تشومسكي.. الأفكار والمثل

Spread the love

حسن صعب _ باحث لبناني/

عمدت الولايات المتحدة إلى إلقاء قنابل على ما لا يقل عن 28 بلداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن أنها ساعدت بتدبير وتنظيم بضعة انقلابات في جملة من الدول.

لا يزال نعوم تشومسكي واحداً من أبرز المفكّرين المؤثّرين في العصر الحديث. فقد أمكن لأعماله الواسعة النطاق في ميادين اللسانيات، وعلم النفس، والفلسفة، فضلاً عن السياسة، أن تُحدِث ثورة في طريقة رؤيتنا للغة والعقل، عدا عن الطبيعة البشرية.

وعلى فرض عدم وجود معرفة مسبقة، باللسانيات، يستكشف كتاب “تشومسكي الأفكار والمثل” للكاتبين نيل سميث ونيكولاس آلوت الذي نقلته إلى العربية أخيراً دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، بترجمة الهادر المعموري، نظريات تشومسكي الرئيسة، ولاسيّما التطورات الأخيرة في برنامجه التبسيطي، حيث يتصدّى لقضايا مثل: كيف نعرّف اللغة؟ وكيف نشأت وتطورت اللغة؟ وكيف يكتسب الأطفال المعرفة؟

في هذه الطبعة المحدّثة (الثالثة)، استكشاف لإسهامات تشومسكي في الفلسفة وعلم النفس، فضلاً عن إيجاز وجهات نظره التي عادة ما تكون راديكالية ومثيرة للجدل. وفي الكتاب أيضاً شرح لنشاط تشومسكي السياسي ونقده لـ«الربيع العربي»، و«ويكيليكس»، وحركة «احتلّوا»؛ كذلك أُضيف قسم جديد في الكتاب، بطبعته الثالثة، حول التغيّر المناخي ونزع السلاح النووي.

بعد هذا (التمهيد) الذي أعدّه مؤلفا الكتاب، يتحدث نيل سميث ونيكولاس آلوت في (المقدّمة) عن أهمية تشومسكي «طفل التنوير»، الذي أظهر أن التعقيد الهائل للغات التي لا حصر لها، والتي نسمعها في كل مكان، هو عبارة عن تنويعات لموضوع واحد يتمثل في «النحو الكلّي»؛ والذي يوصّفه تشومسكي بطريقة أكثر قوة بقوله: «إن عالم فلك من المرّيخ قد يخلص إلى أن هنالك لغة واحدة فقط للبشر على الأرض».

لقد أحدث تشومسكي ثورة في علم اللسانيات؛ وعبر قيامه بذلك، أطلق قطّة وسط قفص حمائم الفلاسفة. كما عمد تشومسكي إلى إعادة إحياء وبعث الأفكار الفطرية، حيث برهن عن أن قدراً كبيراً وأساسياً من معرفتنا محدّد جينياً؛ فضلاً عن أنه أعاد تثبيت الأفكار العقلانية التي تعود إلى قرون خلت بطريقة جديدة، وإن تكن تعرضت لحملة تشويه شرسة. كما قدّم تشومسكي أدلّة تشير إلى أن قدرتنا على الكلام والفهم ترتكز على «معرفة لا واعية».

هذه القراءة الموجزة للكتاب ستعرض بشكل إجمالي لفحوى كل فصل منه، مع التوقف عند الأفكار أو المواقف السياسية لتشومسكي، وخصوصاً حيال قضايا تهم القارئ العربي تحديداً، مثل السياسة الأميركية في المنطقة والعالم، لأن طروحاته في مسائل اللغة وعلم النفس والفلسفة قد لا تعني سوى القارئ المتخصص فحسب.

مرآة العقل

يبدأ الفصل الأول (مرآة العقل) بوضع اللغة ودراسة اللغة داخل سياق أوسع، كجزء من بحث عملي معمّق في طبيعة النفس البشرية. ويشتمل هذا الكلام على مناقشة بُنية العقل، مع أدلة مستقاة من دراسات عن منجزات تشومسكي بخصوص الحالات الطبيعية والمَرَضية للانفصام ما بين المَلَكات البشرية، ومع اللغة كـ«مرآة للعقل». وبالرغم من أن حيازة لغة ما لا تمثّل شرطاً مسبقاً لحيازة عقل، فإن اللغة تمثّل دليلنا الأقوى بلا منازع على طبيعة العقل؛ فهي تمثّل ذلك التعريف الواضح لماهيّة أن يكون عليه الإنسان، والطريق لدراسة عقل هذا الإنسان.

وعبر التمييز ما بين الكفاءة والأداء، والبرهنة عن أن معرفتنا اللغوية قابلة للدراسة من خلال طرق البحث العلمي الاعتيادية كجزء من العالم الطبيعي من حولنا، وليس كما لو أنها فرع من الرياضيات أو علم الاجتماع، أمكن لتشومسكي أن يضع علم اللسانيات ضمن تيار العلم السائد.

وفي الوقت ذاته، أمكن لتشومسكي أن يسلّط الضوء على جوانب العقل البشري الأخرى، مقترحاً تحليلات ومقدّماً أدلّة على رؤية «منمذجة» لقدراتنا. وقد استلزم ذلك إسقاط وجهات النظر السابقة عن اللغة والعقل، وإشراك أفكار جديدة وخلاّقة في عملية رسم الفرق الواضح ما بين المعرفة واستخدام تلك المعرفة.

يتبع هذا الفصل الافتتاحي استعراض تاريخي جزئي ومفصّل لتنظير تشومسكي اللغوي (الأساس اللغوي)؛ ذلك التنظير الذي يمثّل حجر الأساس الذي يرتكز عليه باقي الكتاب. ويهدف هذا القسم لإعطاء القارئ بعض الفهم عن النظرية الحالية، عبر إظهار الكيفية التي وصلنا بها إلى ما وصلنا إليه. وقدّم المؤلفان هنا تفسيراً للأفكار التي تُعدّ بعضاً من أكثر ما يشتهر به تشومسكي، ممثّلاً في (التركيب السطحي والتركيب العميق للجمل، على سبيل المثال)، وما هو السبب في كون هذه النظرية لم تعد جزءاً من إطاره التبسيطي الحالي؛ إلاّ أن الأكثر أهمية في ذلك ما يتمثل في إعطاء نكهة لتلك الجدلية التي استخدمها تشومسكي ضمن أعماله عبر الخمسين عاماً الأخيرة.

إن الخلاصة المذهلة المتحصّلة من مغامرة تشومسكي الفكرية والبحثية في ميدان تطوّر مَلَكة اللغة تتلخص في أن المبادئ اللسانية على وجه الخصوص قد يكون لها دور أصغر لتؤدّيه، سواء في ميدان اللسانيات أم «الخصائص المحدّدة للذكاء البشري»، حيث نتوقع من علم اللسانيات أن يُسلّط الضوء عليه. وعوضاً عن ذلك، قد يتحدد العديد من خصائص مَلَكة اللغة البشرية والفكر الإنساني من خلال خصائص أنظمة الإدارك الأكثر عمومية، إلى جانب القوانين الطبيعية بصورة أعم.

اللغة وعلم النفس

الفصل الثالث من الكتاب (اللغة وعلم النفس)، ينظر في السؤال المحيّر بخصوص مغزى ما تعنيه الحقيقة النفسية، ويقدّم أدلّة عليها من خلال معالجة اللغة عبر اكتساب الطفل للغته الأولى، فضلاً عن انهيار اللغة لأسباب مَرَضية.

وفي قلب هذا الفصل، وضع المؤلّفان مناقشة لحلّ تشومسكي المحتمل لـ«معضلة أفلاطون»، ممثّلاً في الكيفية التي يستطيع بها الأطفال اكتساب لغتهم الأولى على أسس من أدلّة ومرتكزات محدودة جداً.

لا شك أن اكتشاف كيف أصبحت عقولنا بالشكل الذي هي عليه الآن يمثّل أمراً في غاية الصعوبة؛ صعوبة قد يكون أقل ما فيها أن هذه العقول غير قابلة للتحجر. وعلى النقيض من ذلك، فإن هنالك الكثير من الأدلّة بخصوص كيفية عمل عقولنا وأدمغتنا الآن، كما يبرهن المؤلفان، رغم أن تفسير ذلك لا يزال بعيداً كل البعد عن البساطة.

إننا نتوفر على نحوٍ في عقولنا، فضلاً عن أننا نولد مع قدرة لغوية فطرية. وإن هذه الافتراضات البسيطة التي دافع عنها تشومسكي وأتباعه خلال 60 عاماً من العمل الدؤوب إنما تجعل من الممكن تقديم تفسيرات تستند إلى المبادئ ليس لمجرّد الأنماط اللغوية الصرفة فحسب، بل لأجل النتائج في مواطن بحث نفسية رئيسة مهمة تتمثل في: معالجة اللغة، اكتساب اللغة، فضلاً عن الأمراض المرتبطة باللغة.

الواقعية الفلسفية

في الفصل الرابع (الواقعية الفلسفية: الالتزامات والاختلافات)، يعرّج المؤلّفان على الأوجه الفلسفية لأفكار تشومسكي، حيث يرسمان الخطوط العريضة لالتزاماته الفكرية بالعقلانية، مع التمييز على أساس السمات العقلية، والطبيعانية، فضلاً عن تفسير أوجه الجدل والاختلاف التي أطلقت شرارة حوار طويل ضمن مجتمع الفلسفة.

ويستنتج المؤلفان في هذا الفصل أنه كان لأعمال تشومسكي اللسانية ومرتكزاتها الفلسفية تأثير عظيم على الفلسفة. إن هجومه على «القائمة الفارغة» ضمن وجهة النظر التجريبية عن العقل، بما في ذلك «نظريات الكائن البشري الخالية» كما في السلوكية، فضلاً عن إعادة تأهيله وترميمه لصورة العقلانية، يُعدّ تحوّلاً مهماً؛ إضافة إلى مواقفه من العلاقة ما بين الفطرية والتحفيز والتعلّم.

من جانب آخر، كان لاستبطان تشومسكي الجذري بخصوص اللغة والمعنى أن واجه مقاومة شديدة ما بين الفلاسفة. إن وجهة نظره عن «أوليّة» اللغة الداخلية، ومفاهيمه عن اللغة كشيء اجتماعي مشترك، إنما تمثّل «شيئاً غير معروف بالنسبة للتحقق التجريبي، وتثير مشاكل ومعضلات تبدو غير قابلة للحل»، تبدو كلّها وجهات نظر تستوجب أخذها بجديّة، وذلك بالنظر إلى نجاح منهج النحو التوليدي والميادين المرتبطة به، في مقابل قلّة النجاحات التي تحققت في الميادين الأخرى ذات الصلة.

كما أن مزاعم تشومسكي بأن اللغة الطبيعية لا تتوفر على دلالات بالمفهوم الفلسفي كانت أكثر إثارة للجدل، غير أنها لقيت بعض الدعم من أعمال أُجريت على التداوليات التي تُظهر أن ما يؤكده المتكلّم يتجاوز كثيراً المعاني اللسانية للكلمات الملفوظة.

أما الفصل الخامس والأخير (اللغة والحريّة)، فخصّصه المؤلّفان لأفكار تشومسكي السياسية وكيف يمكن أن تتناسب فكرياً مع أعماله الأكاديمية.

وبالرغم من إنكاره لوجود أي صلة وثيقة بينها، إلاّ أن هناك ما يُقال عن ترابط بين أفكاره الجوهرية عن العقلانية والإبداع والنمذجة التي تجتمع برغم تباينها في بوتقة لتنتهي ضمن مخرج واحد.

القوة والسياسة

فتحت عنوان (القوة والسياسة)، يناقش المؤلفان أفكار تشومسكي حول «اللاسلطوية»، التي قد تبدو حركة سياسية هامشية الأهمية على المسرح السياسي العالمي، حيث لم يتحقق قط وجود مجتمع لاسلطوي متين على نطاق واسع على الطريقة التي كانت بها الشيوعية والفاشية، فضلاً عن الدول الرأسمالية. لكن مُثُل اللاسلطوية عن التنظيم الذاتي وديمقراطية المشاركة كانت في صميم معظم الحركات التقدمية خلال السنين الأخيرة، ابتداء من المنتدى الاجتماعي العالمي إلى «حركة احتلّوا»، ومن «الربيع العربي» إلى الحملات الشعبية ضد الخصخصة وإعادة توزيع الأراضي.

كما أن الدعوات الأساسية التي تُطلقها اللاسلطوية تمثّل بدورها تحدياً ثابتاً في وجه آخرين ممّن يعتبرون أنفسهم تقدميين. و«اللاسلطوية» تتحدّى الليبراليين أن يفسّروا كيف يمكن أن تكون هنالك حريّة حقيقية من دون مساواة مادية؛ فضلاً عن أنها تتحدّى الشيوعيين الشموليين أن يُظهروا وجود مساواة حقيقية من دون حرية.

إن التأثير الشرّير للدول، ذلك التأثير الذي يتناسب مع قدرات هذه الدول الاقتصادية، ولا سيما قوّة «قواتها المسلّحة»، إنما يبدو واضحاً ومحسوساً لغاية الآن، حتى من ِقبل الناس الذين يعزلون أنفسهم عن شراسة هجوم تشومسكي. لقد أيقظت الاحتجاجات الشعبوية ضد فظائع حرب فيتنام، أيقظت الكثيرين ممن كانوا غير مبالين بالسياسة، وأقنعتهم بضرورة انخراطهم الفعّال في هذا الكفاح. وفي الوقت الذي انتهت فيه حرب فيتنام منذ وقت طويل، ومضت سنوات عديدة على الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، ها هم كبار المسؤولين الأميركيين وقادة البنتاغون يتحدثون عن حرب الثلاثين سنة التي ستمتد إلى ما بعد تنظيم «داعش»، بُغية احتواء التهديدات الماثلة في نيجيريا والصومال واليمن ولييبيا وأماكن أخرى في العالم، فضلاً عن صراع جوهري طويل الأمد لا بدّ أن يتضمن «حرب المعلومات» بين طيّاته، إلى جانب «الحرب الجويّة».

ويستطرد تشومسكي: قد يكون هذا الوجه الجديد للاستخدام الأميركي للقوّة، إلا أنه لن يكون انحرافاً معزولاً فحسب. لقد عمدت الولايات المتحدة (بمساعدة جمع متنوّع من الحلفاء، لا سيّما المملكة المتحدة) إلى إلقاء قنابل على ما لا يقل عن 28 بلداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن أنها ساعدت بتدبير وتنظيم بضعة انقلابات في جملة من الدول، بما فيها زائير وإيران وغواتيمالا وتشيلي واليونان وفنزويلا ومصر، إضافة إلى غزوها العراق وغرينادا، ومساعدتها بقوة على غزو إيران وتيمور الشرقية ولبنان، عدا عن محاولة الغزو ضد كوبا، وضم المغرب للصحراء الغربية. ولا بدّ من أن تشتمل القائمة على دعم الدكتاتوريات الوحشية في دول مثل الفليبين وكوريا الجنوبية وأندونيسيا والسعودية وتشيلي ومصر والبحرين وهندوراس وغواتيمالا؛ فضلاً عن دعم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حتى قبيل نهايته الوشيكة، إلى جانب الدعم الدبلوماسي والمالي للعدوان الإسرائيلي ضد لبنان وغزّة، والتدخل في الانتخابات الديمقراطية في العديد من الدول ذات السيادة.

كما تُنفق الولايات المتحدة وحدها ما يعادل نصف إنفاق العالم العسكري، أي بقدر جميع الدول مجتمعة، ناهيك عن إدامتها لوجود عدد كبير من القواعد العسكرية التي تنتشر عبر 25 بلداً من بلدان العالم الآن. وبالمجمل، تنشر الولايات المتحدة أكثر من 150 ألفاً من الأفراد العسكريين خارج أراضيها، سواء في قواعد أميركية في الخارج أو إعارة لجيوش دول أخرى، وغيرها.

وتعطي كل هذه القواعد نفوذاً للولايات المتحدة إلى جانب قدرة لا تدانيها قدرة على الانخراط في تدخلات عسكرية، وهو ما تختبره عادة.

كذلك، على المستوى الداخلي، لا بدّ من خوض المعركة ضد إساءات الدولة بشكل مستمر، فيما يبدو أن تشومسكي لا يكلّ في مساعيه لكشف أحدث صور النفاق الموجودة. في هذا السياق، يبدو من المقلق أن يقول البعض إن الحكومة لا تمثّل خطراً على حرية الفرد. ولطالما أشار تشومسكي إلى أنه بالنسبة للمواطنين في الدول الديمقراطية، فإن كبح حرّيتنا جرّاء الاستغلال الاقتصادي والعبودية السياسية والاجتماعية ليُعدّ أمراً موروثاً أكثر في الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات أكثر منه في حكومات الدول؛ ولنا أن نذكر أن هناك حداً أدنى من المساءلة يطال الحكومة أمام الناخبين، في الوقت الذي تبدو فيه الشركات من وجهة نظر العاملين فيها بمثابة الطغاة المتسلطين.

نقد السياسة الخارجية الأميركية

في مجال نقد السياسة الخارجية الأميركية، يقول المؤلفان إن تشومسكي معروف بشجبه الكبير لسياسة بلده الأم أميركا. فلمدة نصف قرن من الزمان، وجّه تشومسكي سلسلة مدمّرة من الهجمات ضد الأكاذيب والخداع اللاإنسانية والقتل التي ميّزت سياسات الدولة. وفي مركز هذه الهجمات المستمرة، كان هنالك ذلك التركيز الثابت على التفاوت الواضح بين أفعال الحكومة من جهة وكيفية تصوير هذه الأفعال من جانب منظومة الدعاية الرسمية من جهة ثانية. عادة ما تركّز الدعاية الوطنية على القيم الأخلاقية العليا وروعة الوطن الأم؛ إلاّ أنه حينما ينظر المرء إلى بلدان أخرى، يصبح من السهل أن يشعر بعدم التعاطف ويرى الخداع الذاتي على ما هو عليه.

ويُظهر تشومسكي أن الولايات المتحدة تتصرف كدولة مارقة بطريقة أحاديّة، وتخرق ما تشاء من الأعراف والقوانين بحجّة «المصالح القومية» ؛تلك التي تمثّل في حقيقتها مصالح النخب – كما يقول آدم سميث – مع ازدراء بالقانون الدولي والرأي العام، سواء داخل الوطن أم في العالم.

ومن جملة إسهامات تشومسكي أنه قدّم توثيقاً كبيراً عن السجل الأميركي. وفي هذا السياق، يتّسع نطاق الهجمات بشكل لافت ليغطّي جميع أرجاء العالم، من جنوب شرق آسيا إلى أميركا الجنوبية، ومن تيمور الشرقية إلى “إسرائيل”، ومن مزارع الخنازير في هاييتي إلى حروب الأفيون في بريطانيا إبان القرن التاسع عشر.

كما يُدلي تشومسكي بملاحظات نقدية مقارنة ضد الأنظمة الإسرائيلية المتعاقبة. فلكونه يهودياً، فإن من المتوقع منه أن يدين بالولاء للدولة اليهودية، فيما كان لرفضه النزيه تلطيف انتقاداته ضد الدولة العبرية أن تسبّب بوصفه «معادياً للسامية»، أو «حاقداً على يهوديته»، وجلب عليه الخطب العصماء التي وصمته بالعار والخزي.

الحرب على الإرهاب

حول (الإرهاب والحرب على الإرهاب)، على خلفية أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001، والهجمات التي استهدفت مركز التجارة العالمي والبنتاغون في الولايات المتحدة، يقول تشومسكي إنه «لا يمكن أن تكون هنالك حرب على الإرهاب. إنها استحالة منطقية». وهو ينطلق من «الحقيقة البديهية الأخلاقية» التي تقول إنك يجب أن تُلزم بها الآخرين، الأمر الذي لم يسمع به أحد ضمن ميادين السياسة الواقعية من قبل.

ويلفت تشومسكي إلى أن «الولايات المتحدة نفسها تمثّل دولة إرهابية رائدة»، بحسب التعريف القانوني للإرهاب، والذي يُستخدم في كرّاسات الجيش الأميركي: «يمثّل الإرهاب ذلك الاستخدام المقصود للعنف أو التهديد بالعنف من أجل تحقيق غايات سياسية، دينية، أو أيديولوجية بطبيعتها، عبر الترويع، والإخضاع والإكراه، أو زرع الخوف».

كذلك، وفي إطار نقده للسياسة الداخلية، وبشأن «حركة احتلّوا» تحديداً، يقول تشومسكي إنها مثّلت أول استجابة شعبية كبرى لما يقرب من 30 عاماً من حرب الطبقات الشرسة التي قادت إلى ترتيبات اجتماعية واقتصادية وسياسية مزّقت النظام الديمقراطي. لذا، بات من الطبيعي الآن الحديث عن الـ1%، وهي تلك النخبة المتعاظمة في ثرائها، إلى جانب أن الحكومة تخدم مصالحها.

وفي واقع الحال، إن تلك النسبة تمثّل عُشر الـ1% – كما يشير تشومسكي – فيما تمثّل الـ99% بقيّتنا نحن؛ هذه البقيّة التي تحصل على الأوامر فقط من النخب الحاكمة التي تريد ضرائبنا ومواقفنا الصامتة.

لقد برزت هذه الفكرة على الأجندة الشعبية من خلال حركة «احتلّوا»، تلك الحركة الاحتجاجية غير الهرمية التي لا يتقدمها زعيم، فضلاً عن سلاسل من المحاضرات ومخيّمات لاحتلال الأماكن العامة وغيرها، التي بدأت في نيويورك في أيلول / سبتمبر 2010 وانتشرت إلى بضعة آلاف من الأماكن الأخرى عبر أرجاء العالم. واجهت المخيّمات في المناطق المركزية ضمن المدن الكبيرة، كنيويورك ولندن، معارضة قوية جداً من جانب النخب في البداية، ومن ثم تمّ إغلاق تلك المخيّمات بعد بضعة أشهر من الصراع؛ لكن حركة «احتلّوا» لا تزال موجودة، وهي غيّرت من طريقة تفكير الناس، الذين باتوا يتحدثون عن سيطرة الشركات على الحكومة (الأميركية)، فضلاً عن تجنّب كبريات الشركات، مثل أمازون وغوغل، للضرائب، وعن مدى التفاوت والتباين اللذين وصل إليهما المجتمع الأميركي.

وفي السياق، يقول تشومسكي إن تسريبات ويكيليكس «عرّضت الأمن الذي عادة ما يُشعر الحكومات بالقلق، أمنها المتمثل في تفتيش الحكومة من جانب مواطنيها، عرّضته للخطر». والمقصود هو الوثائق والأفلام والبرقيات الدبلوماسية الأميركية التي كشفها تشيلسي مانينغ، عن جرائم الحرب الأميركية في العالم، من خلال منظمة جوليان آسانج المعروفة باسم ويكيليكس؛ فيما كشف إدوار سنودن الوثائق الأميركية التي تُظهر أن وكالة الأمن القومي الأميركية، ومعها ما يعادلها من مؤسسات في المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، تورّطوا جميعاً في التجسس على أنشطة إنترنت واتصالات هاتفية تخص الملايين من الناس عبر أرجاء العالم.

ويُطلق تشومسكي على مؤسسة ويكيليلكس تسمية «قوة نشر الديمقراطية»، مؤكداً أنه يجب «منح أسانج وساماً» وأن تشيلسي مانينغ يمثّل «شخصاً متّهماً بالقيام بشيء لا يمثّل جريمة في رأيي، وإنما خدمة جليلة للأمّة». كما يصف تشومسكي إدوارد سنودن بعبارة «محارب شجاع من أجل الحريّة، ويستحق التكريم»، مشيراً إلى أن مشروع وكالة الأمن القومي الأميركية الذي كشفه سنودن إنما يمثّل «خرقاً فاضحاً لمواد الحقوق في الدستور الأميركي»؛ تلك المواد التي يُفترض بها أن تحمي الناس من «عمليات البحث والاستيلاء غير المعقولة ضدّهم» ولضمان خصوصية «الأفراد، والمنازل، والأوراق والممتلكات الشخصية المنقولة».

أما بشأن السيطرة على وسائل الإعلام، فيقول تشومسكي إنه «عبر صناعة «القبول»، يصبح بمقدورك التغلب على حقيقة أن العديد من الناس يملكون حق التصويت. كما أن بوسعنا جعل الموضوع غير ذي أهمية عبر صناعة القبول، وأن نضمن أن تتحدد خياراتهم ومواقفهم بطريقة تجعلهم يقومون دوماً بفعل وقول ما نريد منهم، حتى لو كانت لديهم طريقة رسمية للمشاركة».

إن الصورة العامة للإعلام في الغرب تُظهره بأنه يتمتع بقدر كبير من الاستقلال، والتقدمية، والصراحة، ومواقفه التخريبية من مشاريع السلطة؛ وبعبارة أخرى: «إنه إعلام حر». لكن بالضدّ من هذه الصورة المريحة، يضع تشومسكي (مع زميله هيرمان) نموذجه الدعائي، الذي يقترح أن «غرض الإعلام يتمثل في أن يطبع في الأذهان ثبات وصحّة الأجندة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للجماعات المتميّزة التي تهيمن على المجتمع المحلي والدولة، ويدافع عنها».

أخيراً، ورغم أن تشومسكي لا يؤمن بالأبطال، لكن من غير المفاجئ أنه كان بطلاً في عيون الكثيرين. كما أنه قد لا يكون هنالك من الاختلاف على أنه حقّق ما كان يصبو إليه حيث قال: «لقد قمت بشيء لائق في حياتي هذه».

المصدر: الميادين نت

Optimized by Optimole