نجيب العازوري أوّل من نبَّه إلى الخطر الصهيونيّ

Spread the love

د. كرم الحلو _ كاتِب ومؤرِّخ من لبنان/

نجيب العازوري رائدٌ نهضويٌّ متنوِّر ذو مَوقع مركزيّ في فكرنا العربيّ الحديث باستشرافاته الرؤيويّة وأفكاره المتقدّمة المُثيرة للجدل. لكنّ الدراسات الفكريّة العربيّة لم تتناوله إلّا نادراً ولماماً، ولم يحظَ كِتابه “يقظة الأمّة العربيّة في الأقاليم الآسيويّة” بما يستحقّه من الاهتمام، على الرّغم ممّا يرتديه من أهميّة استثنائيّة بما حمله من أفكار في الوحدة القوميّة والعلمانيّة والاستقلال، وبصورة متميّزة، في المُبادَرة في مرحلة مبكّرة إلى التنبيه إلى الخطر الصهيونيّ على الأمّة العربيّة والسلام العالَميّ.

لقد ظلَّ الكِتاب ومؤلِّفه شبه مغمورين حتّى أواخر القرن الماضي، حيث عرَّب أحمد أبو ملحم الكِتاب في العام 1978 موضحاً بعض الغموض حول شخص العازوري وحياته ومؤلّفاته.

أحاط الالتباس بنجيب العازوري اسماً وتاريخاً ومؤلّفات. فقد خلطَ بعض الباحثين بينه وبين نجيب يوسف العازوري الذي أصدر في الأورغواي سنة 1913 نشرة “أمنية العرب” باللّغة العربيّة، مُتوجّهاً فيها إلى العرب قاطبة، رافضاً الارتباط بأيّ دولة غربيّة، مُحرِّضاً على الاستعمار بأشكاله كافّة. بينما مؤلِّف “يقظة الأمّة العربيّة” هو نجيب جرجس العازوري، المُختلف في وجهة هجرته، وفي تعبيره، وفي توجّهه القومي ودوافعه، وفي مَساره الفكري والإيديولوجي. وقد أحاط الالتباس أيضاً بسنة ولادته، حيث ذكر أبو ملحم أنّه وُلد على وجه التقريب سنة 1878 في عازور، بينما رأى ستيفان ويلد أنّ هذا الرجل بقي في الظلّ، حتّى لم يكُن من المُمكن التحقُّق من تاريخ ولادته، وهو ربّما سنة 1870 في عازور في جنوب لبنان.

وطاولَ الالتباس مؤلَّفات العازوري؛ فبينما ذكر أبو ملحم أنّ عازوري وَضع كِتاباً بعنوان “الخطر الصهيوني العالَمي”، تذكر مَصادر أخرى أنّ له مؤلّفات عدّة، لا يوجد من هذه المؤلّفات سوى “يقظة الأمّة العربيّة”، ولم يعثر الباحث الدؤوب جان داية إلّا على بعض مقالات كَتبها العازوري في “الإخلاص” و”المقطّم” في القاهرة، ما دفعه إلى الاستنتاج أنّ كِتاب “الخطر الصهيوني العالَمي” لم يُنشر.

تعلَم العازوري في مدرسة الفرير في بيروت، ونال الدبلوم من المدرسة العليا الفرنسيّة، وعُيِّن مُساعداً لحاكِم القدس 1898 – 1904 وغادرَ فلسطين إلى القاهرة، ثمّ إلى باريس حيث نشر بالفرنسيّة سنة 1905 كِتابه “يقظة الأمّة العربيّة”. وهناك أسَّس “جامعة الوطن العربي” وأصدر مجلّة “الاستقلال العربي” في العام 1907 بغية تحرير الأمّة العربيّة من الأتراك. لكنّ حملة العازوري القوميّة، وإن تكُن قد لقيت بعض الاهتمام في أوروبا، كان أثرها في الحركة العربيّة ضئيلاً، ويعود ذلك في رأي جورج أنطونيوس، إلى أنّها ظهرت في عاصمة أجنبيّة وبلغة أجنبيّة؛ وإذ عاد العازوري إلى القاهرة، أنشأ محفلاً ماسونيّاً يهدف إلى تحرير الأمّة العربيّة، ولم يمضِ وقت طويل حتّى احتضنت البلاد العربيّة فروعاً لهذا المَحفل، ضمَّت مشايخ وضبّاطاً وأشرافاً وطلّاباً. وفي حزيران (يونيو) 1916، توفّي العازوري ودُفن في القاهرة.

“بلاد العرب للعرب”

حملت صفحة الغلاف من كِتاب “يقظة الأمّة العربيّة” شعار “بلاد العرب للعرب”. أمّا فكرة الكِتاب الرئيسة فهي إدانة الحُكم التركي، باعتباره بربريّاً وظالِماً يضطّهد المُسلمين والمسيحيّين على السواء بالضرائب والسرقات المنظّمة، ما أفقر بلاد العرب وخرّب ديارهم، ولهذا أضمر العرب الكراهيّة والاحتقار للشعب التركي. ومع أنّ العازوري يتوجّه أساساً إلى إدانة الاستبداد العثماني المتخلّف والعمل على توحيد العرب واستقلَالهم، إلّا أنّه ينبّه، وللمرّة الأولى في الفكر العربي الحديث، على ما رأى ألبرت حوراني في “الفكر العربي في عصر النهضة” إلى الخطر الصهيوني ومَطامع اليهود في فلسطين على الكينونة العربيّة وعلى السلام العالَمي بأسره. فقد تحدَّث في ما يُشبه النبوءة عمّا سيؤول إليه الصراع العربي الصهيوني قبل وعد بلفور باثنتَي عشرة سنة وقبل قيام دولة إسرائيل بما يقرب من نصف قرن: “ظاهرتان مهمّتان مُتعارضتان تتّضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيويّة: يقظة الأمّة العربيّة، وجُهد اليهود الخفيّ لإعادة تكوين مَملكة إسرائيل القديمة على نِطاقٍ واسع. إنّه مكتوب لهاتَين الحركتَين أن تتصارعا باستمرار حتّى تتغلّب إحداهما على الأخرى، وعلى النتيجة النهائيّة لهذا الصراع يتوقّف مصير العالَم أجمع”.

وفي رأي العازوري أنّ الذين عالجوا المسألة اليهوديّة، لم يأخذوا في الاعتبار ما ينتج منها من تهديد للسلام العالَمي، وأنه قَصَد ملء هذه الفجوة كي يكشف للعالَم أهميّة الحركة العربيّة، والخطر الذي تمثّله الصهيونيّة، وهو خطر يتعاظم الخوف منه لأنّه يُهيَّأ في الظلّ وفي السرّ.

إنّ العرب هم إذاً، كما يتّضح من خلال “يقظة الأمّة العربيّة”، إزاء مُواجَهة تاريخيّة مُزدوجة: من جهة مُواجَهة الاحتلال التركي الذي أفقر الأمّة العربيّة ومَنعها من التقدّم والعطاء، وكان بإمكانها أن تكون على قمّة الحضارة العالَميّة، نظراً لاتّصاف العرب بالحُلم والشجاعة وتشجيعهم للعلوم والفنون. ومن جهة أخرى مُواجَهة الخطر الصهيوني الدّاهم الذي يَضع القوميّة العربيّة ومصير العرب على المحكّ.

في هذا الإطار عمل العازوري على فضْح نيّات الصهاينة ومخطّطاتهم، فحذَّر ممّا يضمره هؤلاء من مشروعاتٍ للسيطرة على فلسطين، التي يريدون إعادة بنائها أكثر اتّساعاً من التي امتلكوها في مَراحل وجودهم التاريخي المُختلفة. إنّهم لم يستطيعوا عبر تاريخهم احتلال الحدود الطبيعيّة للبلاد كي يصدّوا الغُزاة والفاتحين، ولم يتمكّنوا من استعباد مُختلف الأُمم التي كانت تقطن فلسطين أو استيعابها والعيش معها بسلام. وقد كان هؤلاء على قدم المساواة مع اليهود في الحضارة، وكلّ واحدٍ من هذه الشعوب أخضعهم بدَوره إلى سيطرته. ولو تمكَّن اليهود من احتواء كلّ الأقوام الكنعانيّة لكانوا أوجدوا مَملكة مستقلّة ولَمنعوا بزوغ فجر المسيحيّة. إلّا أنّ يهود عصرنا أدركوا أخطاء أجدادهم، لذلك تراهم يسعون إلى احتلال التخوم الطبيعيّة للبلاد التي هي بالنسبة إليهم جبل حرمون ووادي اللّيطاني في الشمال، فضلاً عن المنطقة الواقعة بين راشيّا وصيدا كطليعة حراسة، وقناة السويس وشبه جزيرة سيناء في الجنوب، والصحراء العربيّة في الشرق، والبحر المتوسّط في الغرب. إنّ إسرائيل إذّ ذاك تغدو قلعة حصينة في وجه أعدائها.

إزاء هذه المخطّطات المرسومة التي يعمل لها اليهود بدأب واتّحاد وتصميم وجهد موجَّه بفكرة موحّدة، تقبع الإدارة التركيّة المتخلّفة، فيما العرب يعانون الشقاق والجهل والبؤس وعدم الانتظام، وبينما قناصل الدول الأوروبيّة غافلون عن خطط اليهود وتنظيمهم وغزوهم لفلسطين .

على هذه الخلفيّة تتحدَّد نظريّة العازوري القوميّة العربيّة التي تتطلّع إلى إقامة إمبراطوريّة عربيّة تمتدّ من الفرات ودجلة إلى خليج السويس، ومن المتوسّط حتّى بحر عُمان. ومن أجل مصلحة الإسلام والأمّة العربيّة على السواء، يجب فصل السلطة المدنيّة عن السلطة الدينيّة ومُساواة المُواطنين أمام القانون، وأن تتّخذ الحكومة العربيّة شكل السلطة الدستوريّة المرتكزة على الحريّة لكلّ المَذاهب، والتي يجب أن تحترم مَصالح أوروبا والامتيازات الممنوحة لها، وأن تحترم أيضاً الحُكم الذاتي في لبنان، واستقلال إمارات اليمن ونجد والعراق.

ويجب أن يكون خليفة المُسلمين شريفاً متحدّراً من الرسول، ويرأس دولة مستقلّة تشمل الحجاز ومنطقة المدينة المنوّرة حتّى العقبة، حيث يُمارس سلطاته الدينيّة والدنيويّة على السواء، وفي الوقت نفسه يتمتّع باحترامٍ مَلَكيّ ويملك سلطة روحيّة فعليّة على مُسلمي الأرض كافّة.

من أجل تحقيق هذه الإمبراطوريّة، نظَر العازوري في مَواقف مُختلف الدول، ليخلص إلى أنّ للروس مَطامِع في فلسطين، ويجب التصدّي لهم لأنّهم أقوى وأخطر، كما أنّ الإنكليز خطرون لأنّهم يُسهمون في الإبقاء على الأوضاع المُتخلّفة في الإمبراطوريّة العثمانيّة.

مقابل ذلك يعقد العازوري الآمال على فرنسا، حاميَة المقهورين، وقد احترمت القوميّات وقدّمت المُساعدات للشعوب المُستعبَدة وأعانتها على الاستقلال، وبفضلها بتنا نعي قوميّتنا، في حين أنّ ألمانيا وأميركا يُمكن أن تدعما استقلال العرب من باب التعاطُف والإحسان، أمّا سياسة الكرسي الرسولي فتتحمّل مسؤوليّة الانقسامات المَذهبيّة ونشوء الكنائس المُنشقَّة. ولهذا طرحَ العازوري إحلال مذهبٍ كاثوليكي قومي عربي يجمع كلّ الكنائس وتُتلى بموجبه الصلوات كلّها بالعربيّة.

تأسيساً على هذه المبادىء والتصوّرات سعى العازوري إلى تحقيق استقلال الأمّة العربيّة الموحّدة في إطارٍ أوروبي، ولم يقف عند حدّ تأليب الرأي العامّ الغربي سياسيّاً، بل حاولَ الحصول من الغرب على المال والسلاح من أجل إثارة التمرّدات في الإمبراطوريّة العثمانيّة.

أيّاً تكُن المَواقِف السلبيّة من العازوري وكِتابه، واتّهامه بالعمل في إطار تيّارات خفيَّة هدفها مصلحة الدول الغربيّة التي كانت تُهيّىء لاتفاقيّة سايكس بيكو، يبقى هذا الرائد وكِتابه من الوجوه المُشرِقة في فكرنا الحديث، لعلّ في الرجوع إليهما عِبراً ومَغازي، أوّلها في التنبّه إلى الخطر الوجودي الذي تشكّله الصهيونيّة على الكينونة العربيّة، وقد بدأت مَلامحه بالاتّضاح؛ وثانيها في طرْح الفصل بين السلطتَين الدينيّة والمدنيّة؛ وثالثها في الدعوة المبكّرة لتأسيس حزبٍ قومي عربي والتهيئة للثورة العربيّة الكبرى في الأوساط الأوروبيّة؛ ورابعها في المُناداة بالوحدة العربيّة على أساسٍ قومي.

لطرحه هذه المضامين والأهداف أثار كِتاب العازوري ردوداً حادّة في الدوائر الصهيونيّة، وهذا ما يضفي عليه أهميّة كبرى في صراعنا الرّاهن مع الصهيونيّة، وإزاء المَخاطر المصيريّة المُحدقة بالوجود العربي.

Optimized by Optimole