النظام السياسي لدولة الإسلامية والحكم في عهد الفاروق عمر بن الخطاب

النظام السياسي لدولة الإسلامية والحكم في عهد الفاروق عمر بن الخطاب
Spread the love

قراءة في كتاب: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية – محمد سهيل طقوش”/
عبد اللطيف مشرف _
باحث دكتوراه مصري، صاحب عدة مؤلفات علمية، له عدة ابحاث محلية ودولية – مدير الوحدة السياسية والاستراتيجية لمركز المجدد لدراسات السياسية والفكرية.

كان عهد عمر بن الخطاب عهد فتوح –كما رأينا- حالف النصر فيه المسلمين، فامتدَّت رقعة دولتهم حتى جاورت أفغانستان والصين شرقًا، والأناضول وبحر قزوين شمالًا، وتونس غربًا، وبلاد النوبة جنوبًا، وكان لا بُدَّ لهذه الدولة المترامية الأطراف من تنظيمٍ حتى تستمر، وقُدِّر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكون رائد هذا التنظيم بما استوحى مِنْ نهج مَنْ سبقه؛ النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وربَّما طرأ على أوضاع المسلمين السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بفعل احتكاكهم الحضاريِّ بشعوب البلاد المفتوحة، ونموِّ الدولة بسرعةٍ مذهلة، فكان على حاكمها أن يُتابع هذا التطوُّر في النمو([1]).

التفت عمر رضي الله عنه -في بادئ الأمر- إلى تنظيم مركز القوَّة الدافعة في بلاد العرب، ثُمَّ عمل على توثيق الروابط بين أجزاء الدولة وتأكيد تضامنها، فإنَّ التطوُّر الذي طرأ على أجهزة الحكم في عهده يُعدُّ نقلة نوعيَّة في إطار بناء الدولة بما يتجاوز مفهوم العرب لها.

كانت الدلالة المباشرة للخلافة أنَّ الخليفة هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينتهج نهجه ويسلك مسلكه، ولعلَّ الماورديَّ كان الأكثر دقَّةً في تحديد المفهوم الإسلاميِّ لهذا الاصطلاح الذي تمَّ التداول به بين المسلمين بشكلٍ عفويٍّ: “الإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوَّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم في الأمَّة واجب الإجماع” ([2]).

الإطار العام لمؤسَّسة الدولة الإسلامية قبل عمر:

لم يُحدِّد النبيُّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ماهية الخلافة لا في الشكل ولا في المضمون، وهو الذي تولَّى هذا المنصب كرجل دولةٍ بالإضافة إلى سلطته كنبي. وهذا التغيير العمليُّ الذي طبَّقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الذي يختلف عن الأطر الجاهليَّة المعروفة عبر الانسجام المطلق في الصلاحيات، هو الذي حدَّد الإطار العامِّ لمؤسَّسة الدولة الإسلامية، وتُعدُّ هذه الممارسة المزدوجة من جانب النبيِّ صلى الله عليه سلم أوَّل ظاهرة في التاريخ ([3]).

حافظ أبو بكر الصديق على روحيَّة هذا الإطار العام إلَّا إنَّه أعطى الخلافة دورًا محدَّدًا، ومضمونًا خاصًّا اتَّضح في العهود اللاحقة، على الرغم من أنَّه لم يتمكَّن من أن يُعطي منصب الخلافة شخصيَّةً أكثر تفصيلًا؛ ذلك بفعل ولاية أبي بكرٍ رضي الله عنه القصيرة، وانهماك أبو بكرٍ في إخضاع المرتدِّين بالإضافة إلى الفتوح التي ابتدأت في عهده، وقد وقع عبء هذه المهمَّة بالضرورة على عاتق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي وجد نفسه أمام ظروفٍ مستجدَّة لا يُمكن تجاوزها، لا سيَّما في مجال حالاتٍ خاصَّةٍ ليست لها سابقةٌ لا في عصر الرسالة ولا في عهد سلفه، وقد دفعته إلى أن يتَّخذ صفةً تشريعيَّةُ –كذلك- لمعالجة المواقف الطارئة التي واجهت الحكم([4]).

شكَّلت هذه الازدواجية بين فكرة الخلافة بمفهومها الروحي وبين مؤسَّسة الدولة كنظامٍ سياسيٍّ، الخطوة الأولى في مسيرة الدولة الإسلاميَّة منذ عهد عمر بن الخطاب، والمعروف أنَّ النظام السياسيَّ يشمل: الفكر السياسي، والنظم السياسية بما فيها الدستور والحكومة المركزية، والحكومات الإقليميَّة والمحلية، والإدارة العامَّة، والوظائف الاقتصادية والاجتماعية للحكومة، والنظم السياسيَّة المقارنة، والأحزاب والجماعات والهيئات، ودور الفرد في الحكومة والرأي العام ([5]).

بعد هجرة النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وظهور نواة الدولة الإسلامية، تمثَّلت المبادئ الخاصَّة بها بمضمون الوثيقة التي حدَّدت قواعد السلوك الداخلي والتعايش بين فئات المجتمع المدني، ووضعت الأسس للعلاقات الخارجية، وعالجت شئون الحرب.

لكنَّ هذا النظام على الرغم من أنَّه لبَّى حاجةً ماسَّةً إليه في ذلك الوقت، وأحدث انقلابًا في قوانين التعامل الاجتماعي والعلاقات السياسية، فإنَّ هذا النظام ظلَّ لمدَّةٍ في النطاق الحجازيِّ دونما حاجةٍ إلى تطوير، وذلك في عصر الرسالة وعهد أبي بكرٍ رضي الله عنه الذي لم يكن بوسعه أن ينصرف عن إخضاع المرتدِّين ومواجهة الفرس والبيزنطيين، إلى تفصيل النظام الملائم للوضع الجديد في ظلِّ عدم تجانس المجتمع الإسلاميِّ الجديد؛ حيث لم تكن وحدة الدولة قد استقرَّت بعد ([6]).

تطوير عمر بن الخطاب لنظام الحكم:

بعد الانتشار الإسلاميِّ السريع في عهد عمر بن الخطاب والاحتكاك بشعوب البلاد المفتوحة التي تمتلك تجربةً في شئون الحكم والعلاقات السياسية، أضحى هذا النظام بحاجةٍ إلى تطويرٍ ليتماشى مع الظروف البيئية والاجتماعية والسياسية الجديدة، وهي في مضمونها استجابةٌ حتميَّةٌ لتحديَّات ما أفرزته الفتوح.

الواقع أنَّ نظام الحكم في عهد عمر رضي الله عنه هو استمرارٌ للأساس الذي قام عليه في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكرٍ رضي الله عنه من بعده، وهو أنَّ الخليفة يجمع في يده -من حيث المبدأ- السلطة المطلقة وفقًا لشروطٍ وأعرافٍ غير مكتوبة، غير أنَّ القرارات لم تأخذ طابعها الفرديِّ المحض، بل كان هناك ثلاثة أنواع من المجالس الاستشارية غير الرسمية، ولم تكن هذه المجالس يومئذٍ نطاقًا غايته الحدُّ من سلطان الخليفة، كما لم يكن لأصحاب الرأي الذين يُستشارون حقوقٌ يفرضونها عليه، بل كان الخليفة مطلق الصلاحية، وهو الذي يختار من يستشيرهم، ثُمَّ كان يُفاضل بين آرائهم فيأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء.

كان المهاجرون والأنصار هم أهل الرأي والمشورة في عهد النبيِّ؛ يلتفُّون من حوله ويستمعون منه ويُشيرون عليه ويسيرون معه، فلمَّا كان عهد أبي بكر رضي الله عنه انساح كثيرٌ منهم في العراق وفي بلاد الشام، وبقي بعض كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار إلى جانبه، واستمرُّوا في عهد عمر رضي الله عنه ([7]).

المجالس الاستشاريَّة في عهد عمر بن الخطاب:
أمَّا المجالس الاستشارية الثلاثة، فهي:
1- مجلس المهاجرين والأنصار:
يتشكَّل هذا المجلس من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من ذوي الخبرة والتجربة، فكانوا يُزوِّدون الخليفة بالنصيحة ويتناقشون معه في القضايا المهمَّة، فإذا طرأ أمرٌ يحتاج إلى التدبير كان أعضاء هذا المجلس يجتمعون، والمعروف أنَّ عامَّة المسلمين اعترفوا بتقدُّم المهاجرين والأنصار وأسبقيتهم، فكان اشتراك أعضاءٍ من كلا الجماعتين أمرًا حتميًّا، ومن أعضاء هذا المجلس: العبَّاس بن عبد المطلب، عثمان بن عفَّان، عليُّ بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، معاذ بن جبل، أُبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وتُعدُّ أحكام هذا المجالس كافيةً في شئون الحياة اليوميَّة العاديَّة.

2- مجلس العامَّة:

يتألَّف هذا المجلس من عامَّة المسلمين؛ المهاجرين والأنصار وزعماء البدو الوافدين على المدينة، فتُعرض عليهم القضايا المهمَّة على مستوى الأمَّة الإسلامية ويُناقشونها، أمَّا طريقة انعقاد المجلس فكان يُنادى الصلاة جامعة، وعندما يجتمع الناس يذهب عمر رضي الله عنه إلى المسجد النبويِّ -وهو المكان المخصَّص لانعقاد المجلس- فيُصلِّي ركعتين، ويصعد بعد الصلاة على المنبر ويُلقي خطبة، ثُمَّ يُقدِّم القضية التي تحتاج إلى النقاش والبحث.

نذكر من بين القضايا التي ناقشها هذا المجلس قضية توزيع أراضي البلاد المفتوحة كإقطاعٍ على أفراد الجيش، وقد افتتح عمر رضي الله عنه الجلسة بقوله: “إني لم أزعجكم إلَّا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم؛ فإنِّي واحدٌ كأحدكم، ولست أريد أن تتَّبعوا هذا الذي هواي”. استمرَّت جلسات المناقشة عدَّة أيام كان الناس يدلون برأيهم بحريَّةٍ وجرأة ([8])، وناقش هذا المجلس -كذلك- الوضع على الجبهة العراقية بعد مقتل أبي عبيد الثقفي؛ إذ همَّ الخليفة أن يذهب بنفسه، فقال العامَّة: “سر وسر بنا معك”. وأجمع الخاصَّةُ على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الجيش إلى العراق، ويبقى عمر بن الخطاب في المدينة يمدُّ هذا الرجل، عند ذلك جمع الناس وقال لهم: “يحقُّ للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإنِّي إنما كنت كرجلٍ منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم على الخروج، فقد رأيت أن أقيم، وأن أبعث رجلًا” ([9]).

عندما أراد عمر رضي الله عنه أن يذهب إلى بلاد الشام مع اشتداد وباء طاعون عمواس خرج من المدينة حتى إذا نزل بسرغٍ لقيه أمراء الجند فأخبروه بأنَّ الأرض سقيمة، وأنَّ فتك الطاعون شديد، فجمع المهاجرين الأوَّلِين واستشارهم فيما يفعل، أيتابع طريقه أم يعود أدراجه؟ فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بالخروج ومنهم من نصحه بالعودة، فجمع عند ذلك الأنصار واستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين، ثُمَّ جمع مهاجرة الفتح من قريشٍ فنصحوه بالعودة وقالوا له: “ارجع بالنَّاس، فإنَّه بلاءٌ وفناء”. فقرَّر عندئذٍ العودة، وأمر عبد الله بن عبَّاس أن يجمع النَّاس ليعرض عليهم قراره ([10]).

وهكذا كان الأمر فيما يتعلق بمرتَّبات الجند وترتيب الدواوين وتعيين العمَّال وحريَّة التجارة للأجانب وتحديد الضرائب عليها، وكثيرٌ من القضايا من هذا النوع عُرِضت على مجلس الشورى للاستئناس برأي أعضائه، ومِنْ ثَمَّ يتَّخذ الخليفة القرار المناسب ([11]).

روى أبو يوسف أنَّه “لما قَدِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيش العراق من قبل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، شاور أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في تدوين الدواوين، وكان قد اتَّبع رأي أبي بكرٍ في التسوية بين الناس، فلما جاء فتح العراق شاور الناس في التفضيل، ورأي أنَّه الرأي، فأشار بذلك عليه من رآه” ([12]).

3- مجلس المهاجرين:

وُجد في عهد عمر رضي الله عنه مجلسٌ آخرٌ مخصَّص لمناقشة الشئون الإداريَّة والمتطلبات اليوميَّة الخاصَّة الناتجة عن الفتوح، ولا يشترك فيه إلَّا المهاجرون من الصحابة. إنَّه مجلسٌ خاصٌّ كان عمر رضي الله عنه يعرض فيه الأخبار اليوميَّة التي كانت تصل إليه من الأقاليم والمراكز، وقد عُرضت على هذا المجلس مسألة فرض الجزية على المجوس ([13]).

الواقع أنَّ دولةً لها ذلك الاتساع وتلك الطاقات من الصعوبة أن تُدار من قبل شخصٍ واحدٍ مهما كان نشيطًا وملمًّا بمرافق الحياة، على الرغم من أنَّ مفهوم عمر رضي الله عنه لنظام الحكم المستمدِّ من النظريَّة الدينيَّة وعدم السماح بنشوء مراكز قوى داخليَّة، فإنَّ هذا الخليفة كان يميل إلى مناقشة القضايا المهمَّة مع كبار الصحابة، وقد اختار بعضهم ليكونوا لصيقين به حاضرين أمامه وجاهزين كلَّما احتاج إليهم للمناقشة[14].

تلك كانت صورة النظام السياسيِّ في عهد عمر رضي الله عنه؛ حيث تمتَّع هذا الخليفة بنفوذٍ رئيسٍ نابعٍ من خصوصيَّة مركزه الجامع لكافَّة الوظائف الدينيَّة والدنيويَّة التي فرضها القرآن الكريم، ولمـَّا كان الخليفة هو صاحب الرأي الأخير والقول.

المراجع:
[1] محمد سهيل طقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، ط2، دار النفائس، بيروت 2001، ص322.

[2] أبو يعلى الحنبلي، الأحكام السلطانية، تصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت 1403هـ، ص5.

[3] محمد سهيل: المرجع السابق، ص322

[4] المرجع نفسه: ص29

[5] عيسى، محمد خيري؛ وغالي، بطرس بطرس: المدخل في علم السياسة، مكتة الأنجلو المصرية، القاهرة 1998 ص4- 8.

[6] محمد سهيل: المرجع السابق، ص25.

[7] المرجع نفسه: ص 329-332.

[8] أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري، الخراج، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، سعد حسن محمد، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة 2010، ص 21-23.

[9] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: تاريخ الدول والملوك، تحقيق: محمد أبي الفضل، ط1، ج4، دار الكتب العلمية بيروت 1407هـ، ج4 ص123، 124.

[10] المصدر نفسه: ص58، 59.

[11] أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري: فتوح البلدان279، دار ومكتبة الهلال- بيروت 1988، ص435، 436.

[12]ابو يوسف: كتاب الخراج، المصدر السابق، ص24.

[13] المصدر نفسه: ص130.

[14] عبد اللطيف مشرف: كيف نحكم بالديمقراطية في ظل دولة إسلامية عصرية، دار طروس، الكويت – 2020، ص49.

Optimized by Optimole