“طابقان في عدرا العمّالية”.. توثيق الفجيعة في رواية

Spread the love

بقلم: غنوة فضة* |

ربّما لو كان الموتُ فقط هو النهاية، الموتُ العاديّ الذي يعرفُه البشر، لكانَ الأمر عادياً، ولما تطلبَ كتابة روايةٍ، إلّا أن ما تجرّعهُ سكان مدينة عدرا العمالية، كان موتاً غير مألوفٍ، سمٌّ زعاف، سمُّ احتلّ العقول والنفوس والقلوب. كان سُمّاً غريباً، بصبغةٍ وهابية تكفيرية، جعلَ من النهاية حدثاً سيظلّ ينكأ جدران الذاكرة، لا تفي حقهُ عشرات الروايات والقصص.
المدينة التي ضمّت عمالاً وَموظفين ومهندسين، قدموا إليها من كل أنحاء سوريا مع عوائلهم، أغمضت عينيها قبل النهاية على رؤوسٍ تقطع، ونساءٍ تُسبى وتُغتصب كما في غزوات الجاهلية، وأطفالٍ، وضعوا في الأفران الملتهبة أحياء!
حكاية المدينة التي لم يعلم العالم الخارجيّ عن مأساتها، بل تعامى وتغافل وأخمد وميض عدساته عن أنين من احتجزوا وقتلوا فيها. تبدو واضحة جليةً في رواية الكاتب السوري صفوان ابراهيم، الصادرة عن الهيئة العامة السوريّة للكتّاب (2018) تحت عنوان “طابقان في عدرا العمّالية”.
حكاية عائلتين سوريتين، مختلفتين متباينتين إلا في المحبة والألفة، جمعتهما أطباق الطعام، وفناجين القهوة، وكِليَةٍ تقاسمها الوالدان في عمل جراحيّ خاطهُ القدر، فصار الدم واحداً.
حكاية طابقين في مدينةٍ، أشعلت الحرب فيها نار الموت، احتلها من يرتدون العمامات، ويتدثرون بجلابيب الأفغان غرباءٌ عن وجهها الطيب البسّام، قدموا غزاة فاتحين للموت والدم، فاشتعلت بين سطور الحكاية شعواء حرب العقل، والبقاء، والحياة، وحكاية أبٍ وجار وصديق، اسمه نزار الحسن محتجز في منزله المحاط من كل الجهات، بوحوش الأرض وقتلتها في لحظةٍ مجنونةٍ يضعهُ القدر فيها أمام أمرين أحلاهما مرّ؛ الاستسلام ومشاهدة زوجه وأطفاله يقطّعون ويحرقون، أو استخدام قنبلةٍ بدت بالنسبة إليه الحل الوحيد للنجاة.

شخصيات الرواية:
تجري أحداث الرواية في زمنٍ كانت فيه البلاد – سوريا – تنامُ آمنةً وادعةً، يغفو أصحاب البيوت بعيونٍ مغمضةٍ مطمئنةٍ، وأبوابٍ مشرعةٍ وأرواحٍ تتيقن بالسلام الذي يغلف الحياة من حولهم.
في ضاحية عدرا العمّالية، حيث يفدُ العامل والموظف والمهندس من كل المدن السورية، تلتقي عوائلٌ سورية أربعةٌ، مختلفة الانتما، متباينة العقيدة، تتوالد بدءاً من الطابق الأول الذي تقطنهُ أسرة الشهيد الذي يرحل في نهاية الرواية نزار الحسن، إلى الثاني حيث استقرت أسرةُ أبي الوليد بأبنائه؛ هديل ووليد الذي يعدّ من الشخصيات الرئيسة في الرواية، صعوداً نحو الطابق الثالث، حيث سكنت أسرة سارد القصة علي وأسرتهِ مع والده وأمهِ وأخيهِ حيان الصغير، انتهاءً بالأسرة المسيحية التي تتكون من الأستاذ سلام وزوجته الصيدلانية جنان وابنتهما الصغيرة ريم.
تتعايش العوائل الأربع وتتآلف فيما بينها بحياةٍ شيه واحدة، بوجبة طعامٍ مشتركة، وفنجان قهوة صباحيّ يُغلى على نارِ المحبة والجيرة العزيزة الممتدة لسنواتٍ تمرّ طويلاً، يكبر خلالها الأبناء، تتبادل عبرها عائلة أبي الوليد وأبي علي اللقمةَ والفرح والحزن وكليةٍ تتوقف حياة أحدهما على متبرعٍ مستعجل، فيقدّمها الجار لأخيهِ عن طيب خاطرٍ وحفاظاً على استمرار حياته.
تنمو بين هديل وحيان رابطة حبّ نقي طفولي المنشأ، إلى جانب صداقةٍ أسطورية بين علي ووليد الذي يتعلق بالطفلة ريم ابنة الأسرة المسيحية في الطابق الرابع.

أحداث الرواية:
تتوثق العلاقات بين الأسر، حتى يكاد القارئ يظنّ أنه يقرأ حكاية اسرةٍ واحدةٍ، إلى أن يمرّ الزمان، ويكبر الآباء، ويهاجر الأبناء بعد الانتساب للجامعات، فتتفرّق الأقدار، وتتعثر الرؤى والأحلام والمخططات البريئة، وتفقد الألفة مكانتها، فتتحول إلى علاقات هشّةٍ، سّيما من جهة وليد الذي يختار معانداً رغبة ذويه الرحيل إلى السعودية لدراسة الشريعة الإسلامية، في حين يرحل صديق عمرهِ علي إلى روسيا لدراسة الهندسة.
من معقل الوهابية التكفيرية، إلى روسيا الشيوعية العلمانية، تنشأ حرب الأيديولوجيات المتناحرة، والعقائد المتضاربة التي تصبح غير متجانسة، بعد أن يتحول ما كان ألفةً وتجانساً، شرخاً كبيراً يوسّعهُ انتماء وليد الفكري والعقائدي لإحدى المنظمات الوهابية المتشددة.
تجري بين وليد وعليّ محاوراتٌ عديدةٌ عبر الشبكة، يحاكي عبرها (العقل) العلمي المحايد الموثّق للحظاتٍ كانت هانئة وذكرياتٍ عابقة بالمودة بين الأسرتين من طرف علي في مقابل (التعصب) الزاخر بالتشدد والترقب والحقد المغلف بالعدائية المستعرة بنيران الكره على كلّ من يخالف العقيدة الوهابية من قبل وليد.
“أيستطيعُ أحدهم تحويل شابّ في أية لحظةٍ إلى مجرمٍ؟ هذا شيء لا يحدث حتى في عالم السحر!”
تشتعلُ الحرب في سوريا، ويبدأ ما سمّي بـ”الربيع العربي” بأكل الأخضر واليابس، تنتشر الحرب كالهشيم بين المدن والبلدات، في وقتٍ تغمر الفرحة قلب وليد القابع في المملكة السعودية، الحالم والمبشِّر بقيامة الخلافة الإسلامية من جديد، ووصف القادمين لتحقيق ذلك بمن سعيدون للإسلام ألقهُ ووهجه المؤَسَّس على أنهارٍ من الدم والقتل ونبذ الآخر، في حين يتابع عليّ أخبار الحرب في البلاد من روسيا مكلوماً بالتوحش الذي راح يفتك بالبلاد والعباد.
“كل شيء أصبح اعتيادياً، حتى الحزن، صار تفصيلاً أساسياً في حياتنا”.
تصلُ المجموعات الإرهابية إلى ضاحية عدرا العمالية، بمعرفة وليد المسبقةِ ومشاركتهِ التسلل إلى سوريا عبر الحدود والدخول إلى معقل طفولتهِ، بعد أن تهربَ العائلتانِ إلى قرية أبي علي على الساحل السوري، حيث تسكنان مجدداً بناءً مشتركاً، في وقتٍ تشتعل فيه نار الحسرة والغضب في قلب أبي الوليد خوفاً من تورط ابنه في المذبحة الكبيرة التي جرت حينها في الضاحية، سيما بعد بقاء الجار نزار الحسن في منزله وأسرته إلى جانب حيان الذي بقي لإرسال بعض الحاجيات من عدرا إلى الساحل.
تُحاصر المجموعات المسلحةُ بناية العوائل الأربعة، حيث يحتجز نزار الحسن في الطابق الأول، تضعه المجزرة أمام حلين أحلاهما مرّ، فيختار الموت مع عائلته مقابل ألا يراهم مغتصبين مساقين إلى التعذيبِ بأقدامهم. في حين يختطفُ حيان وتصل أخبار استشهاده إلى الأهل في الساحل وسط معلومات شبه ضبابية تشير للجميع بتلطخ يد وليد في المجزرة الحاصلة!

ختام الرواية:
وسط سخط الجميع على وليد المتهم بقتل جيرانه (حيان زوج أخته هديل والصيدلانية جنان أم ريم التي أحبها) ينمو شعور التحسر في قلب عائلته، في حين يعود علي إلى أهله في محاولة منه لتبرئة صديق طفولتهِ وليد وتفسير ما طبقَ عليهِ من غسيل دماغي وتعسف عقلي حوّله إلى متشدد متعصب، وعبر تصوير المحادثات السابقة يثبتُ علي للجميع محاولةَ وليد إنقاذ حيان وإبعاده عن أماكن تجمع المسلحين في عدرا إلى أن تكتشف الجماعات خيانة وليد فتقوم بذبحه بتهمة خيانة الإسلام.
“لقد انهارت كلّ قناعاتي برؤيا رأس السيدة جنان مفصولاً عن الجسد، لقد كشفت جثامينُ عائلة السيد نزار الغشاوة عن عيني، وأوضحت مقاومة حيان الطريق الصحيح لي”.
بعد تبرئة يد وليد من دم جيرانه، يشعر الجميع ببعض من الطمأنينة، وتعود العائلتان للعيش في طابقين جديدين في قرية أبي علي على الساحل، بعد أن تكون كل الحرب والضغائن والقتل والذبح، قد فشلت في إرساء التفرقة وتحريك ريح الطائفية في القلوب.
“الحب في بلدي أقوى من كل الوحوش، أقوى من سكاكين الذبح المروء عليها اسم الله زوراً و بهتاناً”.
رواية تحكي الألم السوري، تستحقّ أن تكون قرآن الحرب وإنجيلها، فيها من حب السوريّ للسوري الكثير، الحب الذي شرخت الحرب أوصالهُ، وعاث الغريب فيه الفساد والخراب.

عن الكاتب:
صفوان إبراهيم (1978) كاتب سوري، التحق بالكلية الجوية عام 1996، تخرج منها ضابطاً طياراً عام 1999، كان لاستشهاد أخيه الصغير حيان في الرقة أثر عميق في توجهه إلى الكتابة، والتعبير عن تجربته القاسية ومعاناته من الحرب الظالمة على وطنه.
له رواية “طابقان في عدرا العمالية”، ورواية “وصايا من مشفى المجانين”.

*غنوة فضة روائية سورية.

Optimized by Optimole