فوكوياما ومأزق الدولة الحديثة

فوكوياما ومأزق الدولة الحديثة
Spread the love

خاص – مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط — بقلم: د. هيثم مزاحم* — في كتابه الأخير “النظام السياسي والانحطاط السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديموقراطية”(2014)، يشرح المفكر الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية “نهاية التاريخ”، تاريخ نشأة المؤسسات التي كانت نتيجة النزعة الإنسانية نحو إضفاء الطابع المؤسسي على السلوك البشري، وكيف تطور هذا الأمر في الإطار الاجتماعي من الجماعة الى مفهوم القبيلة. ويرى فوكوياما أن التحوّل الى النظام القبلي تطلب ظهور الفكر والمعتقد الدينيين، لكن التحوّل اللافت من الجماعة والقبيلة تمثل في ظهور الدولة. فالدولة على عكس الجماعة والقبيلة تمتلك احتكاراً شرعياً للقسر وتمارس هذا النفوذ على أرض محددة. ولأن الدول تتصف بالمركزية والهرمية فإنها تميل، أكثر من سابقاتها من أشكال التنظيم التي قامت على أساس صلة الدم، الى إنتاج درجة عالية من عدم المساواة الاجتماعية.
وهناك نوعان من الدولة: الدولة التي تديرها عائلة حيث يتم اعتبار الحكومة كملكية خاصة للأسرة الحاكمة. وهذا النوع من الأشكال الطبيعية الاجتماعية من الاعتماد على الأقارب والأصدقاء لا يزل يعمل في الدول التي تعتمد في حكمها على مبدأ صلة الدم. ومن ناحية أخرى، فإن الدولة الحديثة تمتاز بالتجرّد، إذ أن علاقة المواطن بالحاكم لا تقوم على أساس العلاقات الشخصية بل على صفة المواطنة. ولا تتم إدارة الدولة من قبل أفراد عائلة الحاكم أو أصدقائه بل يتم تعيين الأفراد في مناصب حكومية في الدولة على أساس من التجرد مثل الأهلية والدرجة العلمية والمعرفة التقنية.
وبالتالي، فإن تطوّر الدولة الحديثة احتاج الى استراتيجيات محددة لتحويل النظام السياسي من نظام قائم على حكم العائلة والأصدقاء الى نظام قائم على التجرّد. فعلى الدولة الحديثة أن تتجاوز نظام المحسوبية في عملية اختيار موظفيها ومسؤوليها. وكانت الصين سباقة في هذا الأمر حيث ابتدعت نظام اختبار الخدمة المدنية في القرن الثالث قبل الميلاد.
كان القانون في أوروبا الغربية أولى المؤسسات الثلاث الكبرى التي ظهرت فيها، إذ سبق وضع القانون نشأة الدولة الحديثة. أما المؤسسة الثالثة فكانت المساءلة الديمقراطية.
يعرض فوكوياما لتطور الدولة والقانون والديمقراطية خلال القرنين الأخيرين وكيف تفاعلت هذه المكوّنات مع بعضها البعض من جهة، ومع الأبعاد الأخرى من التطور الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى، وكيف أظهرت هذه المكوّنات إشارات تآكل في الولايات المتحدة وفي غيرها من الديمقراطيات المتطورة. ويعتبر فوكوياما أن التطور السياسي يعني تغييراً في المؤسسات السياسية عبر الزمن، وهو يختلف عن التحوّل في السياسات، فرؤساء الوزارات والرؤساء والمشرّعون ليسوا دائمين في مناصبهم، والقانون يمكن أن يتم تعديله، ولكن الأحكام التي بموجبها يتم تنظيم المجتمعات هي التي تحدد النظام السياسي.
يشرح فوكوياما كيف أن توقيت انتشار الديمقراطية في مختلف الدول مرتبط بمواقف ومطالب الطبقتين الوسطى والعاملة، والنخبة من ملاك الأراضي، وكذلك طبقة الفلاحين التي تغيّرت مطالبها ومواقفها مع مرور الوقت. فقد شهد عام 1848 اندلاعات الثورات في أنحاء أوروبا، إذ يقارن فوكوياما هذه الثورات بثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011. والتجربة الأوروبية تظهر كيف كان الطريق الى الديموقراطية الحقيقية صعباً، انتشار الديمقراطية يعتمد على شرعية فكرة الديمقراطية.
يعتقد فوكوياما أن تطور المؤسسات السياسية الثلاث أصبح حاجة في كل المجتمعات مع مرور الوقت. إذ لا يوجد بديل عن دولة حديثة متجرّدة كضمانة للنظام والأمن وكمصدر للمنفعة العامة. وسيادة القانون أمر مهم للنمو الاقتصادي إذ من دون حقوق ملكية واضحة وإنفاذ للعقود من الصعب إحراز أي نوع من الثقة في مجال الأعمال. فالديمقراطية الليبرالية التي تجمع بين تلك المؤسسات الثلاث لا يمكن القول بعالميتها الإنسانية، لأن هذه الأنظمة وجدت فقط خلال القرنين السابقين وتطورت من الأنظمة التي كانت سائدة منذ عشرات آلاف السنين. ويخلص فوكوياما إلى أن هناك أخفاقاً سياسياً على مستوى العالم، ليس فقط على مستوى الدول النامية، ولكن أيضاً على مستوى الدول الحديثة المستقلة القادرة والمتجردة والمنظمة بشكل جيد. فالعديد من مشاكل الدول النامية هي ناتجة عن ضعف الدولة وعدم فعاليتها. كما أن دولاً كاليونان وإيطاليا لم تتمكنا من تطوير إدارة بيروقراطية ذات جودة عالية حيث بقيت كلتاهما غارقتين بدرجة عالية في المحسوبية والفساد، وقد أسهمت هذه المشاكل بشكل مباشر في أزمة اليورو الحالية.
أمّا الولايات المتحدة الأميركية، فهي دولة حديثة تديرها مؤسسات كبرى ولا تلعب فيها البيروقراطية دوراً كبيراً. ولكن رغم النمو الضخم في المؤسسات الإدارية فقد لعبت المحاكم والأحزاب السياسية دوراً مؤثّراً في السياسات الأميركية وهي نفس الأدوار التي تؤديها البيروقراطيات المحترفة في الدول الأخرى. لذلك فإن الأسباب العديدة لعدم كفاءة الحكومة الأميركية ناتجة عن تأثير المحاكم والأحزاب السياسية على السياسات الأميركية.
ويذهب فوكوياما إلى أن جميع الديمقراطيات المتطورة تواجه تحديات على المدى الطويل ناجمة عن التزامات إنفاق غير محمولة تقدمت بها الحكومة في سنوات سابقة وسوف تزداد هذه الالتزامات كلما تقدم السكان في السن وكلما زاد معدل المواليد. وبالتالي فما يهم هنا هو ليس حجم الحكومة وإنما نوعية ما تقدمه. فهناك ارتباط قوي بين نوعية الحكومة والمدخول الاقتصادي والاجتماعي الجيد.
ويرى فوكوياما أن التطور السياسي ما هو إلا عنصر من عناصر النمو الأخرى، أي أنه يقع ضمن إطار أوسع لمفهوم التطور الذي يتألف من أبعاد اقتصادية واجتماعية وأيديولوجية، وبالتالي فإن التطور السياسي بأبعاده الثلاثة (الدولة، سيادة القانون، والديمقراطية) يعتبر وجهاً واحداً فقط من أوجه النمو الاجتماعي – الاقتصادي للإنسان. وبالتالي فإن التغيّرات في المؤسسات السياسية يجب أن تفهم في إطار النمو الاقتصادي والتعبئة الاجتماعية وقوة الفكر تجاه قضايا العدل والشرعية.

*كاتب وباحث لبناني، مدير مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط.

Optimized by Optimole