لا تخبر البنفسج

Spread the love

بقلم: إليسار أحمد* |

_ اعتاد والدي أن يزرع زهرة بنفسجٍ على باب ورشته، كان دائم التفاؤل بها.. وكنتُ أنا دائمَ السؤال:
أتدرك زهرة البنفسج أنها مزروعة على باب ورشة لصناعة التوابيت ؟
وأن كل من التقوا بها.. كانوا قد التقوا بالفجيعة مسبقاً..!

————

_كانت الساعة التاسعة من مساء يوم الاثنين عندما بحتُ لك عن البنفسج.. أذكرُ ذلك اليوم جيداً ..
استيقظت يومها كالهارب من الفجيعة ، أكاد أقسم أن الصداع كان قاتلاً يجول في رأسي كقارع طبول أصمّ!
ارتديتُ قميصاً عشوائياً كما كل شيء حولي، ومضيت أهذي في الشوارع ألعن الحياة ومن فيها.
وعند ذلك المنعطف: جاء صوتك فجأة:
“لا تلعن الحياة.. سيلعنك الموتُ يا هذا..”
نظرتُ إليكِ نظرة خاطفة، ضحكتُ في سرّي ، ومضيت..
وددت يومها لو أستطيع إخبارك أن من مثلي لا يلعنهم الموت ، فكلّ جزء مني مدينٌ له، كيف لا.. وانا ابن صانع التوابيت الأشهر!
فإن كانت المجزرة تعني لك الفظاعة والبشاعة، كانت بالنسبة لي فائضاً من الأقلام و الأوراق وربطات العنق المنمّقة.
إنها علاقة خاصة، أن يؤمّن لك الموت حياةً أفضل..!
وددتُ إخبارك الكثير لكنني اكتفيت بمتابعة الطريق، وهمستُ لنفسي:
(بالله عليك ! حاول أن تفرّغ مكاناً في ذاكرتك ! وارسم ملامحها فيه! إنها المرة الثالثة التي تلتقي بها
وما زلت تتفاجأ يا رجل! ركّز!)

_أظنّ أن المرة الأولى رأيتك تفتحين باب محمصة البن وفي المرة الثانية أدركتُ أنك تعملين بها، وأدركتِ أنتِ أنني ذوّاق بنٍ رفيع المستوى!
حسناً وددت لو تعرفنا بغير طريقة أو لو أخذتِ عني فكرة أخرى كأني كاتب رفيع المستوى مثلاً!
لكن لا بأس..!
_لا يمكن للإنسان أن يواجه نفسه .. أيقنتُ هذا جيداً بعد محاولات عديدة تلوّنت بالفشل، أظن أنّي كنت في كل مرة أواجه قسماً محدداً بداخلي ، وحدكِ أنتِ من استطعتِ أن تجعلي مني كياناً واحداً، واجهتهِ بمفردك!
أنا الرجلُ الثلاثيني الذي يرى أن الانتماء مجرد شمّاعة نعلّق عليها خيباتنا ومحاولات الرحيل العقيمة، لا أدري كيف غدرت قدمايَ بي وأعلنت الانتماء لكِ! فتسوقني يومياً لأرمِي السلام على منعطفٍ مهجور ومحمصةٍ بائسة، فقط لأنها تحتويكِ!
لا أُخفيكِ، كنت قد كتبت الكثير من السيناريوهات في رأسي، وآلاف الرسائل، لكنني جبان .. كجميع أهل هذه البلاد.. لا تخيفنا الحرب.. لكن الحب أكبر مخاوفنا!
_ابنُ السابعة من العمر، كان يظنُ أن ملاك الموت شريك والده!
كل شيء يمكن أن يموت سوى صانع الموت، أليس كذلك؟
فكيف مات والدي ؟ لم أدرك تماماً حتى الآن:
أهي المشاعر من انتقم مني..؟ أم حقيقة الموت المحتمة؟
أذكرُ جيداً أنهم وضعوه في تابوتٍ غريب الشكل والرائحة، أخبرتنا أمي أنه كان قد اختاره بعنايةٍ وتفنن في صناعته فوضع فيه كل ما تعلمه من خبرةٍ وفن!
ومنذ ذلك اليوم، أفكر بشكل التابوت الخاص بي! علّه يكون مشابهاً لتابوت والدي .. نعم.. والدي الذي علّمنا أن نصنع التوابيت بعناية.. لكنه رحل قبل أن يعلّمنا كيف نصنع الحياة؟
الحياة؟ تلك التي قُلتِ لي ألّا ألعنها..
أي لعنةٍ هذه؟
أتوجد لعنة أكبر من الذكريات؟
فالحياة فعلياً: حصيلة الذكريات التي لا نذكرها
“”كلما نسينا..حييّنا
تعثرتُ في طريقي، فصحوتُ من أفكاري، وتذكرتكِ فابتسمت!
قررت عندها أن أعود أدراجي إليكِ والتقينا عند التاسعة مساءَ يوم الاثنين ذاك، أخبرتك عن والدي، وعن ملاك الموت الخائن الذي قتل شريكه!
أخبرتكِ عن زهرة البنفسج، وأن إخوتي توارثوا زراعته بالقرب من الباب سنةً تلو الأخرى! كما توارثوا صناعة التوابيت.. !
وعن سؤالي.. الذي كبر معي.. وشاب شعره قبل أن يشبّ:
هل يدرك البنفسج أنه يقيم بجانب عتبة تشاركت خشبها مع التوابيت؟ وأن رائحة الموتى تطغى عليه؟ ألا يتمنى أن يغادر هذا المكان الذي توارثَهُ بغير حقّ!
ألا يجب على أحدنا أن يخبره بهذه الحقيقة؟
ألن يحاول اقتلاع نفسه والهرب؟
_وها نحنُ ذا وبعد سنوات عدّة، أصبح فيها من الصعب عدّ اللقاءات بيننا، ها أنا هنا.. ألعن الموت هذه المرة .. وأنتمي إلى رحيلك الأبديّ الآن، أقاسم الفجيعة كأسها، وأُعلن انتصار التوابيت..
جاء صوتك للمرة الأخيرة:
أرجوك .. لا تخبر البنفسج..!

*كاتبة وإعلامية سورية.

Optimized by Optimole