معضلة الربا في الاقتصاد الإسلامي

معضلة الربا في الاقتصاد الإسلامي
Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم —

الكتاب: “الربا والاقتصاد والتمويل الإسلامي: رؤية مختلفة”

المؤلف: الدكتور حامد الحمود العجلان

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية – طبعة أولى ـ بيروت ـ 2010 —

كتاب “الربا والاقتصاد والتمويل الإسلامي رؤية مختلفة”، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 2010 ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه للدكتور حامد الحمود العجلان. والدكتور العجلان هو مثقف كويتي وكاتب دوري تُنشر مقالاته ودراساته في صحف عدة.
يناقش الكتاب التغيّرات التي حدثت في المفهوم الديني للربا، والظروف الاقتصادية والسياسية التي أدّت إلى ظهور مفهوم الاقتصاد الإسلامي لأول مرة، ولاحقاً إرساء دعائم الصناعة المصرفية الإسلامية.

يناقش المؤلف في الفصل الأول تأثير القيم الدينية في السلوك البشري عموماً، وفي السلوك الاقتصادي بشكل خاص، وذلك بمناقشة وجهات نظر علماء الاجتماع، من أمثال دوركهايم، وماكس فيبر، وروجر تاوني، وأبراهام ماسلو، حول هذا الموضوع.
أما الفصلان الثاني والثالث فمخصصان لموضوع الربا، من حيث تعريفه، واستعماله المشروع والمحظور من وجهة نظر اليهود والمسيحيين والمسلمين، وتطور وجهة نظر الكاثوليك بشأن الربا: كما يوضح الأهمية المحورية لتحريم الربا في صياغة السلوك التجاري المسيحي ونظريته الاقتصادية، كما يقارن بين السلوك التجاري الإسلامي والمسيحي في العصور الوسطى، ومن ثم تحرر المعتقدات المسيحية مع كالفان من فكرة المساواة بين الفوائد المصرفية والربا.
ويناقش الفصل الثالث المفهوم الإسلامي للربا، في مقارنة بين منهج علماء المسلمين المعاصرين في بحثهم لموضوع الربا ومنهج رجال الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، الذي يبقى بعيداً عن منهجية وجرأة كالفن في عقلنة الحكم البروتستانتي على الربا.
أما في الفصل الرابع فينتقل الباحث إلى تحليل الخلفية النظرية التي سبقت الصناعة المصرفية الإسلامية وجعلت من الممكن قيامها، أي علم الاقتصاد الإسلامي، فيدرس الظروف السياسية والاجتماعية التي شجعت تطور مثل هذا الاقتصاد.
ويتناول الفصل الخامس كيف أدى التفسير الحرفي للآيات القرآنية الذي يساوي بين الفائدة والربا إلى إمكانية قيام الصناعة المصرفية الإسلامية من خلال جهود رجال الأعمال الذين تمكنوا في أقل من عقدين من خلق صناعة راسخة. فقد تحقق ذلك من خلال توليفة من العوامل التي تمتد نت التحول في نظام القيم الدينية الاجتماعية إلى الاستفادة من التغيرات الحادثة في البيئة المالية الدولية، واستغلال فرص استثمارية جديدة، حققت ثروات لأفراد في زمن قصير نسبياً استطاعوا أن يجنوا الأرباح من تقديم خدمة لمجتمعات تجد متعتها في الإنفاق والاقتراض.
ويبحث الفصل السادس الدور المتزايد لرجال الدين المسلمين في القرارات حول القضايا الاقتصادية، من خلال توظيفهم كمستشارين للمصارف الإسلامية ضمان طهارة صفقاتها من الربا، وبالتالي تعارض مصالحهم مع الاجتهاد الحر الذي قد يحرر الفكر الإسلامي من معضلة اعتبار الفوائد المصرفية رباً محرماً، فيما يجيزون الفوائد نفسها للمصارف الإسلامية تحت مسميات المرابحة والإجارة والمشاركة، في إطار الحيل الشرعية.
ويتناول المؤلّف في الفصل السابع تطوّر الصناعة المصرفية في الكويت كحالة مرجعية، فيعرض خلفية التنمية الاقتصادية في الكويت، وخصوصاً تطور قطاعها المالي، والتحدي الذي فرضه تأسيس أول مصرف إسلامي، فيها. ويناقش الباحثبشكل مفصل الاحتكار الذي منح لبيت التمويل الكويتي، الذي تمكن من المحافظة عليه طوال 26 عاماً، والبيئة السياسية التي جعلت تحقيق ذلك ممكناً. كما يتطرق إلى قضية تنظيم القطاع المصرفي من قبل مصرف الكويت المركزي، وتضمين الصناعة المصرفية الإسلامية تحت مظلة هذه السلطة، ومقاومة بيت التمويل الكويتي لذلك.
كما يلقي الباحث في الفصل الثامن الضوء على مستقبل الصناعة المصرفية الإسلامية في الكويت، والدور الريادي الذي قد تؤديه الكويت في المجال المصرفي، في المستقبل.

تحريم الربا في المسيحية
يسلط المؤلّف الضوء على قضية تحريم الفائدة (الربا) والخلاف حول ما يمكن اعتباره معاملة ربوية، فيرى أن ذلك ليس أمراً ينفرد به الدين الإسلامي أو المسلمون، فقد كانت الشعوب، على اختلاف أديانها وثقافتها، تنظر بالإجماع إلى ممارسة الربا بازدراء. وعلى الرغم من أن المسيحية تحرم الربا، فقد ظل النقاش، على مدى قرونن، حول ما إذا كانت فوائد المصارف معاملة ربوية، ومثل نقطة جوهرية بين الكاثوليك والبروتستانت. ولم يتم حل الخلاف بين الطرفين حول الربا، لكن الأمر فقد أهميته بسبب انحسار التأثير الديني في الغرب، وغياب تأثيره لاحقاً في سلوكيات العمل التجاري.
وكان أعلن الحظر الكنسي العام للربا من قبل البابا في العام 1179 الذي صرّح بأن المسيحيين الذين يوافقون على الربا هم مذنبون بالكسب المخزي. كما اعتبر القديس توما الاكويني أن الربا ظالم، لأنه يعني سداد دين لم يقع في السابق، مشيراً إلى أن العهد القديم قد ساوى بين الربا والابتزاز. كما أن معالجته للصيرفة كانت مشابهة لما يقوم به مؤيدو الصناعة المصرفية الإسلامية اليوم. فقد اعتقد أن بديل الربا هو الاستثمار بواسطة المضاربة، اي تزويد قرض والتشارك في الربح مع المدين. ورأى أن الدائن يحق له أن يطالب بجزء من الربح الناتج عن استعمال ماله. ومثّلت وجهات نظره دفاعاً مبكراً عن عقود القروض التي تم الترويج لها لاحقاً من قبل المصرفيين الإسلاميين.

الثورة الكالفانية
مات لوثر في العام 1546 في حين مات كالفن في العام 1564، لكن آراءهما اللاهوتية، خصوصاً تلك المتعلقة بالنمط المسيحي من السلوك، كانت مبتاينة، وتشكلت أكثر من هذه الفجوة البالغة 18 عاماً. وترجع صيغ الاختلاف بينهما إلى طبيعة الجماهير التي استمعت إليهما. كانت تعاليم لوثر بسيطة وجريئة لانه كان يريد أن يجتذب الناس البسطاء، بينما كان على كالفن أن يقدم مذهباً يقتنع به جمهور من سكان المدن الرفيعي الثقافة نسبياً، الذين بمجرد أن اقتنعوا، نشروا المذهب بسرعة وجعلوه أشد تأثيراً. وقد أثر النشاط التجاري والمحيط الاجتماعي لجنيف في منظوره الكلي للحياة. فكالفن كان المجتهد المسيحي الأكبر في إعطاء نفسير عقلاني لسببب تحريم الربا. وبناء عليه، استطاع كالفن أن ينقل النقاش إلى مستوى أعلى: “يغيّر أو يتجاوز المستوى الذي كانت تتم فيه المناقشة، فقد قام بالتعامل مع أخلاقيات إقراض المال ليس كمسألة يتم فيها البت بالاحتكام إلى مجموعة خاصة من العقائد المتعلقة بقضية الربا، ولكن كحالة خاصة من المشكلة العامة للعلاقات الاجتماعية للمجتمع المسيحي، الذي يتوجب حلها في ضوء الظروف القائمة”.
وبرفعه للمستوى الذي كان عليه النقاش، نمكن كالفن من تشكبل فكر جديد، فلك يقصر الربا على تعريف جامد، لكنه حدده بمدى الضرر الذي يلحقه بحياة الناس العاديين. كان اعتقاد كالفن بأن “الربا يعد إثماً إذا آذى جارك فقط”. وبخلاف لوثر لم يكن مقيّداً بنمط بيئة ريفية محدودة الرؤى. فالتوليفة المكوّنة من نمط حياته كمحام وحياته في المدينة، وبُعد نظره، مكنته من توقع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت جنيف وبقية أوروبا ستمر بها. وهكذا، ففي حين كان كالفن ضد الربا الذي يؤذي الجار، وكان يحث المؤمنين المسيحيين على تقديم قروض من دون فوائد للفقراء والمحتاجين، فقد تمكن نفسه من التخلّص من الموقف الازدرائي نحو إقراض المال، بتعرّفه على العلاقة بين توسّع الإنتاج وتوافر الائتمان.
ويرى العجلان أن إحدى مشاكلنا نحن المسلمين في فهم ديننا هو أننا نعتقد بأن أمراً مثل تحريم الربا هو خاص فينا، على الرغم من أن تحريم الربا هو واقع في جميع الديانات السماوية وحتى غير السماوية، وحتى اليوم هناك مدن في أوروبا وأميركا توجد فيها قوانين تمنع الربا وتسمى anti-usury laws، ومفهومها هو المبالغة في تحصيل الفوائد عن الديون.
ومن الحقائق المثيرة هي أن التجار المسيحيين في القرون الوسطى كان لديهم نفس التصّور الذي لدى المسلمين حول الربا، بل إنهم كانوا أكثر تشدداً، ولكنهم كانوا يحتكون بالتجار المسلمين فيتعلمون منهم كيفية التحايل على هذه القناعات عبر الشراء بسعر أرخص من سعر البيع اللاحق في عملية مدبرة ومتفق عليها من قبل، وغير هذه العمليات الكثير.

الربا في الإسلام

كانت أول حكومة إسلامية تضطر إلى التعامل مع قضية الصناعة المصرفية والفوائد المصرفية هي الحكومة العثمانية، التي سنّت في العام 1887 قانوناً يثبت سعر الفائدة عند التسعة في المئة. ونص هذا القانون على أن الفوائد الكلية المدفوعة يجب ألا تتجاوز رأسمال الدين. وكان من المعتقد أن هذا الاشتراط يستشهد بالآية القرآنية التي تضفي الدقة على تحريم الربا: (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة”. وقد التزمت أغلب الحكومات الإسلامية الحديثة ببعض تعديلات هذا القانون وكان يترك في بعض الحالات للقاضي تقرير ما إذا كانت معاملة مالية ما حمل الربا في سياقها أم لا.
يقول الباحث العجلان: “نظراً لأن الأمر القرآني بتحريم الربا لم يحمل اي تعريف للمصطلح، يبقى تعريف الربا مسألة معقدة، حيث إن المعنى الحرفي لاسم الربا هو الزيادة”. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (يمحق الله الربا ويربّي الصدقات والله لا يحب كل كفاّر أثيم)(سورة آل عمران ــ آية 130).
ويربّي هو الزمن المضارع للفعل المشتق ربى من اسم “الربا” الذي يعني الزيادة. والعلماء المسلمون السابقون لم يتفقوا أبداً على ما يمكن اعتباره رباً. فقد اعتقد ابن رشد(1126 ــ 1198م) أن الربا ينطبق فقط على النقد وعلى المواد الغذائية التي تقاس بالحجم، بينما رأى معروف الدواليبي، وهو عالم سوري من القرن العشرين، أن الربا ينطبق على القروض الاستهلاكية، وليس على القروض الاستثمارية.
ووفقاً للإمام الشافعي، فإن الآية القرآنية (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) لا تفسّر نفسها بنفسها. ولذلك، لتمييز الحلال من الحرام، يجب على المرء أن يلجأ إلى أحاديث النبي(ص). وأبلغ حديث عن النبي(ص) بتحريم الربا الذي يستشهد به كثيراً في أدبيات الصناعة المصرفية الإسلامية، هو ذلك الذي رواه عبادة بن الصامت الذي ذكر أن النبي قال: “لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا الملح بالملح إلا مثلاً بمثل يداً بيد سواء بسواء عيناً بعين، فمن زاد أو استزاد فقد أربى”.
وذكر عبادة بن الصامت أن النبي(ص) أضاف أنه إذا كانت السلع التي يتم تبادلها مختلفة في النوع، “فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد”. لكن الحديث أعلاه متعلق أكثر بربا الفضل الذي يشير إلى تبادل سلعتين من النوع نفسه، لكنهما مختلفتان في الجودة، أي استبدال مكيالين من القمح ذي النوعية الرديئة بمكيال واحد من نوعية أفضل.
وطبقاً لإجماع المذاهب السنّية الأربعة الرئيسة فإن التعريف العام للربا هو: “مقايضة سلعتين من النوع نفسه بكميات مختلفة، حيث لا تمثل الزيادة تعويضاً مناسباً”. وقد حدد هؤلاء الفقراء أنفسهم أيضاً نوعين رئيسين من الربا: الأول ربا النسيئة الذي يعني حرفياً “أن ينسأ أي يرجأ”، ويسمى الثاني ربا الفضل الذي يعني تفضيل سلعة من النوع نفسه، ولكنها أفضل في الجودة.
ويشير النوع الأول إلى المدفوعات المؤجلة التي تزيد على رأس المال الذي تم إقراضه. ولأن ها الربا يتعرف على القيمة الزمنية للمال، تكون الزيادة على رأس المال مرتبطة بمدة السداد. وعندما تشترط الاتفاقية بين الطرفين أن يتم سداد القرض بالكانل أو على دفعات بزيادة على رأس المال، فيعتبر ذلك من ربا النسيئة. وقد اعتقد بعض الصحابة العارفون وبينهم عبدالله بن عباس، أن تحريم الربا مقتصر على ربا النسيئة، مستندين إلى رواية عن النبي(ص): “لا ربا إلا في النسيئة”.
ولم يعتبر أحد من الفقهاء أن النوع الثاني من الربا(ربا الفضل) محرّم، لكنهم نبذوا ممارسته لأنه قد يؤدي إلى ممارسة النوع الأول، أي ربا النسيئة.س
وقد تبنى الباحث محمد سعيد الغشماوي وجهة النظر التي ترفض مساواة الفائدة المصرفية بالربا، فقد وجد دعماً لحجته في حادثة استعباد النبي لرجل يدعى “سرق” فشل في تسديد ديونه، وقد حدث ذلك قبل نزول الوحي بتحريم الربا. وفي رأيه إن الله أوحى إلى نبيه آيات الربا التي تحرم مضاعفة الفوائد أضعافاً مضاعفة والتي تنتهي باستعباد المقترضين، وذلك بهدف حماية الفقراء.
ففي كتابه المعنون “الربا في الإسلام” (1988) شن العشماوي هجوماً قوياً على رجال الأعمال العاملين في الصناعة المصرفية الإسلامية الذين أساؤوا إدارة مدخرات آلاف المصريين.
أما شيخ الأزهر محمد سعيد الطنطاوي فقد طرح بدوره وجهات نظر حول الربا وعلاقته بالفائدة، وجاءت مخيبة لآمال المصرفيين الإسلاميين. ففي مقابلة مع مجلة “الفكر الإسلامي” في العام 2001، كان الطنطاوي واضحاً في موافقته على إيداع الأموال في المصارف التقليدية واستلام الفوائد، معتبراً هذه الإيداعات كاستثمارات، ومفضلاً وصف الفائدة كدخل ناتج من الاستثمار. ورفض بشدة اعتبار تحديد سعر الفائدة سلفاً بأنه يجعل المعاملة ربوية.

الاقتصاد الإسلامي
يعتقد العجلان أنه في حين يتفق جميع مؤيدي الصناعة المصرفية الإسلامية على أنهم ينظرون إلى الفائدة، كما تفرضها المصارف التقليدية، على أنها ربا، فهذه ليست الحال في بعض أجزاء العالم الإسلامي، باعتبار أن كثيراً من المسلمين، بمن فيهم الخبراء القانونيين ورجال الدين، يختلفون في تفسيرهم لما يمكن اعتباره ربا.
ويرى العجلان أن الصحوة الدينية بين المسلمين أدت إلى زيادة الجدل حول الموضوع، وإلى جعل عدد أكبر من الناس في البلدان الإسلامية، وفي منطقة الخليج، بشكل خاص، يساوي بين فوائد المصارف والربا، مما خلق حاجة أو فرصة لتطوير التمويل الإسلامي كبديل للصناعة المصرفية التقليدية.
في البداية لا يمكن أن نعزل فكرة الاقتصاد الإسلامي عن ما مر بالعالم العربي من تغيرات فكرية وسياسية منذ نكسة العام 1967، والتي كانت هزيمة رمزية للفكر القومي بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر وعلى إثرها انحسر هذا التيار، وكان البديل آنذاك الفكر الديني المدعوم من السعودية، وكان الدعم يصل عبر طرق عديدة أولها المادي المباشر وليس آخرها دعوة الأكاديميين الغربيين لعمل البحوث في جامعات الرياض وغيرها، وذلك بهدف تأليف دراسات وكتب حول مواضيع إسلامية وتفرعات عنها، لذلك فما يسمّى بالاقتصاد الإسلامي هو أحد مظاهر سقوط التيار القومي العربي وتمكّن الفكر الديني.
وبداية الفكر الاقتصادي الإسلامي كانت في الستينات بكتاب المرجع الشيعي العراقي السيد محمد باقر الصدر “اقتصادنا”، لكن هدف الكتاب لم يكن تأسيس فكر اقتصادي إسلامي، ولكن كان مواجهة الشعبية التي بدأ يكتسبها اليسار الماركسي في الجانب الاقتصادي في العراق، فقدم الصدر كتابه كبديل عن الرؤية الاشتراكية. ومنذ نشر كتاب الصدر هذا، لم يضف الباحثون الإسلاميون شيئاً كبيراً أو جديداً إلى الحق المعروف بالاقتصاد الإسلامي. وعلى حد تعبير الباحث القانوني اللبناني شبلي ملاط الذي كتب أطروحته للدكتوراه عن محمد باقر الصدر: “تميل كثير من الأبحاث(في الاقتصاد الإسلامي) إلى الاشنغال بالعموميات وتخطئ لتواضع الجهود المبذولة في تكيونها. كما أن افتقارها إلى الجدية، بمنع ظهور أدبيات جادة ومنظمة. فقد أدت الموضة الأخيرة للكتابة حول الاقتصاد الإسلامي إلى تحفيز الإنتاج بصورة مستعجلة، مما أدى إلى أدبيات ضحلة ومكررة”.
وعلى الرغم من أن بحث الصدر كان واحداً من الأعمال القليلة التي استحوذت على الاحترام، إلا أنه طرح الاقتصاد الإسلامي كأيديولوجيا أكثر منه كعلم، ولكن الكتاب في نظر المؤلف جهد مميّز وجدير بالقراءة.
وما جرى لاحقاً هو محاولات عدة من بعض الباحثين العرب لخلق مذهب اقتصادي إسلامي، وذلك بمساعدة وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية في دول الخليج بشكل عام.
وكان للثورة الإيرانية في عام 1979 دور مؤثّر في تعزيز الفكر الديني وقدرته على التغيير، والذي أسفر مثلاً عن انتشار ممارسات اجتماعية حديثة نوعاً ما في المجتمعات الخليجية وخصوصاً في المجتمع الكويتي.
بسبب هذه المعطيات يراجع المؤلِّف التغيّرات السياسية والاقتصادية التي اجتاحت منطقة الخليج العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي جاءت بالثروة والنهضة الدينية اللتين جعلت هذه المنطقة الموطن الطبيعي للصناعة المصرفية الإسلامية.

الصناعة المصرفية الإسلامية
تأسس البنك الإسلامي للتنمية في عام 1974 من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي، وتأسس أول مصرف تجاري إسلامي في دبي عام 1975، في حين تأسس أول مصرف إسلامي في أوروبا في عام 1978. وقدر أنه في عام 2005 كان هناك أكثر من 100 مصرف ومؤسسة مالية إسلامية تمتلك أصولاً تتراوح قيمتها بين 240 و400 مليار دولار أميركي. لكن في عام 1995، لم يكن مجموع أصول المصارف الإسلامية يزيد على 150 مليار دولار، وهي قيمة لا تشكل أكثر من بضعة أعشار من الواحد بالمئة من الأصول المتراكمة للمصارف العالمية. وفي العام 2006، قدرت مجموع أصول المصارف الإسلامية بما لا يتجاوز 50 في المئة من مجموع أصول بنك “سيتي غروب”. وأسست هذه المصارف لتتوافق مع وجهات نظر غالبيسة علماء المسلمين الذين يعيشون في منطقة الخليج، والذين يتشددون بماسواة فوائد المصارف بالربا.
ويرى الباحث العجلان أن المصارف الإسلامية التي تشتغل في الغالب في بيئة اقتصادية مختلطة، وتتنافس مع المصارف التقليدية والإسلامية الأخرى، يجب أن تلجأ إلى تدبير مواردها المالية بنظام المشاركة في الربح والخسارة لتفادي الربا، وفقاً للقواعد الشرعية الإسلامية. والآليتان الرئيستان للتمويل باستخدام المشاركة في الربح والخسارة هما المضاربة والمشاركة. ويمكن تعريفهما كما يلي:

1- المضاربة: هي شراكة في الربح بين رأس المال والعمل. تنجز المضاربة نموذجياً بين أصحاب الاستثمار، باعتبارهم مزودين للمال، والمصرف الإسلامي كمضارب(الشريك العامل). يعلن المصرف الإسلامي رغبته في قبول أموال أصحاب حساب الاستثمار، وتكون مشاركة الأرباح كما هو متفق عليه بين الطرفين، فيما يتحمل الخسارة مزود الأموال، باستثناء حالات سوء التصرف الإداري أو الإهمال.
2- المشاركة: وهي ضرب من الشراكة بين المصرف الإسلامي وعملهن حيث يساهم كل من الطرفين برأسمال الشركة بدرجات متساوية أو مختلفة لتأسيس مشروع جديد أو المشاركة في مشروع حالي. يكون كل من الطرفين مالكاً لرأس المال على أساس دائم أو منتناقص، ويحصل على الربح أو يتحمل الخسارة، بصورة متناسبة مع رأسماله. وعلى الرغم من كون نظام المشاركة في الربح والخسارة هو الهدف من وراء تأسيس المصارف الإسلامية، إلا أن استخدامه يبقى حالة مثالية. وتظهر الإحصاءات أن أغلب المصارف الإسلامية تستخدم أدوات شبيهة بالدين، باعتبارها الوسائل الرئيسة لتمويل عملائها. فوجد المؤلف أن 85% من التمويل المزود من قبل بيت التمويل الكويتي بين عامي 2000 و2005 قد تم من خلال عمليات المرابحة والإجارة، وهما أداتان شبيهتان بالدين النقدي مقابل الفائدة.

3-المرابحة: هي بيع السلع بهامش ربح متفق عليه فوق سعر التكلفة. وهناك نوعان من بيع المرابحة. في الأول، يشتري المصرف الإسلامي السلع ويطرحها للبيع من دون وعد مسبق من العميل لشرائها، ويطلق عليه اسم المرابحة الطبيعية أو الفورية. ويتضمن الثاني وعد العميل بشراء المادة من البنك الإسلامي.

4-الإجارة: هي نقل ملكية الخدمة لفترة محددة أو لاعتبار قانوني متفق عليه.

المصارف الإسلامية والتمويل العالمي
تدير المصارف الإسلامية نحو ألف مليار دولار أميركي من الأصول، ورغم أنه رقم كبير جداً، فهو لا يمثل سوى بضعة أعشار من واحد بالمئة من مجموع أصول المصارف الدولية، فهي لا تمتلك إذاً سوى تأثير صغير جداً في النظام النقدي العالمي. وقد ثبت أن توقعات بعض مؤيدي الصناعة المصرفية الإسلامية أن تمتلك مصارفهم تأثيراً هائلاً في الأسلوب والأدوات المستخدمة في إدارة الأعمال المصرفية التقليدية، هي حلم أكثر منها حقيقة. بل إن المعاملات التجارية للمصارف التقليدية الأجنبية قدمت مساعدات كبيرة لمشاريع تأسيس الصناعة المصرفية الإسلامية والترويج لها، بل حتى زودتها بالأدوات الاسثمارية المتوافقة مع متطلبات الشريعة. ويؤيد الباحث العجلان ما ذهب إليه قبله باحث آخر هو إبراهيم وردة، يقول في كتابه “التمويل الإسلامي في الاقتصاد العالمي”: “الاجتهاد الجديد حول التمويل الإسلامي يتم من خلال التعاون بين المؤسسات المالية التقليدية والإسلامية، وذلك خارج العالم الإسلامي في كثير من الأحيان”.
لكن هذا الاجتهاد والابتكار من قبل المصارف التقليدية في تطوير الأدوات والمنتجات المقبولة بالنسبة إلى الشريعة لم ينجز حباً بالأمور الشرعية أو العلمية، بل من أجل اجتذاب الأموال من المصارف الإسلامية. وبذلك أضحت العلاقة بين المصارف الإسلامية في منطقة الخليج والمصارف التقليدية الدولية قوية جداً، وتعمل على تحقيق الربح للجانبين، بغض النظر عن تحريم الربا وحملة علماء الدين لمصلحة المصارف الإسلامية التي “جاءت لإنقاذ البشرية من شر الربا”، بينما لا يتوانى بعض هؤلاء وأنصارهم من الاجتماع بمدراء من بنوك دولية ربوية كسيتي بنك أو دويتشه بنك أو HSBC لالتماس مساعدتهم في تطوير بعض المنتجات المتوافقة مع الشريعة. كما أن هذه المصارب الربوية نفسها قد فتحت أقساماً فيها للصيرفة الإسلامية كي تنافس المصارف الإسلامية وتجتذب الزبائن المتدينين في منطقة الخليج.
ويخلص العجلان إلى أن الصناعة المصرفية تبقة نشاطاً عقلانياً علمانياً، بغض النظر عن التوجهات الدينية لهذا الطرف أو ذاك. وقد حفز هذا الطلب على الأبحاث المتعلقة بالأعمال المصرفية والتمويل الإسلامي في الغرب، فأصبحت الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبحوث، وتعقد أغلب الحلقات الدراسية حول الموضوع في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية أو الشرق الأوسط. أما الجامعات، وخصوصاً في أميركا وبريطانيا، فهي المؤسسات الأكثر نشاطاً في دعم مثل هذه البحوث والترويج لها. ففي كل عام يعقد مركز هارفارد للدراسات الشرق أوسطية المنتدى الأكثر أهمية حول الصناعة المصرفية الإسلامية، ومعظم الأبحاث تقدم من باحثين مسلمين وغير مسلمين في جامعات ومؤسسات مالية غربية.

الصناعة المصرفية الإسلامية والتنمية
ينتقد العجلان كيف أن المصارف الإسلامية ركزت على الربح وأهملت مسألة التنمية والأهداف الاجتماعية والأخلاقية التي قامت لأجلها. كم أنها شجعت على تراكم الثروة في أيدي القلة وعلى الاستهلاك الذي أوقع ذوي الدخل المتوسط في ديون ومشكلات مالية. فقد أظهرت دراسة أجريت في مصر أن المصارف الإسلامية لم تفعل شيئاً خارج المدن، وأن غالبية قروضها قدمت إلى الأغنياء، بينما لم تتلق الطبقات الوسطى سوى نسبة هامشية من هذه القروض.
وينقل المؤلف عن صالح كامل، رئيس مجموعة دلة البركة التي تتعاطى الصيرفة الإسلامية، نقده لهذه الصناعة معتبراً أنها لم تتجاوز بعد سنوات عدة منزلة الوساطة المالية الأقل خطراً، من دون أن تحقق مقاصد الشريعة في تجنب الربا أو تقديم قيمة مضافة إلى المجتمع، وذلك بعد أن حصرت هذه المصارف نفسها في المرابحة، وتفادت الخطر المرتبط بالمضاربة.
والأنكى من ذلك أن هذه المصارف كانت تقوم بتحويل المدخرات والصناديق الإسلامية إلى استثمارات في أوروبا والولايات المتحدة، وخسرت مليارات الدولارات هناك نتيجة إفلاس المصارف الغربية وتدني قيمة العقارات والأصول بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية في العامين الماضيين.
وانطلاقاً من نموذجي إيران وباكستان، حيث منع النظامان فيهما المصارف الربوية وقام بأسلمة النظام المصرفي أيديولوجياً، من دون تطبيق خطة اقتصادية بديلة، مما أتى بنتائج كارثية عليهما، يخلص العجلان إلى أنه يثار الكثير من الأسئلة حول نمو وصعود الأيديولوجيا الإسلامية وقدرتها على فرض رؤيتها على السلوك التجاري والمالي، بغض النظر من نتائج ذلك على الأداء الاقتصادي. ويذهب إلى أن سيادة المرابحة كوسيلة تمويل في المصارف الإسلامية، من خلال استبدال القرض التقليدي ذي الفوائد بشراء سلع وبيعها في الوقت نفسه بسعر أعلى، مع علاوة مشابهة لسعر الفائدة السائد، يعكس وجود مأزق في معتقداتنا الإسلامية وقدرتنا الهائلة على خداع أنفسنا. إن عملية المرابحة لتجنب الفوائد تسمى عادة بـ”التطهير” أو الحيلة الشرعية، ولكنه يصفها العجلان بـ”خداع الذات” لأنها حيلة للالتفاف على مبدأ وهدف جوهريين للصناعة المصرفية الإسلامية.
فكلا المقاربتين المعتدلة والمتشددة للتعامل مع الربا تعكس فشل الفقه الإسلامي حتى الآن في التماثل مع الانطلاقة الأساسية التي تحققت في أوروبا المسيحية، والتي تعاملت مع التأثير أو الضرر الاجتماعي للربا بدلاً من شكله المعاملاتي. فكالفن قد قصر تحريم الربا الذي يسبب الضرر للفقراء، بينما نشهد في واقعنا الإسلامي أن تكلفة القروض التي توفرها المصارف الإسلامية هي أعلى على الفقراء والأغنياء من المصارب الربوية.
ويرى العجلان أنه على الرغم من نجاح أعمالها وتوسعها عدداً وحجماً، تمثل الصناعة المصرفية الإسلامية مظهراً للفشل الفكري الإسلامي والإصرار على الانعزال عن المسعى الإنساني التقدمي. ويتهم الكاتب أصحاب هذه الصناعة بأنهم يغفلون النتائج الاجتماعية لاعتمادهم على المقاربة الأصولية للدين، وبالتالي يزيدون حدة المقاومة للتغير الاجتماعي الذي يمكن أن يرتقي بمنظومة القيم إلى مستوى أعلى. كما يساهمون في تكوين مجتمع يعمل أفراده على كبت الإبداع وإدامة الانغلاق.

دول الخليج والصيرفة الإسلامية
لماذا انتشرت فكرة الاقتصاد الإسلامي في دول الخليج بالتحديد؟ يقول المؤلف إن ذلك عائد إلى ظروف المعيشة والفورة المالية في الخليج التي تشجع على مثل هذه التجارب الاقتصادية، لذلك نجد أن التيارات الإسلامية لم تنجح كثيراً في تسويق هذه الفكرة في الدول الأفقر مثل مصر والجزائر، والتي كانت المظاهر الدينية فيها ليست اقتصادية بل سياسية متطرفة تشمل في أحيان كثيرة العنف.
ويعتبر المؤلف أن الاقتصاد الإسلامي هو من ناحية عملية ناجح ومزدهر نوعاً ما، فهو يدر الأرباح والأموال على أصحابه، أما من الناحية العلمية أو الفكرية فهو يشك في ذلك.
ويعتقد العجلان أن الاقتصاد الإسلامي يفترض أن يختلف عن غيره من الأشكال الاقتصادية عبر ما يسمى بالمرابحة أو غيرها من وسائل الاستثمار، والتي هي عند التمعن فيها يمكن اعتبارها مجرد وسيلة أخرى لتحصيل الأموال وعمل البنوك. فمعلوم أن وظيفة البنك هي تجميع أموال المودعين ونقلها إلى مستثمرين مستعيدين لتشغيلها على أن يتحصل البنك والمودعون على أرباح عن العملية، وعلى الأقل فعلى البنك أن يغطي تكاليف التغيّرات في أسعار العملة جراء التضخم الاقتصادي الطبيعي، لهذا كان على البنوك أن تعمل بطريقة أو بأخرى، يمكن أن نسمّيها مرابحة أو أي اسم آخر، لكن بعض الناس يجد في نفسه قناعة بأن المرابحة تختلف عن باقي عمليات البنوك التقليدية بتفسير أو بآخر.

لا يوجد اقتصاد إسلامي؟
ويعتبر المؤلف أن مفهوم الاقتصاد الديني هو بذاته مغلوط، فالنظم الاقتصادية هي نتاج تجارب حضارية وتاريخية تفرز حاجات معينة في المجتمع وتقسيمات اجتماعية وسياسية يُحدد على أساسها النظام الاقتصادي، والإسلام حينما تطرق للربا، فلم يكن يقصد بذلك تقديم نظام اقتصادي بديل، بل هو نقد لممارسة اجتماعية معيّنة لم تكن مؤطرة في إطارها الصحيح، ونتجت عنها مضاعفات اجتماعية نتيجة المبالغة فيها، لكن الاقتصاد ليس علماً دينياً أو طبيعياً بحتاً، فلا حقائق ثابتة فيه، بل هو علم إنساني متحرك يتقدم مع تطوّر تجارب البشر.

الفرق بين الاقتصاد الإسلامي والتمويل الإسلامي
ويرى العجلان أن بعض القائمين على المؤسسات المالية الإسلامية يدرك أنه لا يوجد فكر اقتصادي إسلامي بالمعنى الدقيق، لذلك فبعضهم يتحدث عن التمويل الإسلامي كوسيلة لتحليل المعاملات المالية، من هنا فالتمويل الإسلامي يختلف عن الاقتصاد الإسلامي، وبشكل عام فالمسألة مبنية على فكرتين: الأولى هي الإيمان وبراءة الذمة الشرعية للملتزم دينياً، والثانية هي حقيقة أن البنوك الإسلامية تقدم فعلاً عروضاً مغرية وأرباحاً مجزية لمودعيها، ولو كان غير ذلك لرأيت أغلب المودعين يتحولون إلى البنوك التقليدية، فالجانب المادي والعملي مؤثر جداً.
كما أن أحد الجوانب الإيجابية هي أن البنوك الإسلامية مثلا وفرت فرصة للشباب الكويتي للانخراط في مجال الصرافة والتمويل، خصوصاً لتلك الشريحة الشبابية من الطبقة الوسطى التي لا تنتمي إلى العوائل التجارية التقليدية، ولكن جانب سلبي هو أن ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي هو فكرة تخدع الناس، وهي تعمل على تأخير الوعي الاجتماعي الذي لا يدرك حقيقة الموضوع، فالمصارف الإسلامية والتقليدية مملوكة لنفس الأشخاص أو المجموعات التجارية، لأن المسألة هي في الأصل والنهاية تجارية وخاضعة للمصالح.
وحول رؤية بعض المحللين بأن السبيل لتجنب آثار الأزمات الاقتصادية كالتي نعيشها اليوم هو في الالتزام بالاقتصاد الإسلامي، يرفض العجلان هذا الادعاء لأننا لا نملك سحراً يمكن من خلاله السيطرة على اقتصاد العالم. فكبرى الشركات الإسلامية تعاني اليوم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية سواء كانت كويتية أو عالمية، ومعروف اليوم بأن سبب الأزمة يعود إلى ضعف الرقابة على المعاملات المالية جراء الانفتاح الاقتصادي المبالغ فيه أثناء الثمانينات.

خلاصة
يعتقد العجلان أن الدين قد أدى دوراً مركزياً في تشكيل النظام القيمي الذي يوجه سلوك الناس الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي. ويمثل تحريم الربا أحد السمات المثيرة للجدل في السلوك الاقتصادي، الذي اشير إليه كثيراً في جميع الأديان.
وهو إذ يرفض التفسير الحرفي لما يمكن اعتباره ربوياً يرى أن الإسلام لم يشهد حتى الآن اجتهاداً أصيلاً وثورة رأسمالية وعلمية في العالم الإسلامي من شأنها أن تساهم في تحرير السلوك الاقتصادي من القيم الدينية. ويقول إن الاقتصاد الإسلامي يتخذ من تحريم الربا هدفاً رئيساً في سبيل تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد إسلامي ويدعي تميزه بأنه أكثر أخلاقية في اهتماماته. ومقارنة بالاقتصاد الحديث فقد تمت صياغة الاقتصاد الإسلامي عنوة، بينما استغرق الأمر في الأول قروناً كي يتطور ويصبح علماً ناشئاً يتغذى على الخبرات التي تراكمت منذ الثورة الصناعية، ويستفيد من حقول المعرفة في الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية. بينما تأسس الاقتصاد الإسلامي كمحاولة للمحافظة على الهوية في عالم متطور، لم يساهم فيه المسلمون سوى بأقل من القليل في تشكيله.
وفي حين يوجد 300 مصرف إسلامي منتشرة في 38 بلداً، فإن تركزها من حيث العدد ورأس المال في منطقة الخليج العربية، ما يجعلها موطن الصناعة المصرفية الإسلامية. وقد تاسست هذه المصارف للاستفادة من عاملين هما توافر المال والإسلام المحافظ الذي يصرّح بالربط بين فوائد المصارف التقليدية والربا.
لقد أخفقت هذه المصارف الإسلامية في تحقيق ادّعائها بأنها تهدف إلى تحسين حياة المسلمين، فقد فشلت في الوصول إلى الفقراء وكان تركيزها ينصب على استقطاب الأفراد الأثرياء في منطقة الخليج ما جعل أهدافها مشابهة لمثيلاتها في المصارف التقليدية. كما لم تكت مقارباتها الاستثمارية مختلفة عن مقاربات المصارف التقليدية، في حين أدى سعيها إلى الأسواق المستقرة والحد الأدنى من المخاطر، إلى توجيه أغلب استراتيجياتها المتعلقة بالاستثمار البعيد المدى نحو أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
إن كلتا المقاربتين الإسلامية المعتدلة والأصولية للتعامل مع الربا تعكس فشل الفقه الإسلامي حتى الآن في اتباع الانطلاقة الأساسية التي تحققت في أوروبا المسيحية، والتي تعاملت مع التأثير أو الضرر الاجتماعي للربا بدلاً من شكله المعاملاتي. وإذا كان الطنطاوي هو من أعلن الطبيعة المشروعة لفوائد المصارف التقليدية باعتبار أن المودع يفوّض سلطة الاستثمار غلى المصرف، أو الأصولي الذي يرفض ذلك ويقبل المرابحة كشكل مشروع من المعاملات وكبديل عن الفوائد، فكلاهما يعاني الفشل في الانتقال بمستوى المناقشة إلى طبقة أعلى.
ويختم الباحث بأن رجال الأعمال والمدراء في الصناعة المصرفية الإسلامية يغفلون النتائج الاجتماعية لاعتمادهم على المقاربة الأصولية للدين، وبالتلي يزيدون حدة المقاومة للتغيّر الاجتماعي الذي يمكن أن يرتقي بمنظومة القيم إلى مستوى أعلى. إنهم مساهمون في عملية اجتماعية ستولّد رجالاً مشبعين بالقيم الأصولية، وتكوين مجتمع يعمل أفراده على كبت الإبداع وإدامة الانغلاق.. إنهم مساهمون بشكل كبير في إدامة إحباطات المجتمع الإسلامي.

Optimized by Optimole