حرمها والدها من المدرسة، فنالت الدكتوراه من كامبريدج

Spread the love

بقلم: إبراهيم عبد الله العلو — ماذا يحدث لفتاة عندما تنشأ في كنف عائلة مسيحية ذات إعتقادات دينية متشددة؟

تلك الفتاة التي لم تحصل على شهادة ميلاد حتى سن التاسعة ولم يسمح لها بإرتياد المدرسة قبل بلوغ سن السابعة عشرة. وفي النهاية تحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج.

نجد هنا قصة قوة الإرادة والإصرار على التعلّم والمعرفة في أصعب الظروف وأشدها قسوة وتطرفاً.

تارا ويستوفر هي كاتبة أميركية ولدت في ريف ايداهو لعائلة من المسيحيين المورمون وهي طائفة متشددة تؤمن باقتراب يوم القيامة. قضت تارا طفولتها معزولة بالكامل عن العالم الخارجي. لم يؤمن والدها بالمدارس والمستشفيات، ولذلك لم تذهب إلى أية مدرسة قبل سن السابعة عشرة.

ولكنها تمكنت من الحصول على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج. وتحكي في كتاب “متعلمة” قصة حياتها.

ولدت تارا ويستوفر في بلدة زراعية صغيرة في ريف ايداهو وكانت الصغرى بين سبعة أطفال لوالديها جين وفاي من طائفة المورمون.

ولدت تارا في المنزل ولم تُمنح شهادة ميلاد حتى بلغت سن التاسعة وكأنها لم تولد ولم يشعر بها أحد.

إعتقد والدها جين أن المدارس لم تكن سوى طريقة تغسل فيها الحكومة الإشتراكية أدمغة الأفراد وتحوّلهم إلى عبيد للنظام ولذلك لم تحظَ تارا وأشقاءها وشقيقاتها الستة بأي فرصة لتجربة التعليم النظامي.

ولم يؤمن والدها بالمستشفيات أيضاً مما يعني معالجة قروح وحروق تارا بالأعشاب والعلاجات المنزلية.

ولكنه آمن بإله للمورمون يقول إن مكان المرأة في المنزل وحيث قضت والدتها فاي معظم وقتها.

رغبت جدتها بتوفير تعليم ملائم لحفيدتها الصغرى وعرضت عليها عندما كانت في سن السابعة فرصة للهروب إلى أريزونا والذهاب إلى المدرسة. ولكنها لم تغادر ولا تزال تحتفظ بذكريات حميمة عن عائلتها وطفولتها لغاية اليوم.

تغيرت عقلية تارا بعد ذلك بثلاث سنوات. حدث ذلك عندما أعلن شقيقها تايلر الإبن الثالث في العائلة في عيد ميلاده الثامن عشر عن رغبته بالإلتحاق بالجامعة.

بالطبع عارض الوالد جين ذلك القرار نظراً لإبتعاد شقيقيه توني وشون عن المنزل ولإقتناعه بأن الجامعة لا تعلّم الطلاب كيفية تنشئة أسرة ورعاية زوجة. وأصر أن الدراسة تحقق رغبة الشيوعيين والمتنورين.

ولكن تايلر أصر على قراره مما ألهم تارا البالغة عشر سنوات آنذاك على قضاء وقت أطول في القراءة وغالباً مطالعة العهد الجديد وكتاب المورمون.

بعد مغادرة تايلر بقليل غادرت شقيقتها الكبرى أودري المنزل أيضاً ولم يتبقَ بجانبها سوى أخويها لوك وريتشارد.

إضطر جين لهجر الزراعة لعدم توافر اليد العاملة وتوجب على تارا تقديم يد العون له. ولذلك بدأت منذ سن الحادية عشرة بتفكيك السيارات القديمة واستخلاص قطع التبديل منها بمساعدة الوالد.

ولكن طموحها كان أكبر من ذلك بكثير. قامت في أحد الأيام بتعليق إعلان في مكتب البريد المحلي عن استعدادها لتقديم خدماتها كجليسة أطفال. وكانت تلك بداية انفتاحها على العالم.

عرضت إحدى الزبائن وتدعى ماري على تارا فرصة لزيارة مدرسة للرقص وأعجبت تارا بتلك المدرسة لكن الوالد جين منعها من ذلك لإعتقاده أن الرقص كان منافياً للأدب.

تلت دروس الرقص دروساً بالصوت لم يجد والدها غضاضة في متابعتها سيما أنها أثارت إعجاب المصلين في الكنيسة المحلية أيام الآحاد، وحصلت لاحقاً على دور في مسرحية في دار الأوبرا المحلية وورم كريك.

ولكن بالنسبة للوالد جين كان عيد ميلاد تارا الثالث عشر هو الأخير. ولا يعزى السبب لقيامها بفعل أغضبه ولكن لأنه حدث في وقت ما خلال شهر أيلول (سبتمبر) عام 1999 ووفق إعتقاده كان 31 كانون الأول – ديسمبر هو اليوم الأخير لكل الناس على هذا الكوكب. فهو لم يكن من المورمون فحسب ولكنه انتمى إلى طائفة متشددة منهم تعتقد بنهاية العالم الآزفة.

ووفق هوبس لا يوجد ما هو أسوأ من الأفراد المؤمنين بتنزل الوحي عليهم ولن يفيد أي نقاش في تغيير معتقدهم.

لم ينتهِ العالم مع إطلالة عام 2000 ورغم ذلك لم يغيّر جين من قناعاته. ولكنها إهتزت قليلاً ولذلك غادرت العائلة ايداهو لزيارة الجدة في أريزونا. وفي أثناء الرحلة إنزلقت الحافلة إلى حقل مجاور ولحسن الحظ نجا الجميع ولكن تارا عانت من إصابة بالغة وغابت عن الوعي لبعض الوقت. لم تتحرك مشاعر جين قيد أنملة وأصر أن الرب سيعالج تارا وليس الأطباء.

ولحسن الحظ تعافت تارا ونجت من الحادث بلا ضرر. ربما أحدثت مثل تلك الإصابات في الرأس تأثيراً بالغاً على سلوك أخيها شون الذي أساء معاملتها ومعاملة شقيقتيها. كان شون عنيفاً ومتعصباً كوالده ولطالما أيقظها من النوم وشدّها من شعرها. ولكن ما الذي يدعوه لفعل ذلك؟

بدأت تارا بوضع بعض مساحيق التجميل على وجهها والإلتقاء بشاب يدعى تشارلز في بعض الأحيان وهو ما اعتبره شأناً لا يليق بفتاة في الخامسة عشرة من العمر.

تشجعت تارا بعد نجاح أخيها تايلر وقررت في سن السادسة عشرة التقدم لامتحان “ا س ت” (AST) وهو الإمتحان المعياري المؤهل لدخول الجامعة في الولايات المتحدة على غرار امتحان السات (SAT).

ولكنها فشلت في المرة الأولى وحصلت على علامة 22 من أصل 27 علامة لازمة لدخول جامعة بريغام يونغ في يوتا وهي جامعة مملوكة بالكامل لكنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة أي المورمون.

وإذا أخذنا بعين الإعتبار ضحالة معرفتها بالرياضيات لم تكن تلك العلامة سيئة للغاية. وبعد تلقي المساعدة من والدتها التي درّستها بعض مبادئ الجبر تقدمت تارا للإمتحان مرة ثانية وحصلت على 28 درجة مما أهلها لدخول جامعة بريغام يونغ.

إعترض الوالد على ذلك وأخبرها أنه تلقى رؤية من الرب تقول إن تارا ستغضبه إذا التحقت بالجامعة. ولكنها أصرت وتوجهت قبيل بلوغها سن السابعة عشرة بقليل إلى الجامعة برفقة أمها المشجعة فاي.

وهنا عانت من الصدمات صدمة تلو أخرى. ومن ذلك ارتداء زميلتها في السكن لبنطال كتب عليه بعض الكلمات وامتناع زميلتها الأخرى عن التسوّق أيام السبت وبدت المحاضرات مخيفة ومرعبة.

بيل غيتس وتارا ستوفر خلال حوار بينهما

سجّلت تارا لمواد اللغة الإنجليزية والتاريخ الأميركي والحضارة الغربية والدين والموسيقى. لم تعانِ كثيراً في دراسة الدين والموسيقى، ولكن مادة الحضارة الغربية كانت بالنسبة لها أمثل بنظريات اينشتاين للإنسان العادي. لم تتمكن من فهم كلماتها وفي إحدى المرات وقفت تسأل أستاذها عن معنى كلمة هولوكوست.

ولكن عزيمة تارا لم تلِن وتابعت الدراسة بجد وإجتهاد وبعد بعض المصاعب الأولية تمكنت من التفوق في معظم المواد، بإستثناء مادة الحضارة الغربية بالطبع. ولم يوهن ذلك عزيمتها بل زادها إصراراً على مزيد من التحدي.

حضرت في البداية إلى الجامعة لدراسة الموسيقى ولكنها فُتنت بدراسة التاريخ والسياسة. لاحظ أساتذتها حماسها الشديد ونصحها أحدهم بالإلتحاق ببرنامج للدراسة في جامعة كامبريدج. تقدمت تارا للبرنامج وسرعان ما توجهت إلى كينغ كوليج في كامبريدج لدراسة مقرر جامعي للدكتور جوناثان ستينبيرغ.

لم تعرف حتى عهد قريب معنى كلمة هولوكوست وتقف الآن أمام ستينبيرغ الخبير في الهولوكوست ليقيّم كلماتها وأفكارها والذي استحسنها وأخبرها لاحقاً أن مقالتها كانت أفضل مقالة يقرأها على مدى تاريخه الطويل في التدريس. ونظراً لذلك وعدها بالمساندة في تقييم طلبها للدراسات العليا.

وهكذا حصلت تارا على منحة “غيتس” في جامعة كامبريدج لتصبح بذلك ثالث شخص من جامعة بريغام يونغ يحصل على تلك المنحة. أصبحت تارا شهيرة في ايداهو بعد التحاقها بكلية ترينتي العريقة وتلقت التقدير من كل من يعرفها باستثناء والدها جين وشقيقها شون.

كانت الأمور تسير على ما يرام عندما عادت تارا إلى بريطانيا لمتابعة الدراسات العليا. في هذه المرة، شعرت أنها مخلوق جديد يستطيع شرب القهوة وتذوّق النبيذ وقص حكايا تنشئتها الغريبة على مسامع الآخرين.

ولكن الأحوال في الوطن كانت كئيبة وغريبة. تعرض والدها لحادث سير كاد أن يودي بحياته وترك حروقاً بليغة على جسده ولكنه رفض تلقي المعالجة الطبية وبقي على قيد الحياة.

تلقت تارا رسالة من شقيقتها أودري التي أبلغتها عن عزمها مفاتحة والديها بتعنيف شقيقها شون. وقفت تارا إلى جانب شقيقتها وعادت إلى الوطن لتشهد معها.

ولكن جين وفاي لم يقتنعا بإدعات الشقيقتين بالرغم من تهديد شون لهما بالقتل. وكرر التهديد عبر الهاتف رغم حضنه لتارا بشكل استعراضي خلال نقاشه مع الوالدين.

وببساطة كان ميؤوساً منه حاله حال أبيه والتي علمت عبر إحدى مواد علم النفس التي درستها أنه يعاني من إضطراب ذي اتجاهين يزداد سوءاً مع تتالي الأيام.

افتتح جين وفاي خطاً لتصنيع الزيوت الطبية وهو المشروع الذي أغدق عليهم الكثير من المال وإنتباه الشركات الصيدلانية الكبرى وعرضت إحداها على جين ثلاثة ملايين دولار لشراء وصفاته ولكنه رفض العرض.

فتحت رحلة تارا إلى الوطن عينيها على حقيقة مثيرة: لقد أدركت أن هناك “تارتين” وليس تارا واحدة.

حاول والداها إستعادة روحها من بريطانيا وإلباسها في جسد تارا ذات الستة عشرة ربيعاً التي غادرت ايداهو يوماً ما، بينما حلقت روح تارا في أعالي جديدة وغريبة، أعالي الدكتوراه.

أدركت تارا أن النساء لسن أقل ذكاءاً من الرجال. تقول: “حملت كتبي معي إلى الغرفة وجلست أقرأ طوال الليل. أحببت صفحات ماري ولستون كرافت النارية وثمة سطر كتبه جون ستيوارت ميل. عندما قرأته حرك العالم: “إنه موضوع لا يمكن فصل القول فيه”. والموضوع الذي دار بخلد ميل هو طبيعة النساء. يدعي ميل أن النساء تعرضن للإزعاج والتملق والزج والسحق في سلسلة من التشويهات الإنثوية على مدى قرون عديدة لدرجة أصبح من المستحيل اليوم تعريف مقدراتهن وتطلعاتهن الطبيعية.”

أدركت الآن أنها تعرضت للكذب طوال حياتها فيما يخص أموراً كثيرة من المدارس إلى المستشفيات إلى الدين.

وبدأت بدراسة معتقد المورمون بحماسة أكبر وبعقلية مختلفة كلياً في هذه المرة وأدركت بالمقارنة مع العديد من الحركات الفكرية والدينية أن المورمونية كانت متطرفة إلى أبعد الحدود.

فازت تارا أثناء إجراء أبحاثها لرسالة الدكتوراه بمنحة زيارة لجامعة هارفرد ولكن والديها علما بالأمر وفوجئت بهما على باب غرفتها في السكن الجامعي.

تراءت لوالدها جين رؤية مفادها أن تارا خُطفت من قبل الشيطان ولا مناص لإنقاذها من قبول عفو والدها والعودة معه إلى بلدتهم الصغيرة.

تقول تارا: “كل ما عملته وكل سنوات دراستي كانت كي أشتري لنفسي هذا الإمتياز: أن أرى وأجرّب الحقائق بدلاً من الحقائق التي قدمها لي والدي وأن أستخدمها لبناء عقلي وفكري.” وتتابع: “بدأت بالإيمان أن المقدرة على تقييم الأفكار والتاريخ والكثير من وجهات النظر كانت جوهر معنى الخلق الذاتي. إذا استسلمت الآن فسأخسر ما هو أكثر من نقاش. سأخسر حضانتي لعقلي. وهذا هو الثمن الذي طُلب مني دفعه وبدأت أفهم ذلك الآن. لم يرغب والدي باستخراج الشيطان من جسدي ولكنه رغب في استخراج نفسي من ذاتي. وكان ذلك هو الثمن الذي رفضت دفعه”.

عانت تارا من إنهيار عصبي في أثناء ذلك وقضت أياماً تشاهد التلفاز من دون أن تفعل أي شيء آخر ولكنها نجحت في النهاية. فقد قررت ترك عائلتها واستكمال أطروحتها. وانتهى بها الأمر في يوم ليس بأفضل الأيام عندما نظرت إلى المرآة لتدرك أن ذاتها القديمة قد غادرتها بلا رجعة.

تقول تارا: “لم تكن القرارات التي اتخذتها بعد تلك اللحظة نفس القرارات التي كانت ستتخذها. كانت خيارات شخص متغير ونفس جديدة. يمكنك أن تسمي هذه الأنانية أشياء عدة: تحوّل أو إنسلاخ أو خيانة أو زيف ولكنني أسمّيها التعليم.”

صدر هذا الكتاب بتاريخ 20 شباط – فبراير عام 2018 وتربع على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في قائمة صحيفة “نيويورك تايمز” لأسابيع عدة. يقول بيل غيتس في مدوّنته “إن ما أثار إستغرابي ودهشتي في مذكرات تارا حصول إثنين من أشقائها على درجة الدكتوراه أيضاً”. ويضيف: “إن تواجد ثلاث شهادات دكتوراه في منزل تقليدي أمر غريب ناهيك عن منزل ريفي لم يُتح لأفراده الإنضمام إلى سلك التعليم النظامي واعتماد أفراده على التعلم الذاتي بسبب معتقدات الأبوين المتطرفة”. ويتابع: “ربما يعزى ذلك إلى تنشئتهم الغريبة والقاسية التي شحذت مداركهم وساعدتهم على الإستمرار. كان الوالد يردد على مسامع أبنائه أن بإمكانهم تعلّم أي شيء إذا رغبوا بذلك وما نجاح تارا إلا شهادة حية على وجهة نظره”.

المصدر: الميادين نت

Optimized by Optimole