تطور المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه

تطور المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه
Spread the love

قراءة: عبير بسام* — تطور المرجعية الشيعية من الغيبة الى ولاية الفقيه، كتاب للدكتور هيثم مزاحم قدم من خلاله تاريخ نشوء المذهب الشيعي الإثنى عشري كما يروي هذا التاريخ أصحاب هذا المذهب أنفسهم، وكذلك يبين فيه تطور المرجعية الشيعية منذ أيام الإمام علي بن أبي طالب(ع) وصولاً الى إنشاء دولة ولاية الفقيه في إيران. عرض الكاتب هذا التاريخ وتطوره في واحد وعشرين فصلاً، هذا إضافة الى المقدمة والخاتمة.

يقدم للكتاب كل من البروفسور رضوان السيد المفكر اللبناني، والبروفسور عبد العزيز أ. ساشدينا الباحث في الشؤون الإسلامية والشيعية. حيث يعتبر السيد أن الكتاب يقدم قراءة فقهية وتاريخية وسياسية لنظام ولاية الفقيه، وذلك باعتباره نظام دولة وعقيدة عمل سياسي. وأما ساشدينا فيجد أن الكتاب هو مهم للناس العاديين الذين يحاولون فهم الأهمية المنوطة بمنصب المرجعية في القرن الحادي والعشرين.

والكتاب في حقيقة الأمر يروي تاريخ ظهور المذهب الشيعي وتطوره حتى وصل الى المستوى الذي هو عليه في الوقت الحالي. كما عمل الكتاب على تحديد بداية ظهور المرجعية وتطور نفوذها بين أتباع المذهب كمرجعية وإمامة وتقليد، بما في ذلك ولاية الفقيه والتي تعبّر عن فكر ديني سياسي.

وقد جرت محاولات للدمج بين ولاية الفقيه والمرجعية أي دمج للقيادة السياسية والقيادة الدينية في شخص واحد، وهذا ما عارضته ورفضته مرجعيات أخرى والتي لديها رؤية مختلفة لدور المجتهد والمرجع الديني، وتحصر صلاحيات الفقيه في ولاية محدودة النظاق لا تشمل القيادة السياسية.

يوضح مزاحم في المقدمة أن فكرة مرجعية العلماء عند الشيعة جاءت من أجل ملئ الفراغ الذي تركه غياب الإمام الثاني عشر المهدي في محاولة منهم لسد الفراغ العلمي لجهة الإجابة على المسائل الفقهية والدينية المستجدة، أو من أجل قيادة الجماعة وترشيد سلوكهم السياسي والإجتماعي تجاه السلطة سواء كانوا معارضة أم موالاة.

وتركز اهتمام الباحث بشكل خاص على تطور مفهوم ولاية الفقيه التي تبلورت على يد الشيخ محمد النراقي، الذي رأى أن للفقيه ما للإمام المعصوم من ولاية شرعية وصلاحيات دينية وسياسية في مجال الحكم والإدارة والقضاء وهو تحول مهم في المذهب إذ منح الفقيه دور القيادة السياسية، بعدما كان دوره مقتصراً على المرجعية الفقهية والدينية. هذا مع العلم أن ولاية الفقيه تعتبر خروجاً عن السلوك التقليدي الذي عرفه الشيعة الاثنا عشرية، ألا وهو مبدأ التقية.

تتبع دراسة مزاحم المنهج التحليلي التاريخي، وهي بذلك تتجه نحو دراسة النصوص الشيعية في الإمام وولاية الفقيه وتحليل تطورها التاريخي. كما تقوم الدراسة على تحليل النصوص ونقدها وهذا ما يعرف بمنهجية التحليل والتركيب الكلاسيكية. يبدأ الكاتب الدراسة بالدخول الى نشأة التشيّع والشيعة. فمن المؤكد أن وفاة النبي(ص) كانت قد شطرت المسلمين الى قسمين، قسم يوالي الإمام علي وقسم لا يواليه بل وقف حائلاً دون توليه الخلافة – الإمامة. وفي تأكيد هذه الحقائق يورد مزاحم العديد من الأمثلة والحقائق التاريخية التي تؤكد أن التشيع قد ابتدأ بعد وفاة النبي محمد (ص). ويرى بعض الباحثين أن نشوء المذهب الشيعي جاء بعد بعد استشهاد الإمام الحسين(ع)، إذ كانت لهذه الحادثة الأثر في تحول الشيعة من مجرد أنصار لآل البيت كاتجاه سياسي وميل عاطفي الى عقيدة دينية راسخة. وهناك العديد من الباحثين الذين يعتبرون أن حركة التشيع ابتدأت بمقتل الحسين. غير أن هناك آخرين يعتبرون أن مذهب التشيع قد ابتدأ مع الإمام جعفر الصادق(ع).

النظرية المهدوية وغيبة المهدي، وهي ليست منفصلة عن مسار تطور المرجعية عند الشيعة الإثني عشرية. اذ يتطرق الكتاب الى التعريف بالإمام الغائب والغيبة الصغرى والتي تلتها الغيبة الكبرى. ويروى أن والدة الإمام المهدي، كانت ابنة ملك رومي تنتهي في نسبها الى أحد حواري المسيح، ألا وهو شمعون، وظهرت السيدة فاطمة الزهراء لها في الحلم وقامت بخطبتها لحفيدها الإمام حسن العسكري والد المهدي.

غير أن نشأة أصول الفقه وتطور الإجتهاد قد مر بمراحل. يدخل الدكتور مزاحم ليشرح معنى الإجتهاد في اللغة العربية، وليبيّن الإختلاف ما بين القياس والإجتهاد، واللذين هما بحسب الإمام الشافعي تعبيران ذو معنى واحد. وأكثر من ذلك، فإن مصطلح الإجتهاد اصطلاح استخدم في أيام الرسول، حيث طلب من معاذ بن جبل أن يتوجه الى اليمن بعد غزوة تبوك ليكون عاملاً له هناك وطلب منه أن يجتهد إذا لم يجد نصاً من القرآن أو السنة يبني عليه الأحكام. واستمر الأمر على المنوال نفسه ما بين الخلفاء الراشدين، بحسب رؤية أهل السنة.

ويبين الكتاب أن أصول الفقه الشيعي قد وضعت في زمن كل من الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق وأن تلامذتهم من بعدهم سجلوا أحاديثهم. وقد روي عنهما أكثر من ثلاثين ألف حديث في مختلف المواضع. ثم يبدأ مزاحم بشرح كيف أن علم الأصول في مرحلة تالية ولد من حضن علم الفقه، ونشأة هذين العلمين كانت النواة التي نشأت منها بذور التفكير العلمي الفقهي. وتتالى دور الشيوخ والمدارس في تطوير علم الإجتهاد: من الشيخ الطوسي الى الشهيد الأول علي مكي العاملي الى المحقق الكركي الذي في تزامن عهده مع ظهور السلطان الشيعي الصفوي الأول “الشاه اسماعيل الصفوي”.

ويبدو أن الإجتهادات الفقهية للعلامة الحلي والمحقق الكركي والشهيدين الأول والثاني قد عبدت طريق الفقه السياسي الإثنى عشري الذي نعرفه في الوقت الراهن.

وظهرت فرقتان مختلفتان من الشيعة لكل منهما آراؤها، وهما الأخباريون والأصوليون. والأخباريون من الخبر (عرفاً ولغةً)، وعرفوا بأنهم الذين ينقلون الحديث فقط. وكان اعتراض الفقهاء على الأخباريون أنهم لا يحققون في صحة الخبر. وبعد التعريف بالأخباريين ينتقل الكاتب إلى التعريف بأسباب الخلاف ما بين الأصوليين والأخباريين الذيم يعتمدون على أن أصحاب الأئمة وفقهاء مدرستهم لا يعتمدون علم الأصول، وأن علم الأصول يؤدي الى نبذ الأدلة الشرعية أو السمعية وأن هذا العلم لم يظهر إلا بعد غيبة الإمام الثاني عشر، وأن الأصوليين قلّدوا في علمهم علماء السنه، كما يعتبرون أن الأصوليين أصحاب مسيرة فكرية أكثر منها فقهية.

في البداية أجحم الشيعة الأوائل وخاصة الوكلاء الأربعة للإمام المهدي عن القيام بأي نشاط سياسي، ولم يفكروا بأي حركة ثورية. في حين كانت الشيعة الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولاً. وحتى أنه كانت هناك دعوات لاعتماد التقية بين الإثني عشرية حتى ظهور المهدي. كما رفض العديد من العلماء ولاية الفقيه ومنهم الحلي والطوسي، معتبرين أن ولاية الفقيه مرتبطة بالعصمة والعلم اليقيني المقتصرين في شخص الإمام. واعتبرت الدولة الصفوية التي أعطاها المحقق الكركي إجازة شرعية انقلاباً على أهم أسس النظرية الإمامية وهي اشتراط العصمة.

تطورت ولاية الفقيه كما علم الأصول تدريجياً، اذ بعد غيبة الإمام المهدي الكبرى تم فتح باب الإجتهاد للعلماء الشيعة. حتى أن العلماء الشيعة كانوا يحرّمون ممارسة القضاء ويجرّمون من يقومون بهذه المهمة نيابة عن الأئمة المعصومين. غير أن ذلك لم يدم. بل ابتدأت التحليلات والفرضيات والإستعانة بالأحاديث التي تجيز للعلماء ممارسة القضاء، ومنهم السيد مرتضى والشيخ الطوسي. ثم ابتدأ العلماء بتشريع إقامة الحدود وصولاً الى إجازة كل من إخراج الخمس والزكاة وصلاة الجمعة والجهاد والثورة ومن ثم إقامة الدولة. وأول من اعتمد هذه التشريعات كان الشيخ المفيد الذي تحدث عن تفويض الأئمة للفقهاء من أجل إقامة الحدود في عصر الغيبة، ومن ثم جاء المحقق المحلي والعلامة الحلي وصولاً الى الشهيد الأول وهذه التشريعات هي التي أوصلت الى تشريع الدولة الصفوية كدولة شيعية في زمن الشيخ الكركي.

يبدو أن نشوء المرجعية ونشوء نظرية المجتهد الأعظم ظهر على أيدي الأصوليين بزعامة الشيخ وحيد البهبهائي في كربلاء في القرن الثامن عشر. ويرى الكاتب أن ذلك كان إيذاناً ببدء التغيير لمصلحة الأصوليين، وخسارة للأخباريين. والعالم البهبهائي هو أول من تحدث بتقليد المجتهد وتقليد الفقيه الملم بقضايا الدين والفقه، أي أنه تم وباختصار فتح باب الإجتهاد لدى الإثني عشرية.

ولكن ظهر تضارب في الآراء بشأن بداية القول بوجوب تقليد الأعلم. وبحسب السيد مرتضى الجزائري فإن تقليد الأعلم هو حديث العهد وقد ابتدأ منذ ثلاثة أو أربعة قرون ولكنه لم يكن موجوداً مباشرة بعد غياب الإمام الثاني عشر. غير أنه وفي العصر الحديث لعبت المرجعية الدينية دوراً أساسياً ومنها على سبيل المثال فتوى مقاتلة الإنكليز في العراق وعدم التعامل معهم في العام 1919، أو فتوى آية الله حسن الشيرازي من سامراء بتحريم التنباك في إيران في العام 1891 بعد اتفاقية الاحتكار التي وقعها الشاه ناصر الدين مع بريطانيا، مما اضطره الى الغائها. وهكذا يطرح مزاحم عدداً من الأمثلة على دور الفقهاء في التاريخ الحديث والتي كان آخرها وقوف المرجعية في العراق وبخاصة السيد محمد باقر الصدر في وجه النظام السياسي المستبد في العراق المتمثل بالطاغية صدام حسين أنذاك.

وتتالت الطروحات التي اعتمدتها المرجعيات كل على حدة، فقد حدد الشهيد محمد باقر الصدر أهداف “المرجعية الرشيدة” ومن ثم وضع تصوراً لجهاز تعمل من خلاله المرجعية والذي يتضمن مجموعة من اللجان. كما أنه ربط عمل المرجع بمجلس يتألف من علماء الشيعة والقوى الممثلة له دينياً. واعتبر أن هذا اسلوباً موضوعياً من الممارسة يصون عمل المرجع ويحميه من تأثير الإنفعالات الشخصية ويعطيه بعداً وامتداداً واقعياً كبيراً. ورى الصدر في نظريته أن الولاية هي للأمة، ولكن في ظل حكم الطاغوت على الفقيه المرجع التصدي للولاية وقيادة الأمة والإشراف على سيرتها في خلافة الله.

في حين طرح العلامة االسيد محمد حسين فضل الله نظرية “المرجعية- المؤسسة”. وسعى نحو أن تصبح المرجعية عملاً مؤسساتياً. وكان في أطروحته متأثراً بنظرية الصدر في “خلافة الأمة واشراف الفقهاء” وكذلك في أطروحة الصدر، “المرجعية الصالحة”. أي أن ما أراده فضل الله أن تصبح المرجعية مستمرة حتى بعد وفاة المرجع وأن تصبح عملاً يختزن أعمال المرجعيات السابقة واللاحقة. ويشرح مزاحم “المرجعية- المؤسسة” بشكل واضح وبسيط ويوضح أن فضل الله لا يرى ضرورة تحقيق شرط الأعلمية في الولاية، فهو لا يقول بالولاية العامة للفقيه. وبحسب فضل الله ينبغي على الفقيه حن البت بأمور لها علاقة بالسياسة والإقتصاد وغيرها من المجالات الدنيوية الرجوع الى أهل الإختصاص. كما أنه يعتقد بوجوب تعدد المرجعيات والفقهاء وليس هناك من مانع أن يكون لكل قطر أو دولة مرجعيتها الخاصة، لأن ولاية الفقيه على العالم كله في الوقت الحاضر تمتاز بعدم الواقعية.

وقد مرّت النظريات الفقهية السياسية الشيعية بمراحل أربع بعد غيبة الإمام الثاني عشر. المرحلة الأولى كانت تتعلق بالإهتمام بالأحكام الشرعية والمتعلقة بالعبادات والمعاملات. والثانية ابتدأت مع وصول الصفويين الى السلطة في ايران في العام 1501م، والتي انتهت مع بداية الحركة الدستورية. والمرحلة الثالثة جاءت نتيجة لتطور الفكر السياسي الشيعي، ومعظم رواد هذه المرحلة نادوا بفصل الدين عن الدولة ولكن أعلنوا بوجوب الأخذ بوجهة نظر رجال الدين حين سن القوانين.

وأما المرحلة الرابعة فهي مرحلة قيام الجمهورية الإسلامية حيث ابتدأت مع تبلور ولاية الفقيه العامة والمطلقة مع الإمام الخميني. و من عارض هذه الولاية في عهد غيبة الإمام المهدي ومنهم الإمام الخوئي.

ثم تتوالى فصول الكتاب التي تشرح هذه المراحل بالتفصيل وكيف تطورت المرجعية الفقهية لتصل الى ما هي عليه اليوم. كما يعرض الكتاب أبرز النظريات السياسية لدى الإثنى عشرية. فهناك من تحدث بولاية الفقيه المقيدة مثل الشيخ مرتضى المطهري، أو ولاية الأمة على نفسها والتي طرحها الإمام مهدي شمس الدين، أو نظرية شورى الفقهاء التي طرحها السيد محمد الشيرازي، وغيرهم.

يبرز الكتاب تفاصيل مهمة ويجيب على تساؤلات مطروحة في زمننا هذا حيث أظهر الباحث أن الشيعة الإثني عشرية قد تطورت عبر مراحل التاريخ، وكذلك تطور الفقه السياسي الشيعي وتجلّى ذلك في النظريات السياسية المختلفة وخاصة مع ولاية الفقيه التي تمكن الإمام الخميني من نقلها إلى حيز الوجود بتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران.

*باحثة لبنانية.

الكتاب: تطور المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه

المؤلف: د. هيثم مزاحم

الناشر: طبعة أولى – دار المحجة البيضاء – بيروت – 2017.

المصدر: مجلة الاجتهاد والتجديد

Optimized by Optimole