارع في سؤال شمس أنه لا يستوجب منك اتخاذ أي موقف، بل يطلب من الذي يتقن الاستماع:
ما معنى أن تكونا صادقا؟
ما معنى السير على نهج الرسول؟
ما معنى نشوة اللقاء؟
أين أنت من معرفتك بنفسك، أنت الذي تظن أنك تتبع بايزيد والرسول معا؟
أين أنت من السكر والرشد؟
هل فككت طلاسم هذا التناقض المحوري؟“

في الحقيقة، لا يمكن تخيل أية إجابة لسؤال بلاغي كهذا، كان الغرض منه الدخول في سكر تواصل خاص بهما فقط.
”شمس الذي يوجد في موضع وسط “بين مدرسة الشطح ومدرسة الزهد”، لا يعتبر السكر إلا لحظة للترقي الروحي، ويعتبر أن بايزيد قد توقف في السكر ولم يستطع أو لم يعرف كيف يتجاوز سكره“ل.أ

لكن رغم التشكيك في صدق تلك الحكايات، ومنها رواية فروزنفر ثم رواية الجامي ، فإنها تظهر ما غيره شمس في مولانا جلال الدين الرومي.
”بصحبة شمس، لم يقم فقط باكتشافات جديدة، لقد دخل إلى بعد آخر…….دخل بكل كينونته وسط العشق الإلهي ووُضع مباشرة في حضرة الله، وهذه التجربة التي لم ينقطع أبدا عن إنشادها أفنته وأعادت ولادته من جديد“.ل.أ

يقول مولانا في شأن ذلك:
كنت ميتا، فأصبحت حيا
كنت بكاء، فأصبحت ضحكا
ملك العشق قد أتى وملكي صار بدون حدود.
قلب شمس حياة مولانا جلال الدين الرومي رأسا على عقب.

خير دليل على أن شمسا كان شخصية حقيقية وليس مجرد أسطورة كما زعم البعض، هو اكتشاف مجموعة كتاباته”مقالات“خلال الأربعينات، والتي تم نشرها في السبعينات.”أصالة وحداثة فكره والاستعارات الي يستخدمها، مواقفه العنيدة حيث يختلط اللين بالعنف، قوة نثره الشعري، كل ذلك يسهم في جعله جذابا بشكل استثنائي. ولمرات عديدة، قراءة ذلك النص، يجعلنا نفهم سر الاضطراب الذي أحدثه في شخصية بمنزلة الرومي“ل.أ.

تعددت ألقاب شمس، فسمي”قطب الصوفية“و”سيد أولياء الله“و”إمبراطور مجانين العشق“لكن الإسم الذي بقي خالدا كان”شمس الدين“أو”شمس الحق“. ولعل الأفلاكي كان الوحيد الذي وافانا بالإسم الكامل: مولانا شمس الحق والدين محمد بن علي بن مالك داد. يقول الأفلاكي في مناقب العارفين:”في مدينة “تبريز”، كان الصوفية والمعلمون الروحيون يلقبون شيخنا شمس الدين ب“التبريزي” نسبة إلى المدينة، لكن الرحل ذوي القلوب المضيئة كانوا يلقبونه ب“الطائر”.

غادر شمس مسقط رأسه تبريز وعاش جوالا ينتقل من مكان إلى مكان، يكسب رزقه من أي عمل أو حرفة لكي لا يكون شبيها بهؤلاء الدراويش الذين يعيشون على الهبات والصدقات مقابل بضع كلمات من الحكمة. قابل مجموعة من الشيوخ والعلماء لكنه لم يفصح لأحدهم عن شخصيته الروحية، ولعل ذلك كان السبب في أنه لم يذكر من طرف أي أحد منهم .

يقول شمس في مقالاته:
ما وراء هؤلاء العلماء البارزين
الذائعي الصيت بين الناس والمحتفى بهم فوق منابر الوعظ وفي اللقاءات الروحية
هناك خادمون للحق
يعملون في خفاء.

كان شمس باحثا عن رفيقه الروحي. لم يجده في تبريز ولا في أي رحلة من رحلاته إلى بغداد أو دمشق أو حلب. كان يقول:
عندما تركت مدينتي
لم أعثر على أي معلم
لم أجد شيخي
إنه موجود
لكن أنا الذي تركت مدينتي من أجله
لم أجده
لكن العالم لا يخلو من المعلمين.
“لكن صوتا داخليا كان يخبره بأنه سيقابله يوما ما، هناك، في الغرب

وفي جزء آخر من”المقالات“كان يقول:

سألت الله أن يعرفني على أصدقائه لأجالسهم
قيل لي من خلال رؤيا:”سوف تكون صديقا حميما لأحدهم
“سألت، أين يكون؟
“وفي الليلة الموالية أتاني الجواب،”إنه في الأناضول“
عندما رأيته بعد ذلك قيل لي:”لم يحن الوقت بعد“
”كل شيء بأوانه“

تثبت ليلي أنفار من خلال بحثها أن لقاء شمس بمولانا بقونية لم يكن مجرد صدفة ولم يكن أول لقاء. فمن المرجح أن شمسا قابل مولانا في دمشق حيث كان يدرس، لكن هذا الأخير لم يكن بعد على استعداد لتلقي تعاليم شمس. لكن بعد اللقاء، تغير كل شيء. ترك مولانا حصص الوعظ وابتعد عن مريديه لكي يهب نفسه كليا لشمس مما أثار الأحقاد ضد هذا الأخير، فكان عليه أن يغادر قونية تاركا مولانا يقاسي تجربة الفراق المؤلمة.

كان هذا ما ذكره سلطان ولد في كتاباته، لكن مقالات شمس تذكر غير ذلك حيث يقول في أحد النصوص:
لست قادرا على أن أطلب منك السفر
لذلك سأتحمل هذا العبء من أجلك
فالفراق ينضج الروح
بعد الفراق نقول: لماذا لم أتبع أوامره ونواهيه؟
مقارنة مع ألم الفراق، كان ذلك سهلا
استطيع أن أسافر خمسين مرة من أجلك
عندما أرحل
فذلك من أجلك
وإلا ما الفرق عندي بين الأناضول أو الشام
مكة أو قسطنطينة
لا أبالي بذلك
لكن،
الفراق ينضج الروح ويكمله.

غرق مولانا في حزن شديد بعد غياب شمس وابتعد عن كل مظاهر الحياة على عكس ما تخيله المريدون، لكن شمسا”كان بمثابة الأستاذ الذي يعرف تماما ما ينقص روح تلميذه. كانت هناك مرحلة للانتظار وبعدها جاء اللقاء، ثم بعد ذلك مرحلة الفراق، وهي المرحلة الأساسية من أجل التدرج نحو العشق. حقيقة، فإن مولانا عرف تغيرات جذرية عند اكتشاف شمس. وعلى حسب الصورة التي يستعملها بطريقة مستمرة، فقد جرب “الاحتراق”، لكنه لم يكن في نظر شمس قد غاب واحترق كليا. ففي الفراغ الذي تركه غياب شمس، يمكن للرومي أن يدرك المكانة الحقيقية للمعشوق، والاحتراق الفعلي، الذي من دونه، لا يمكن للعشق أن يصل إلى مرحلة النضج ولا يستطيع الروح أن يدرك الكمال“ل.أ

وبعد الفراق والاشتياق جاء اللقاء، رجع شمس بصحبة سلطان ولد محققا طلب مولانا، ويمكننا تخيل السعادة التي أعقبت ألم الهجر، حيث يذكر سلطان ولد في كتاباته:
”جلس مولانا بالقرب من شمس، كانا مثل شمسين في سمت سماء واحدة. وبدأ شمس بالكلام: قد عاد أخيرا إلى الحياة. عبر كلامه، الكل كان يطير نحو العشق وينفصل عن ذاته……دام ذلك بعض الوقت: بصحبة ملوك العالمين، كان الناس أكوابا وكان الملكان كالشراب، كانوا كالليل وكانا هما صباحين مشرقين. كان الملكان كالربيع وكان الناس كسهل في مرحلة الخصوبة“.

لكن بعد برهة من الزمان، لم يعد مولانا يجالس أحدا سوى شمس، كما أنه زوجه ابنته بالتبني، فكان ذلك كفيلا بإثارة أحقاد المريدين حول شمس مدبرين له المكائد للتخلص منه واسترجاع شيخهم الواعظ. اختفى شمس إذن في أواخر سنة 1247 حسب ما جاء في بعض المراجع، لكن إذا فكرنا في العلاقة التي كانت تجمعه بمولانا حسب ما استخلصته ليلي أنفار، يصعب علينا تصديق بعض الروايات التي تقول بهروب شمس خوفا من أعدائه، لم يكن لشمس أن يتخلى عن مولانا من أجل سبب تافه كهذا. فقط، قد دون في مقالاته أنه ذاهب بدون رجعة. وغادر قونية تاركا مولانا في صراع مع الألم دونه في الديوان الكبير.

يمكننا أن نتوصل إلى أن شمسا غادر مولانا فقط لأنه لقنه كل ما يجب تلقينه، وأن الحضور الجسماني لم تعد له أية فائدة مقارنة بالعلاقة الروحية التي نسجت بينهما إلى الأبد. فالشعلة التي هيجها شمس ستظل مشتعلة إلى الأبد. لقد أشعل نارا لن تنطفئ وستلتهم العالم عبر شعر مولانا. وهناك بيت شعري حيث يتحدث شمس إلى مولانا فيقول:
”أنا الريح وأنت النار
أنا الذي أشعلتك“

كانت تلك العلاقة ما وراء الزمان والمكان والأجساد، وتحولت آلام الفراق وحرقة الاشتياق إلى التحام روحي قد يفسده تواجد الأجساد. يذكر سلطان ولد نصا مؤثرا حول وصول والده غلى هذه المرحلة:
”لم يرَ شمس الدين التبريزي في دمشق، بل رآه بداخله، وقد ظهر كأنه القمر. يقول: مهما تباعدت أجسادنا، دون جسد أو روح، لسنا سوى نور واحد. إن رأيته أو رأيتني أيها الباحث، فأنا هو وهو أنا…….لماذا نستمر في قول أنا وهو حيث أنا هو وهو أنا؟ أو كل شيء هو وأنا بداخله. ما آخذه وما أعطيه منه هو، إنه كالإنسان وأنا كالظل. بدون الإنسان كيف يتواجد الظل؟….إنه كالشمس وأنا كقطعة صغيرة، إنه كالمحيط وأنا كالقطرة.“

كان مولانا قمرا يعكس ضوء الشمس الخالدة، ف”في ليل العالم، لم يكن باستطاعة احد أن يتمنى الحصول على نور شمس لولا مرآة الرومي“وقد جاء ذلك في إحدى مقالات شمس:

”مولانا هو البدر الكامل
لا احد يستطيع الوصول إلى شمس روحي
لكن القمر سهل البلوغ
لن يستحمل الناظر شعاع الشمس ونورها
والقمر لا يستطيع الوصول إلى الشمس
يجب على الشمس أن يذهب إليه“

ويلاحظ في لأشعار مولانا أنه يأخد صورة القمر في كثير من الصور المجازية حيث يقول في إحدى رباعياته:
أنت الذي تذيبني، أنا، قمرك
لقد دعوتني هذا المساء
هل ستأتي بقربي؟
تقول لي:” كن متأكدا، أنا ملكك، سأجعلك حيان لأني أنا روحك“.

ستبقى علاقة مولانا بشمس لغزا لن يستطيع احد فكه، لقاء عنيفا لمحيطين فجر إنتاجا أدبيا منقطع النظير، يقول عنه مولانا في إحدى أغزاله:
أنت سمائي وأنا أرضك
إني مذهول: ماذا قررت لي أن ألد؟
ماذا تعرف الغرض عن البذرة التي زرعتها أنت؟
أنت من خصبها
أنت الوحيد الذي يعرف ما تحمل بداخلها.

كل تلك التعابير المجازية التي تتحدث عن شمس، سواء كان ماء أو شمسا….الخ، فهي تشرح للمتلقي أن مهمة شمس قد انتهت وكان لزاما عليه المغادرة .

تقول الباحثة إن الدراسات والبحوث الأخيرة لعلي موحد”Movahhed“تشير إلى أن شمسا قد توفي ودفن ب”خوي“”Khoy“، مدينة صغيرة بالقرب من تبريز، لكن لا أحد يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته”كان طائرا يتعذر الإمساك به، قادما من اللامكان متوجها نحو المجهول” ل.أ.

* ليلي أنفار Leili Anvar: دكتورة في الآداب، محاضرة وباحثة في الأدب الفارسي بمعهد اللغات والحضارات الشرقية INALCO

*عائشة موماد باحثة ومترجة مغربية.

Optimized by Optimole