هل الانسحاب الأميركي من سوريا توريط لتركيا؟

Spread the love

توفيق المديني

لا يزال إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا وجدوله الزمني، يثير جدلاً ساخنًا لدى معظم المحللين المتابعين لتطورات الأحداث في إقليم الشرق الأوسط،بسبب الغموض الذي يكتنف  هذا الانسحاب المفاجىء أولاً، وبسبب مسألة من الذي ستنقل إليه السيطرة على المناطق التي يتركها الأميركيون لملء الفراغ، ثانيًا؟

لماذا كل هذا التشكيك المثار بشأن الانسحاب الأميركي والجدول الزمني لخروج القوات الأميركية من سوريا، فضلا عمّا إذا كان ذلك سيتيح المجال لاستمرار الأميركيين في ضرباتهم الجوية أو تنفيذهم عمليات برية محدودة انطلاقا من نقاط تمركز واقعة خارج سوريا؟ لأنّ المسؤولين الأميركيين يشيرون إلى أن مغادرة جيشهم المحتل لجزء من الأراضي السورية لا تعني إنهاء نشاط التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.. ولا يطلق هؤلاء المسؤولون تصريحات دقيقة وواضحة عن استراتيجية بلادهم، بل يقتصرون على تلميحات حذرة وصياغات غامضة وملتوية جدا تتحدث عن الانتقال إلى مرحلة جديدة من محاربة الإرهاب.

خلفيات الإنسحاب الأميركي وأسبابة الحقيقية

بعيدًا عن التساؤلات المثارة حول جدية انسحاب القوات الأميركية من سوريا من قبل المحللين ،فإنّ الانسحاب الأميركي من سوريا الذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب يوم الإربعاء 21كانون الأول/ديسمبر2018، يقرأه البعض بأنّه ناجم عن الانتصارات العسكرية التي يحققها الجيش العربي السوري و حلفاؤه في الميدان،إضافة إلى يقين الرئيس ترامب نفسه بهزيمة الاستراتيجية الأميركية في تقسيم سوريا على أسس طائفية ومذهبية وعرقية بين كيانات متناحرة ،يستنزف بعضها بعضًا،ولا يمكن لأي منها الانتصار والهيمنة، بما يخفض أي حجم تهديد للكيان الصهيوني،ويبقي جميع الأطراف الإقليمية تدور في مدار البحث عن رضا الولايات المتحدة ودعمها.والحال هذه، يبدوانسحاب واشنطن من سوريا بمنزلة هروب أميركي تحاول من خلاله واشنطن حفظ ماء وجهها.

فالولايات المتحدة الأميركية المنخرطة في الحرب العدوانية على الدولة الوطنية السورية طيلة السنوات السبع الماضية،تلقت  هزيمة “استراتيجية” جديدة في جنوب شرق سوريا، وقد تكررت هزائمها مؤخرا بمناطق عدة من مثلث الحدود العراقية السورية وصولا لعمليات الجيش العربي السوري وحلفائه بعمق البادية السورية تزامنًا مع ترقب توسع عملياته شرق وغرب دير الزور.‏ وهاهي اليوم الدولة الوطنية السورية التي صمدت في هذه الحرب الضروس تسير بخطوات سريعة نحوإعلان نصرها الكبير على هذه الحرب العدوانية،وفشل ‏الاستراتيجية الأميركية حيال سوريا. فالانتصارات المتلاحقة التي حققها الجيش السوري وتمكن عبرها من تحرير أغلب المناطق من ربق الإرهاب، ستجعله يتوجه صوب الشمال الشرقي عاجلا أم آجلا، الأمر الذي يجعل التحالف الأميركي في مواجهة مباشرة مع كل من سوريا وحلفائها الروس والإيرانيين، مما قد يفضي إلى إشعال منطقة الشرق الأوسط برمتها واستنزاف أميركا بشريًا وماديًا وعسكريًا.

قرار الانسحاب الأميركي من سوريا ليس مراوغة أميركية، بل هو ينسجم مع ما أعلنه الرئيس ترامب في برنامجه الانتخابي الذي أبدى به رغبة في إنهاء الحروب الأميركية في المنطقة، بعد تيقنه أنّ الإمبريالية الأميركية التي أنفقت سبعة تريليونات دولار في حروبها بالشرق الأوسط التي ابتدأتها منذ سنة 2001 ،لم تحقق نصرًا استراتيجيًا، لا بل هي  تحصد الشوك في مغامراتها الطويلة،الأمر الذي جعل  الرئيس الأميركي ترامب يقول،يجب توجيه الانفاق الأميركي في المستقبل لخلق وظائف وبناء بنية تحتية في أميركا.وقد أكد ترامب هذا التوجه بقراره المتضمن تقليص الوجود العسكري الأميركي إلى النصف في أفغانستان.‏

فقرارترامب بالانسحاب من سوريا ،يتعارض مع أركان إدارته وقيادات الكونغرس، ومع مواقف الرؤوس الحامية في البنتاغون والأجهزة الاستخباراتية التي تريد إبقاء القوات الأميركية في سوريا من أجل منع تنظيمي “داعش” و”القاعدة” من العودة، ولحرمان إيران من فرصة “تعزيز موقعها في سوريا”.وتعيش مؤسسة الحكم الأميركية صراعًا حقيقيًا بين الدولة العميقة ممثلة بالأجهزة الأمنية (وكالة الاستخبارات الأميركية) ووزارة الدفاع  (البنتاغون)،وبين الدولة الترامبية ممثلة النزعة الشعبوية –القومية،في نطاق  رؤية كل طرف للأزمة السورية، وآفاق تسويتها.

وبينما كان قرار ترامب متناغمًا مع استراتيجية الانسحاب أو تخفيف الوجود في الشرق الأوسط، للتركيز على مواجهة الصين، فإنّه لم يحظ بالتوافق مع “المؤسسة” الأميركية، بل أثار الدهشة والاستغراب في أغلب الأروقة الدولية فضلاً عن الكثير من المستشارين المقربين منه، حيث أفضى هذا القرار إلى استقالة كل من وزير الدفاع جيم ماتيس والمبعوث الأميركي الخاص لدى التحالف الدولي المناهض لداعش بريت ماك غوريك.

التفاهم الأميركي-التركي لملء الفراغ

قبل عشرة أيام من إعلان ترامب قرار الانسحاب الأميركي،أعلن المبعوث الأميركي لدى التحالف الدولي المزعوم لمناهضة تنظيم “داعش” المستقيل بريت ماكجورك، أن القوات الأميركية كانت تزمع على البقاء في سوريا، إضافة إلى ذلك فقد أعلن مستشار الأمن القومي جون بولتون قبل ثلاثة أشهر فقط عن توسيع الأهداف العسكرية الأميركية في سوريا، في حين قرر ترامب فجأة سحب القوات الأميركية )الموجودة دون أي تفويض من الأمم المتحدة)، فقدبدا تبرير الرئيس الأميركي بأنّ المهمة انتهت مع هزيمة “داعش”،واهية لمعظم الأوساط، إذ إنّ التنظيم ما زال يحتفظ بما بين 20 ألفاً و30 ألف مقاتل، بحسب التقديرات.وكانت وزارة الدفاع الأميركية وعدت الإرهابيين، ومعظمهم من عناصر داعش، الموجودين في المناطق الغنية بالنفط والغاز في دير الزور بتزويدهم بالأسلحة والذخائر اللازمة، وذهب البنتاغون أبعد من ذلك، فأرسل مئات الإرهابيين إلى ليبيا وصحراء سيناء لإعادة تنظيم الإرهابيين الهاربين إلى شمال إفريقيا وإعادة قسم منهم إلى المنطقة.‏ على أن الاستراتيجية المباشرة لأميركا في المنطقة قد موهت الخندق، فهل القرار الأميركي هو خدمة لتركيا التي تبدو المستفيد الرئيس من الانسحاب الأميركي؟‏

ما نشرته (واشنطن بوست) بخصوص قرار الانسحاب وخلفياته يأتي متناغماً مع ما نشرته صحيفة”حرييت ” التركية،صباح الجمعة 21كانون الأول/ديسمبر2018،عن مضمون المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين التركي والأميركي قبل أيام من إعلان قرار الانسحاب الأميركي من سوريا،حيث وعد رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، بأن تركيا ستتحمل مسؤولية إنهاء “داعش” إذا انسحبت الولايات المتحدة من سوريا، حسبما قال مسؤول كبير في البيت الأبيض لشبكة “إن بي سي نيوز”.

وكانت واشنطن وافقت منذ بضع أيام على عقد صفقة مع تركيا لبيعها منظومة “باتريوت” للدفاع الجوي والصاروخي، بقيمة 3.5 مليارات دولار.‏ والمقرر أن يستخدم نظام أردوغان منظومة باتريوت من أجل تطوير قدراته الجوية والصاروخية، وخصوصاً بعدما أعلنت تركيا عن نيتها شن عدوان جديد على شرق الفرات.‏غير أنّ صفقة بيع صواريخ باتريوت لم تتم بعد، وكل ما حصل هو موافقة الخارجية الأميركية في انتظار موافقة الكونجرس، وهو ما قد يتم وقد لا يتم، فضلاً عن أنها ليست بديلاً عن صفقة  “S400” الروسية كما يؤكد الأتراك.

الولايات المتحدة مهتمة بالتأكيد بما سيحصل بعد انسحاب قواتها، وبالتالي تبحث عمن يحفظ ما يمكن حفظه من مصالحها. وتركيا هي أقرب اللاعبين المتواجدين على الأراضي السورية لها (مقارنة مع روسيا وإيران)، باعتبارها عضواً في الناتو وشريكاً استراتيجياً لها. ويضاف لذلك، إثبات أنقرة لنفسها في الملف السوري مؤخراً، وخصوصاً عبر العمليات العسكرية، ورغبة واشنطن في التنسيق معها لضبط ردة فعلها تجاه قوات سوريا الديمقراطية”قسد “.

من وجهة نظر استراتيجية،يرى المحللون أن الولايات المتحدة الأميركية وتركيا حليفتان وشريكتان في حلف الناتو،لذا يستحيل أن تضحي واشنطن بعلاقتها مع تركيا كي تدافع عن “قسد”  التي تعتبر أداة من أدوات أميركا التي ترميهم عند انتهاء صلاحيتهم .‏وإذا ربطنا بين توقيت الانسحاب ،وبين المحادثة قبل أيام والتي أجراها ترامب مع أردوغان بشأن العملية العسكرية المحتملة لتركيا في شرق الفرات لطرد ما تبقى من الإرهابيين في منطقة نفوذ القوات الأميركية ،وقد أعلن أردوغان أنّه حصل على جواب إيجابي من الرئيس ترامب حول الموضوع ،فإنّنا نخلص إلى وجود ثمة تفاهم أو تخادم بين الطرفين ،وهذا التفاهم ترجمه ترامب بقرار الانسحاب وإعطاء الضوء الأخضر لتركيا لملء الفراغ وشن العملية المرتقبة شرق الفرات وحتى منبج ،وهذا التفاهم يندرج في إطار عملية استعادة الحليف التركي إلى الحظيرة الأميركية وإعادة توظيف الدورالتركي في الشق السياسي بالضدّ من روسيا وايران،والحصول على مكاسب سياسية في الحلّ السياسي ومخرجات اللجنة الدستورية .

ويرى مراقبون أن هدف واشنطن الرئيسي من الانسحاب فك تركيا من الحلف مع روسيا وإيران بعد أن بات هذا الحلف أهم أسباب تراجع الهيمنة الأميركية في المنطقة عموماً، فتركيا مهمة جداً بالنسبة لجميع اللاعبين العالميين الرئيسيين،ولا تستطيع الولايات المتحدة تحمّل خسارة تركيا نهائياً واستمرار تعمق علاقاتها مع روسيا وإيران في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، فالخلاف التركي – الأميركي كان لصالح روسيا، ووصل إلى حدود إدخال الأسلحة الروسية المتمثلة بمنظومة الدفاع الجوي “إس “400 إلى مناطق حلف شمال الأطلسي في تركيا.‏

ويرى المحللون أنّ الولايات المتحدة  تعمل على إخراج تركيا من الحلف الثلاثي مع روسيا وإيران، من خلال تقديم إغراءات أكبر من تلك التي قدمتها روسيا لتركيا،وإن كان ذلك على حساب التواجد الأميركي ذاته،إذ إنّ المخطط الأميركي  يوحي بتسهيل دخول قوات النظام التركي والفصائل الارهابية التابعة لتركيا إلى كامل منطقة شرق الفرات السوري، لأن فلول تنظيم “داعش” باتت تتواجد في بلدة هجين ومحيطها بريف دير الزور (أي في أبعد نقطة عن الحدود التركية-السورية)،ما يعني بأن تصبح منطقة شرق الفرات بشكلٍ كامل تحت النفوذ التركي.‏ هذه التطورات التي تسلط الضوء على اسباب انسحاب واشنطن المهزومة جاءت مع اعلان وزير حرب النظام التركي خلوصي أكار أن الاستعدادات للعدوان على مناطق شرق الفرات قد اكتملت.‏

ما من شك بأن عدوان النظام التركي على منطقة عفرين قد أفرز واقعًا جديدًا في الشمال السوري نجم عنه خلافات أميركية تركية نتيجة الدعم الذي تقدمه للجماعات الكردية الانفصالية التي تصنفها أنقرة بالإرهابية،ودفع إلى نوع من التوتر في العلاقات بين حليفي الناتو جعل من أنقرة على حافة التفكير بالانسحاب من الحلف الأطلسي مع ما يعنيه ذلك من خسارة الغرب لدولة مهمة في الشرق. ثاني قوة عسكرية في الناتوـ لطالما استخدمت كرأس حربة في المواجهة الطويلة مع الاتحاد السوفيتي وتاليًا مع روسيا. ولذلك فإنّ الانسحاب الأميركي من شرق الفرات سيشجع نظام أردوغان للاندفاع باتجاه ملء الفراغ الأميركي ومطاردة خصومه الأكراد في منطقة استراتيجية حيوية لن تقف سوريا مكتوفة الأيدي إزاء التمدد التركي فيها مع معرفتها بأطماعه ونواياه.

وهكذا تختلط الأوراق من جديد فتنتقل المواجهة التي كانت على وشك الوقوع بين أميركا وتركيا بسبب المجموعات الكردية،إلى مواجهة أخرى محتملة بين أنقرة وأعداء واشنطن بسبب الأطماع التركية في سوريا، فالأميركيون بالأصل لا تعنيهم مصالح الأكراد ولا طموحاتهم، ولم يكونوا بالنسبة لهم سوى أداة داعشية لتقسيم سوريا بعد انهيار تنظيم “داعش” الإرهابي على يد الجيش العربي السوري وحلفائه.‏وبالتالي فإنّ الذَّريعة التي استخدمها ترامب لتبريرالانسحاب لا علاقة لها بالواقع أي انتهاء مهمة القوات الأميركية وتمكنها من هزيمة داعش، ولو كان الأمر لواشنطن لاستمرت الحرب مع التنظيم لعشر سنوات قادمة إن لم يكن أكثر،ولعلّ الأسرار التي كشفتها موسكو حول العلاقة المريبة بين واشنطن والتنظيم الإرهابي والصفقات التي تمت بينهما في الرقة تكفي لدحض أي ادعاء أميركي في هذا المجال.

فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي أن القوات التركية ستدخل مدينة منبج السورية، لطرد وحدات حماية الشعب الكردية من مراكزها في شرق الفرات، حيث أصبحت تشكل كيانًا خاصًا، ويتكون من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي باتت تسيطر على نحو25في المئة من مساحة سورية، وله مؤسسات وهياكل أمنية وعسكرية برعاية أميركية في هذه المناطق.وتشكل وحدات حماية الشعب الكردية العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، وهي تحالف كردي عربي مدعوم من الولايات المتحدة يخوض معارك ضد تنظيم “داعش” في شرق سوريا. فعلى  مدى السنوات القليلة الأخيرة، تُشكِّلُ مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي أولوية تركيا في مقاربة القضية السورية، لعلاقته العضوية مع حزب العمال الكردستاني المنظمة التي تخوض ضدها حرباً انفصالية منذ 1984، ومصنفة بسبب ذلك على قوائمها للمنظمات الإرهابية، وخوفاً من تحول مناطق نفوذه وسيطرته إلى منصة لإطلاق عمليات ضد أراضيها على غرار معسكرات جبال قنديل في العراق، فضلاً عن ارتدادات ذلك السلبية على ملفها الكردي الداخلي.

كان المشروع في أصله يقوم على وصل الكانتونات/ المناطق الثلاث التي يسيطر عليها الحزب وأذرعه العسكرية في الشرق والغرب، بل والوصول لمياه المتوسط، لتأسيس الكيان السياسي المنشود. قطعت أنقرة عبر عملية “درع الفرات” التواصل الجغرافي بين الشرق والغرب، ثم قضت على سيطرة “وحدات حماية الشعب”الكردية  على عفرين من خلال عملية “غصن الزيتون”. وهكذا، بقيت في يد الحزب مناطق واسعة شرق نهر الفرات، من خلال قوات سوريا الديمقراطية “قسد”،ترى أنقرة أن مناطق شرق الفرات هي الأساس في مشروع حزب الاتحاد، وأنها الأخطر والأهم من منظور أمنها القومي، ولذلك فهي تهدد منذ فترة بإطلاق عملية عسكرية واسعة واسعة ضد القوات الكردية في تلك المناطق، الأمر الذي سيشكل تغلغلا تركيًا  لشرق الفرات.

سيناريوالهجوم العسكري التركي على منبج السورية

يجمع المحللون في المنطقة أنّ الخاسر الأول من القرارالأميركي هم أكراد سوريا، الذين رهنوا وجودهم وحاضرهم ومستقبلهم بالتحالف مع الولايات المتحدة، ولذلك أصبحوا الان في حالة من الهلع والصدمة من جهة، والبحث عن بدائل من جهة أخرى. فترك القوات الأميركية قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لوحدها هو مصلحة حقيقية لتركيا، وفرصة ذهبية لها بالتأكيد، لكن ذلك لا يعني أنها مكاسب خالصة دون تحديات أو عقبات.

ومرّة أخرى يشم الأكراد رائحة الخيانة لهم ولطموحاتهم، ويبدو أنهم أخذوا يعانون من ذات شعور الإحباط الذي تعرض له أخوتهم في العراق بعد أن استعادت القوات العراقية محافظة كركوك قبل 14 شهراً ما أدّى إلى تقليص المساحة الخاضعة للأكراد. وهكذا، فإن ما سيحدث للأكراد هو سؤال مفتوح، ففي حال قيام أردوغان بتنفيذ تهديده، وشن حملة على الأكراد، الذين يتراوح عدد مقاتليهم ما بين 30 ألف مقاتل إلى 60 ألفا، فليس  على الأكراد  اليوم سوى الإسراع، ومن دون مماطلة، وفي غضون أسابيع وليس أشهر، أن يحسموا أمرهم ويسلكوا واحدا من طريقين: إما انتظار الجحافل التركية المتحفزة للمنازلة الكبرى مع “الكيان الإرهابي”… وإما فتح الأبواب لعودة الدولة الوطنية السورية إلى مناطقهم ،وهذا يعني التخلي عن حلم الاستقلال عن بقية سوريا ، والوصول إلى تسوية مع دمشق، تسرع في نشر الجيش العربي السوري في منبج وشرق الفرات، برعاية روسية، تنجيهم من “حمى الحسم” التي ترتفع حرارتها في صدور الأتراك.

والحال هذه،تقتضي مصلحة”قسد”الحقيقية بعدإعلان الانسحاب الأميركي من سوريا الابتعاد عن لغة الخطابات والتصريحات المتناقضة، لجهة توجيه دعوات للجيش العربي السوري والدولة السورية للدفاع عنها واللجوء الى الحضن السوري الذي لا يتخلى عن أبنائه والاندماج ضمن صفوف الجيش العربي السوري، ووقتها فإنّ النظام التركي سيضطر لسحب الذرائع التي يتذرع بها لتبرير عدوانه على شرق الفرات ،وسيتم سحب البساط من تحت واشنطن وتحرير”قسد “نفسها من التبعية لها.

تشير تقارير المراقبين أنّ د مدينة منبج الواقعة في الريف الشمالي الشرقي لحلب، شمالي سوريا ،والتي تسكنها أكثريةعربية(80في المئة) ،وتخضع لسيطرة مليشيات “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تشكل العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وتصنّفها أنقرة تنظيماً إرهابياً، تشهدسباقاً لتعزيز الجبهات حولها، تمهيداً لهجوم عسكري تركي بمساندة من التنظيمات الإرهابية الموالية لتركيالا سيما ما يسمى  “الجيش السوري الحر”.

وفي سياق هذه التعزيزات والحشود العسكرية، دخل رتل عسكري من الجيش التركي، مساء اليوم الثلاثاء الماضي ، إلى منطقة عون الدادات، شمال غرب منبج، بالتزامن مع وصول تعزيزات عسكرية لفصائل إرهابية من “الجيش السوري الحر” المتمركز في منطقة عملية “درع الفرات”، شمال وشمال شرق حلب، إلى النقاط المواجهة لمنبج، شمال شرق الباب وجنوب جرابلس.كما يحلق الطيران التركي بكثافة في سماء المدينة،ولم تعلن تركيا رسميا عن بدء العمليات العسكرية، لكن كل الدلائل على الأرض تشير إلى اقتراب الإعلان عن بدء الهجوم العسكري  التركي.

وعلى جانب آخر، نقل موقع “سبوتنيك” الروسي عن مصادر عسكرية، لم يسمها، أن الجيش  العربي السوري تسلم مواقع في بلدة العريمة في ريف منبج الغربي، وعودة مركز التنسيق الروسي إلى البلدة. ولا تزال منبج تشهد تواجدا عسكريا أميركيا إلا أن واشنطن ستنسحب من سوريا .. وبحسب وكالة”الأناضول” التركية، فإنه من المتوقع أن يكون للفصائل الإرهابية من”الجيش الحر”(حوالي 8000مقاتل)دور كبير في عملية تركية محتملة على مدينة منبج الخاضعة لسيطرة قوات كردية معادية لتركيا، شرقي حلب. “.وسبق أن هددت تركيا بقرب شن عملية عسكرية في منبج، الأمر الذي يبدو أنه تأجل بعد إعلان الانسحاب الأميركي من سوريا، إلا أنه يفتح المجال بشكل أكبر لبدء الحملة التركية ضد القوات الكردية المسلحة المعادية لها.

لا شك أن نظام أردوغان الإخواني وشريك الولايات المتحدة في الحرب الإرهابية الكونية على سوريا قد انكفأ-تأجيلاً لا إلغاء -عن خطة العدوان على مناطق شـرق الفرات، إلا أنّ أيّ تطورات سلبية تُؤدي لتراجع ترامب عن قراره،لن تَحمل سوى المزيد من المتاعب والتحديات له ولمُعسكر أدواته.‏ كما أنّ الجيش العربي السوري الذي حقق انتصارات كبيرة على القوى الإرهابية والتكفيرية وداعميها ،ومشغليها،خلال السنة المنقضية 2018، لن يقف مكتوفي الأيدي تجاه العدوان التركي على شرق الفرات.وسواء وجد قرار ترامب طريقه للتنفيذ أم جرى الالتفاف عليه بإعطاء تركيا الضوء الأخضر لمَلء ما يُقال أنه فراغ لا ينبغي أن تتركه واشنطن لخصومها، فإنّ ما يَرقى لمُستوى اليقين أن الجيش العربي السوري مصمم على تحرير كل تراب الجمهورية العربية السورية من رجس الإرهاب، وطرد المحتلين من الأميركان والأتراك.

وتعمل الدولة الوطنية السورية على استعادة مدينة منبج، في ظل أنباء عن مفاوضات بدأت بينها وبين”قسد”لتسليم مناطق تسيطر عليها لقوات الجيش العربي السوري،في صفقة يبدو أنها تطبخ على مهل، في محاولة لتجنب عملية عسكرية واسعة النطاق من قبل الجيش التركي والفصائل الإرهابية المرتبطة به، تُخرج “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تعتبر العمود الفقري لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، من معادلة الصراع على سوريا.

الخاتمة:

الأكراد يخطؤون دائما حين يتحالفون مع الولايات المتحدة الأميركية التي وسّعت أسباب بقائها في سوريا من خلال ربط بقاء قوّاتها بمسألتي خروج الإيرانيين من سوريا، والإشراف على شكل النظام السياسي المستقبلي في البلاد،غير أن المسألتين  تدخلان القوات الكردية في صراع مع إيران، وهوما يعدّخطأً استراتيجياً فادحاً، أويتم استخدامها في التضييق على الروس في شرق الفرات، وهو أمرٌ جالب للمتاعب، وربما يفوق قدراتها وإمكاناتها، إذ قد يؤدي الصراع الروسي الأميركي على سوريا إلى مواجهة روسيّة كرديّة مكشوفة.

لذا من الضروري على ” قسد ” أن تقوم بقلب الطاولة على رأس الناتو، متحصنة بالشرعية الوطنية السورية التي ستوفرها دمشق وحلفاؤها ، موضحة أن تنظيم “داعش” الإرهابي هو أول المستفيدين من التصعيد التركي شرق الفرات، فكلما ضاق الخناق عليه، ترمي له تركيا وواشنطن بحبل النجاة لافتين إلى أنّ رئيس النظام التركي هو أكبر المستفيدين من العدوان على شرق الفرات وذلك من خلال تصدير أزمته الداخلية للخارج، حيث تعاني تركيا وضعاً اقتصادياً حرجاً، إضافة إلى تزايد التقارير الغربية عن انتهاكات لحقوق الإنسان وقمع للحريات في البلاد، وعن التعذيب في السجون التركية.‏ وكذلك واشنطن مستفيدة من العدوان من خلال محاولتها تأمين غطاء دولي يضفي شرعية مفقودة على وجود قواتها الغازية على الأراضي السورية عبر تسويقها لأكذوبة ما تسمى قوة حفظ سلام تفصل بين جهتين متحاربتين، وبالتالي، إطالة أمد الحرب في سوريا وتعطيل حل الأزمة في سوريا.

هناك شبه إجماع لدى المحللين أن الهجوم العسكري التركي  سوف يكون محدودًا، وليس هجومًا واسعًا على غرار “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. وحتى بعد الانسحاب الأميركي إن تم، لا يتوقع المحللون انتشار القوات التركية على امتداد مناطق شرق الفرات التي تقدر بحوالي ثلث الأراضي السورية. سيكون مطمئناً لتركيا أن تضبط بعض البلدات الحدودية، مثل تل أبيض وعين العرب، ضمن شريط حدودي آمن، بإخراج قوات سوريا الديمقراطية منها، مع توجيه ضربات محددة على أهداف عسكرية تابعة لها لتقويض سيطرتها ونفوذها.

أخيراً، ثمة تساؤل مهم بخصوص نظرة تركيا لرغبة الدولة الوطنية السورية في بسط سيطرتها على مناطق شرق الفرات، حيث لا شك في أن ذلك يخدم فكرة وحدة الأراضي السورية ويقلل من مخاطر التقسيم والفدرلة، وبالتالي يصب في صالح أهداف تركيا في مواجهة المشروع الانفصالي للمليشيات الكردية .ويدرك نظام أردوغان أن الحضور الميداني هو الورقة الأفضل على طاولة التفاوض بخصوص مستقبل سوريا، ويدرك أيضاً أن سيطرة الجيش العربي السوري على شرق الفرات سيعني طرح تساؤلات ومطالبات حول الوجود التركي لبعض الأراضي السورية.

وعليه، فإنّ فكرة التنسيق والتقاسم مع روسيا، وبدرجة أقل إيران، تبدو أكثر حضوراً وقبولاً بالنسبة لأنقرة،وأقرب للحفاظ على إطار أستانا. ومع ذلك فإنّ الإعلان عن الانسحاب الأميركي من سوريا هو هزيمة لواشنطن، ولكن ربما ليست كبيرة بالنسبة للأميركيين الذين لم يخوضوا قط حرباً مع قواتهم الخاصة منذ حرب الخليج الثانية، مفضلين العمل دائماً في الظل أكثر ودفع الحلفاء للقيام بمهماتهم، بدءاً من فرنسا وبريطانيا، أوالسعودية والإمارات، وتذهب تحليلات إلى احتمالية استبدال القوات الإماراتية والسعودية بالقوات الأميركية..!‏ ربما هذا هو الفخ الذي نصبه ترامب لتركيا، باستبدال قواته في سوريا بالجيش السعودي أو الإماراتي إلى جانب أردوغان، وهما اللتان تعتديان على اليمن، بهدف خوض حرب استنزاف ضد محور المقاومة؟!‏

لكن الدولة الوطنية السورية واعية جيدًا لهذا السيناريو،ولن تقبل بأن تحلَّ قوة إقليمية معادية كتركيا أوسعودية وإماراتيه ،مكان قوة عظمى مثل أميركا في منطقة حيوية من الجغرافيا السورية غنية بالثروات والموارد والقوة البشرية، حيث تتمركز القوات الأميركية، بشكل دائم أو مؤقت، في المنطقة التي تمثل الرئة الزراعية لسوريا ومصدر الطاقة النفطية و الغازية  لها حيث كانت أميركا تعول على حرمان الدولة الوطنية السورية من استثمار مواردها في عملية إعادة الإعمار،كما يرون بأن انتصاراً غير مكتمل للجيش السوري سيجعل السيادة السورية تخضع للابتزاز الغربي، لكن تلك الاستراتيجية منيت بالفشل الذريع.‏وتحتوي الأراضي السورية على حقول نفطية مهمة،وقع بعضها خلال الحرب التي شهدتها سوريا تحت سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي، وكذلك ما يعرف  ب”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وتأثر القطاع النفطي بالأحداث الجارية منذ عام 2011، وبلغت خسائره أكثر من 62 مليار دولار، بحسب بيانات وزارة النفط السورية. وكانت سوريا تنتج قبل الحرب حوالي 380 ألف برميل يوميا، ولم تعدالآن تنتج  سوى بضعة آلاف من البراميل يوميا ،إثر تراجع إنتاج النفط.

‏ أخيرًا،تقول بعض المصادر المقربة من الوسيط الروسي،أنه حصل اتفاق روسي تركي بمباركةإيرانية ولمسات أميركية وحنكة من الدولة الوطنية السورية ،غير معلن، وسيبدأ تطبيقه تدريجيا بما يخص إدلب، وعفرين، وينص هذا الاتفاق على تمتع الأكراد بكل حقوق المواطنة السورية الكاملة، ولكن من دون حكم ذاتي،مع إمكانية عودة العلاقات مع أنقرة تدريجيا.

وبالمقابل يتم التعاون بين روسيا وتركيا،فيما يتعلق بإدلب، بحيث لن تتدخل أنقرة في أي عمل عسكري سيقوم به الجيش العربي السوري  بغطاء جوي روسي مكثف من أجل القضاء على التنظيمات الإرهابية والتكفيرية في الشمال السوري، وتسليم عفرين للدولة السورية من دون قتال مع الأتراك،وقدأبدت تركيا موافقتها على هذه الخطوات، بعد أن قدمت لها بعض الإغراءات على الصعيد السياسي.

وضمن الاتفاق ، تستمر تركيا في إطلاق التصريحات الداعمة للتنظيمات الجهادية المسلحة في وسائل إعلامها،حفاظًا لماء وجهها أولاً، ولضمان عددهروب أعداد كبيرة من المقاتلين إلى داخل تركيا ،وهوما ستدفع ضريبته حكومةأردوغان داخليًا، ثانيًا.وهنا  ستكون تركيا قدكسبت أولاً ضمانات فيما يتعلق  بالأكراد، وثانيًا، ستضمن عدم عودة أي مقاتل من أي جنسية إلى الداخل التركي بما قديهدد أمن أنقرة ، فضلاً عن أن تلك الخطوات ستؤثر إيجاباً على الأوضاع الإقليمية و ستسمح بدفع عجلة الحل السياسي في سوريا وهذا في صالح تركيا أمنياً واقتصادياً أيضاً.

فقد تم اغراء أنقرة بهذه الاتفاقية لكي تصبح بإمكان تركيا أن تساوم الدول الأوروبية على ملف المقاتلين الأجانب الذين باتوا لا يملكون مهرباً إلا الحدود التركية ،وبالتالي يمكن لأردوغان مساومة الأوروبيين على الخطر الذي تخاف منه القارة العجوز أي عودة المتطرفين الأجانب إلى بلدانهم عبر تركيا و قد يساعدها ذلك في مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي .

وقد تزامن مع الاتفاق قيام واشنطن بنقل جزء من قواتها المتمركزة في الريف الجنوبيّ لمحافظة الحسكة إلى القاعدة الأميركية في رميلان شمال المحافظة تمهيداً لنقلهم إلى قاعدة عين الأسد في إقليم شمال العراق ثم إعلان الانسحاب الكامل والنهائي من المنطقة

كما تزامن مع ذلك الاتفاق تمهيد جوي روسي تم ملاحظته منذ أو سيتضاعف تدريجيآ ،إضافة الى توافد ارتال الجيش العربي السوري بمختلف افواجه و مدرعاته و آلياته و انتشاره على مختلف تخوم إدلب و أريافها بدء منأارياف اللاذقية حماة حلب وإعلان جهوزيته القصوى لبدء ساعة الصفر و انطلاق العملية العسكرية بعد الحسم واتخاذ القرارلإبادة جميع الإرهابيين المتمركزين في الشمال السوري ،وهو ما تؤكده التصرفات التركية من خلال حشد الجيش والدرك التركيين على الحدود وحالات إطلاق النار على مسلحين من ميليشيات الشمال حاولوا الهرب قبل بدأ الجيش السوري معركته ضدهم.

المصدر: مجلة البلاد

Optimized by Optimole