طقوس الحب والحرب في رواية حائط خامس

Spread the love

بقلم: غنوة فضة
الرواية: “حائط خامس”
تأليف: عباس بيضون
الناشر: دار نوفل – بيروت- 2022) |

تتنفس الحروب بين البشر وتستمدّ قوتها من انكفائهم ضمن جماعاتهم، وَفي رواية “حائط خامس” (دار نوفل 2022) للشاعر اللبناني عباس بيضون (1945)، نعاين ارتداداً من نوع آخر، وانكفاءً شذّت أسبابهُ عن مقولة العزلة المفضية إلى الإقصاء والتهميش. فالفضاء الذي تُعنى الروايةُ برسم أبعادهِ منفتحٌ على الآخر، والتواصلُ بين عناصرهِ يصل إلى أقصى حدود التقبلِ والتعايش، الأمرُ الذي يطرح إشكالياتٍ عالقة، ويتجه إلى التساؤل حيال تلك الحواجز التي غذّت حرباً دموية، ويعيدُ الذاكرةَ إلى رصدِ جروح لم تندمل.
من قرية “واصل” اللبنانية وقبيل حرب عام 1975، يطالعنا جدار يفصل بين كنيسة القرية ومنزل شيخها الجديد. من القرية التي تضم مسلمين ومسيحيين ندرك أن أقطاباً متنافرة ستشكل أحداثَ الحكاية، بيدَ أنّ الجدار لم يحُل دون التعايش بين مكوّناته. فأبطالُ الرواية، شيخٌ وصبيةٌ وشاعرٌ، يراوحون بين الحب والرغبة. هي شخصيات خضعت لقوالبَ مسبقة الصنع، وتعايشت مع ما خطتهُ الجماعةُ لمصائرها. نعتقد في البداية أننا بصدد حكاية تصوغُ أبطالاً متجلدين ومتمسكين بهوياتهم، يصرّحون عن هواجسهم وأحلامهم بأصواتٍ خافتةٍ، وبطريقة تطرح السؤال عن عمق العلاقة بين الهوية الذاتية والآخر. ثمة دعمٌ متبادلٌ يطالعنا للتنقيب عن علاقة المرء بالضوابط الخارجية، ومع القوانين التي قيّدت نوازعهُ، إلا أننا سرعان ما نكتشف هشاشتهم وامحاء ذواتهم أمام صرامة الخارج وصلابة الجماعة.
يقدم صاحب “خريف البراءة” عبر 189 صفحة روايةً بثلاثة أصواتٍ تتناوب فيما بينها مهمة السرد، وما بين الأصوات تتضاربُ مسلماتٌ وتتداعى جدران. فالمنازل التي تقوم على أربعة جدران، تستند إلى خامس يصوغ بدوره جدراناً أخرى. هي حوائل غير مرئية، ولو كان الحائط الفاصل بين الكنيسة والجامع ظاهراً، إلا أنه برمزيته الجليّة يحيل إلى حواجزَ شكّلت حيوات أبطاله. فالطائفيةُ والانضواءُ تحت عباءة العشيرة ومسايرة أنظمتها الجمعية مفرزاتٌ لا تقل أهمية عن تلك التي منعت أبطال الحكاية من الإصغاء إلى رغباتهم وأحلامهم. وتلك هي عملةُ الحروب، والنار التي تتقدُ عبر كبت الأفراد وتسييرهم وفق مصالح غير مدركَة. تلك الصراعات التي تنشأ بين الداخل والخارج، وبين الذات والآخرين، تجسّد ما يرجح الكفة لصالح التحول في شخصيات الأبطال ومصائرهم. فالشيخ عبد الرحمن، شابّ يُوصف بأخلاق الأنبياء، وهو منسجم مع عشيرةٍ وكّلتهُ بمشيخة قرية واصل، وهناك، بطباعهِ الهادئةِ ومعتقداته المعتدلة، نقف على صورة مغايرة لرجل الدين. فالشيخُ يدبرُ شؤون حياته بيديه من دون الاتكاء على أحد، ويقرأ الكونفوشية والأدب الروسي، وله فلسفتهُ الخاصة إزاء الحب، وعلى النقيض من غيره، لا يتنازل عن حقه في الحب قبل الزواج بينما يتيحُ لهُ دينه الزواج بأربعة نساء. يجابهُ عبد الرحمن مغريات شتى، من حوراء ابنة الحاج يعقوب، إلى فضاء يوهن شكل الخطاب الديني وفاعلياته، الأمر الذي يدفعه للنكوص إلى داخله في كل مرة يلتقي أحد سكان القرية، وهو في الوقت ذاته يشعر باحتمال عدم انتمائه إلى مهنته. هكذا مثقلاً بالعلامات والأشياء، نراه حائراً أمام شاعر القرية أنطوان، والذي نشأ في كنف عائلة بروتستانتية بصورة جعلتهُ فريداً، ذلك أن انتماءَهُ إلى أي معتقدٍ سوى الشعر يبدو أمراً غير وارد، وعلاقته المتينة بأسئلته الخاصة عن الحياة والموت والحب، تدفع القارئ للتساؤل بدوره حول جدوى تلك القضايا “أنا ولا شي.. ” هكذا يصف نفسه حين يفكر بالعالم من حوله، حيث كل ما هو مصاغ بقوانين الجماعة، وكأننا نطالع كاتب الرواية. فالكاتب الذي كشف عبر قصائدهِ خوفهُ من أن يكون العالم صفحة بيضاء يصوغها النسيان، نلقاهُ في شخصية أنطوان وأزماته الوجودية. فلا شيء إلا الشعر، بماهية اللاانتماء، يلائمهُ. وهو ما نلمسه عندما تشتعل الحرب ويغادر المسيحيون القرية إلى بيروت، إذ لا مشاعرَ واضحةً إزاء الأحداث من حوله، بل مجردُ حيادٍ تائهٍ عن ذاته: “شعرتها تلومني لأني لم أكن مترنحاً كمقتلعٍ، فأنا لم أكن مغروساً هناك وليس لي مكان أتوطن فيه”. وهو بذلك على النقيض من عبد الرحمن الذي يتمسك براية هويته حتى آخر مشهد. هكذا نجد أنطوان مكتظاً بما يحمله تجاه فتيات القرية؛ فلا سلوى، أكثر الفتيات تحرراً وإغواء، ولا جورجيت أو غريس، التي كان لها أن تجسّد له حباً حقيقياً، بقادراتٍ على مساعدته لتحديد ما يريد. فالشاعر يُعاين ضياعاً أبدياً، ويشعر بانفلاته خارج عالمه الذاتي، الأمر الذي يدفع إلى حواراتٍ فلسفية ونقاشات مع الشيخ، تقف على حقيقة الرغبة والإرادة: “لطالما أحبّ فكرة أن جداراً واحداً يرتفع بين الشيخ والقس..”.
هكذا تصنع الحربُ طقوسها بين أخذٍ وردٍّ، وعبرها تنوس غريس بين عبد الرحمن وأنطوان. تشعر بميلانها لحبّ الشيخ، لكنها تعي وهمية تلك العلاقة. فكلاهما، غريس وعبد الرحمن، يطالعان حباً وقاداً، ولربما كان أكثر ثباتاً من جهته، إلا أن كل ما حوله يقوّض ثباتهُ ويمنع عنه الحياة. “ستكون فضيحة.. ” يقول عبد الرحمن فيما لو تزوجها، بينما تكبح غريس حبها لرفضها حياة زوجة رجل الدين: “في وسعي أن أتزوج بوذياً، لكن ليس كاهناً. الدين لا يهمني لكن الشيخ والكاهن ليسا سوى دينهما”. هكذا تتشابك قصصٌ وغرامياتٌ، فسلوى تتصيد أنطوان، وعبد الرحمن يخاطر بحياته لدخول بيروت المسيحية بحثاً عن غريس. أما جورجيت فتبحث عن أنطوان لتقدم جسدها له، فيما تحار غريس بين الشاعر والشيخ بلا أدنى نجاة لأي من تلك القصص، بل يترصدها في كل فرصةِ نجاةٍ جدارٌ، ويصنع لها حدوداً تقوّض استمرارها. ذلك الوأدُ وتلك الخيباتُ تدفع بهم للنكوص إلى جدرانٍ شيّدتها الجماعة، هي حواجزُ صلبة قد تحمي مصائرهم، إلا أنها في الخفاء تقصيهم وتنفيهم إلى أبعد مشاعر الطرد والهجران.
“كان حباً فحسب، وفوق العوائق والأعراف كلها كان كاملاً لدرجةٍ يستحيل معها إعادته”. تصوغ الوحشة والاغتراب حال الجميع في مكان تحكمه الحرب والدماء، ويحدث التحول حين تُغلَقُ كل المنافذ ويبقى طريق الحرب مفتوحاً. فالمعارك التي أودت بحياة رمزي شقيق أنطوان تعطف مصيره ليدخلَ حرباً لم يؤمن بها يوماً. والحب الذي لم تُكتب له الحياة يحول الشيخ إلى عاشق يبحث عن فتاته. وغريس كذلك الأمر، تتخلى عن قصتها مع الشيخ والشاعر وتختار بول المغترب. هكذا بعد أن يتنصل كلُّ امرئ من حكايته، ويحاول عبثاً الفرار من دائرتها المفرغة، ينضوي الجميع تحت راية الجماعة، فأنطوان يدخل الحرب، وغريس تهجر حبها، ولا يلقى الشيخ عبد الرحمن من ملاذٍ سوى عمامتهِ.
*كاتبة وروائية من سوريا
المصدر: شجون عربية

Optimized by Optimole