مفهوم مكر التاريخ عند هيغل

Spread the love

بقلم: سفيان البراق/

لقد شكّلت فلسفة التاريخ مبحثاً فلسفيّاً غنيّاً من جميع الجوانب، وموضوعُ فلسفة التاريخ هو دراسةُ التاريخ وفهمه واستيعابه بشكلٍ جيِّد، ثم معرفة الإشكاليّة أو الفكرة المِحوريّة التي تحكمُ التاريخ. برزت فلسفة التاريخ بعد نازلة سياسية عرفتها فرنسا سنة 1789م، هذه النّازلة تعتبرُ أكبر انقلابٍ عرفهُ التاريخ البشري، فلولا هذه النّازلة لما برز جيلٌ من الفلاسفة انكبوا على دراسة التاريخ. يعدُّ القرن الثامن عشر هو المبدأ والمُنتهى الذي غيّر مجرى التاريخ، وجعل من العقل الإنساني عقلاً مُقدّساً، يعلو ولا يُعلا عليه.
فلسفة التاريخ ينصبُّ اهتمامها على التاريخ، وتبحث في المُحرك المتخفِّي الّذي يُحرِّك التاريخ، واكتشاف الفكرة المحورية التي يرتكزُ عليها. ظلّت فلسفة التاريخ لصيقة بالفيلسوف الجدلي “فريدريش هيغل” (1770 ـــ 1831)، لأنّ هذه الفلسفة لم تتبلور بشكلٍ جيّد إلاّ في حقبة هيغل، رغم أنّ ضوئها بدأ يُطلق أشعةً خافتة قبل هيغل.
الميتافيزيقا بزغ نورها، وأرخت ظلالها على تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون، عندما قسّم العالَم إلى عالمين، الأوّل عالم الأشباح والظِلال، وهو العالم الذي نعيشُ فيه، أمّا العالَم الثاني فهو عالَم المُثل تتواجدُ فيه حقائق يقينيّة ومُطلقة، إلى أنْ وصلت عند أرسطو الذي دشّنها، وهيمن منطقهُ على تاريخ الفلسفة لما ينيف عن ألفي سنة، وأحكم قبضتهُ على العقل البشري، إلى أن ارتدّ ديكارت على المنطق الأرسطي، دون جديدٍ يُذكر، فالميتافيزيقا سارت على نفس الدرب وشقّت طريقها، رغم اختلاف الحقب الزمنيّة، إلى أن اكتملت عند هيغل وارتفعت إلى مستوى التاريخ.
قبل الدخول إلى غمار فلسفة التاريخ، وكيف نظّر لها هيغل بابتداعه لمفهوم “مكر التاريخ”، لابدّ من إعطاء لمحة عن تصور إيمانويل كانط (1724 ـــ 1804) للتاريخ والمنطق الّذي يحكمُهُ. ينظرُ كانط إلى التاريخ نظرةً كونية لا تشوبها شائبة، فالكونيّة هي الّتي تحتضنُ جميع مراحل التاريخ، وتَعتبرُ التاريخ البشري تاريخاً واحداً، هذا التاريخ لا يسير لأنّ النّاس أو النّوع البشري كما ورد في مقالة كانط التي نُشرت سنة 1784م “فكرة عن تاريخ كوني من زاوية نظر المواطنة العالميّة”، ترجمة: محمد مُنادي إدريسي، يُحبّون السيرَ فيه؛ بل إنّ هناك عقلٌ خفيٌّ هو الذي يُحرّكهُ، وأشار كانط أيضاً إلى فكرة التقدم، هذا التقدم يكونُ أساساً بواسطة الطبيعة، في حين أنّ هيغل ظنّ أنّ التاريخ يتقدّمُ بواسطة العقل. يبدو أن هيغل كان متعصِّباً أشدّ التعصب للعقل. هنا نلاحظ اختلافاً جذرياً بين كانط وهيغل، لكن اتفاقهما سيكونُ فيما يقعُ في التاريخ من أحداثٍ ووقائع ليس بمحض الصدفة أو أنّنا نختارهُا، بل إنّ طبيعة التاريخ هي الّتي تفرضُهُا. التاريخ الكوني الّذي تحدث عنه كانط، هو تاريخٌ يؤمنُ بوجودِ مبدأ يُحرّكُ التاريخ.
رسم لنا كانط رحلة البشرية من انصهارها في الطبيعة التي تتسمُ بالهمجيّة والعُنف، فالطبيعة هي التي دفعتنا إلى الصراع، والصراعُ هو محرك التاريخ، وهي التي ستدفعنا حتماً إلى الاجتماع وبالتالي سيُصبح الإنسان مواطناً عالمياً وكونياً.
قبل أنْ يتطرّق كانط لفكرة تقدّم التاريخ، سبقهُ الرياضي الفرنسي الشهير “كوندرسيه” (1743 ـــ 1794)، فهو من أبرز من نظّروا لفكرة تقدُّم التاريخ، لأنّه عاش في بيئةٍ تحدّثت كثيراً عن مفهوم التقدُّم. مفهوم التقدم أنجبتهُ فلسفة الأنوار، وإذا أمعنّا النّظر في الفترة التي عاش فيها كوندرسيه سيتّضح لنا أنّه وليدُ عصر الأنوار، وتشبّع بمبادئه، وعلى رأسها مبدأ التقدم، ومن أجل تطبيق فكرة التقدم يستوجبُ ذلك الدراسة والإلمام بجميع فترات التاريخ البشري، فهناك شعوبٌ تقدّمت وشعوبٌ أخرى في طور التقدم، بيد أنّ استيعاب التقدم يكونُ بالانخراط في الكونية والعالمية التي عرفت أوجّ ازدهارها مع كانط.
قمتُ هنا بوضع إطار عام لفلسفة التاريخ خلال القرن الثامن عشر، إذْ لا يُمكنني الغوص في هذه الإشكالية الشائكة والمُستعصيّة في نفس الآن دون تقديمِ لمحة عن تصور السابقين للتاريخ. الآن سأتطرّق لفلسفة التاريخ عند هيغل، والمراحل التي عرفها التاريخ، ثم تقسيم هيغل للكتابة التاريخية، ثم محاولة الانغماس في مفهوم “مكر التاريخ”.

يعدُّ الحديث عن فلسفة التاريخ عند هيغل أمراً ليس سهلا، فهو يحتاجُ لدراسة معمّقة، هذه الدراسة تحتاج لعقودٍ كثيرة، كيف لا، وهيغل يُعدُّ من أبرز الفلاسفة الّذين مروا عبر تاريخ الفلسفة. التاريخ عند هيغل هو حركةٌ منطقيّة يحكمها الجدل، ويُهمينُ عليها، ويرى هيغل كذلك في التاريخ نمو نحو الحريّة وتطوّرها، لأن التاريخ في الأصل يُعبّرُ عن التقدّم من خلال الشعور بالحرية.
وضع هيغل الحريّة في نطاق المطلق، أي في نطاق الله، ولهذا ظلّت الحرية عند الفلاسفة الألمان فلسفةً كلامية إنسانية يتجسّدُ مدارها حول الله. هذا تجلٍّ كبير وواضح لمركزية الإنسان، واحتلاله لموقع الإله. هيغل هو فيلسوف اهتم بالحرية في نطاق تنظيره للدولة وللتاريخ، وجعل لها مركزاً في البداية، أي في بداية التاريخ، لأنه استوعب جيّداً الدعوة الليبرالية عبر جون جاك روسو وكانط وتجربة الثورة الفرنسية. واعتبر أن الحرية كمفهوم عند الليبراليين مفهومٌ سطحي، وبالتالي فالحريات الليبرالية هي مجرد وهم وطيف يتمترسُ أمامنا، هذا الوهم يضع حاجزاً يمنعُ إدراك الحرية الأصلية التي يضمنها العقل ويُحقِّقها التاريخ. نظرية الحرية عند هيغل هي الباب الرئيسي لفهم نظرية الدولة والتاريخ، دون حريّة لا وجود للدولة وللتاريخِ معاً.
هيغل هو فيلسوف الحريّة، فقد ربط التاريخ بمفهومي الدولة والحرية، فالهدف الأسمى للتاريخ هو الوصول إلى الحرية، وأن تتحقّق في الدولة لكي تتقدّم، فالحرية هي الأساس والمُرتكز لحياة الإنسان، ولا يُمكننا أنْ نتصور الإنسان وهو ليس حرّاً، فالحرية هي صفةُ الإنسان. حتى إذا كانت الدولة مُستبدّة وتدعو للأنوار، لكنّها تُقيّد الإنسان بقيود مُجحفة، فهي دولةٌ ناقصة.
كلُّ حقبة من التاريخ البشري فهي تعيشُ حتماً تحت وطأة الصراع والتصارع والتعارض، لنأخذ على سبيل المثال جدلية العبد والسيّد، العبد هو المؤسِّس والصانع الوحيد للثقافة التي لا تنفك في الخروج من جعبة العبد، هذا الأخير هو الذي يعملُ ويُدبِّرُ شؤون السيّد، في حين أنّ السيّد لا يفعلُ شيئاً، ينعمُ بالرّاحة فقط، فإذا لم يكن العبد موجوداً فالسيّد لا يستطيعُ فعل أيّ شيء. هذا التعارض يتجلّى في كلِّ مرحلة من مراحل التاريخ ولا يقوى على حلّه سوى صراع الأضداد.
لم يُنشر لهيغل أيُّ كتاب حول التاريخ إلاّ بعد وفاته، وطلابه الذين تتلمذوا على يده هم من نَشروا كتبهُ التي تتناولُ موضوع التاريخ، وهي عبارة عن مُحاضراتٍ ألقاها في جامعة برلين بين سنتي (1822 ـــ 1823). هيغل له كِتابين يناقشُ فيهما تصورهُ وفهمهُ للتاريخ، الأوّل موسوم بعنوان “العقل في التاريخ”، وهو عبارة عن مدخلٍ نظريٍّ هام من أجل فهم مسار التاريخ، والثاني تحتَ عنوان “العالَم الشّرقي”، هذا الكِتاب يُمكنُ اعتباره التطبيق التاريخي والعَملي لفلسفة التاريخ عند هيغل.
قسّم هيغل الكتابة التاريخية أو الدراسة التاريخية إلى ثلاثة أنواعٍ رئيسيّة: أوّلاً التاريخ الأصلي، وهو التاريخ الّذي ينكبُّ عليه المؤرخ ويكتبهُ وهو يُعاصر الأحداث الّتي تقع، والنّوع الثاني هو التاريخ النّظري، هنا لا يقفُ المؤرخ عند أحداثِ عصره وما رآهُ بأمِّ عينيه بل يقوم باستعراضِ تاريخِ أمّةٍ عاشت في زمنٍ غابر أو عصرٍ من العُصور من أجل مُجاوزة عصره. والنوع الثالث والأخير هو التاريخ الفلسفي، كلّنا نعلم علم اليقين أنّ التاريخ هو تاريخُ الإنسان، هذا التاريخ يهتمُّ بالدرجة الأولى بالإنسان كجزءٍ لا يتجزّأ من التاريخ، الإنسان هو النقطة المركزية في هذا العالم، هذه المَبدأ رفعتهُ فلسفة الأنوار كشعارٍ لها، هذا الشعار سيتبناهُ هيغل في وقتٍ لاحق. الدراسة الفلسفيّة للتاريخ تعني دراسة التاريخ من خلال الفكر، فالفكر هو جوهر الإنسان. نستنتجُ من هنا أنّ هيغل يُقرُّ بأنّ مسار التاريخ البشري هو مسارُ تطوُّر العقل.
كلُّ كيانٍ جغرافيٍّ يُخلِّفُ وراءهُ آثاراً وقوانيناً، هذه المُخلّفات يُسمِّيها هيغل بالرُّوح الموضوعي، لأن روح الدول تتجلّى في تلك المُخلفات الماديّة. تجسّدت روما في قوانينها ودساتيرها، أمّا أرض الكِنانة فإنّها تجسّدت في معابدها الروحية. هنا يُشير هيغل إلى التاريخ وكيفية استيعابه، فالتاريخ في نظر هيغل ليس ماضٍ موروث، بل هو منطق ومحرِّك الأحداث، أي النِّطاق الذي تتبلورُ فيه الحقيقة المُطلقة، وهو عبارة عن سلسلة تشكلات الروح. إن الباحث في التاريخ لابد أن يواجه آثار حقبةٍ معينة، ويتوجبُ عليه إدراك روح تلك الحقبة الزمنية لإدراك دساتيرها وقوانينها ومُعتقداتها، ويتوجبُ عليه أيضاً فهم تلك الدولة التي ابتدعت تلك القوانين. هيغل يشيد بوجود إمكانية فهم آثار الماضي انطلاقاً من قيم الحاضر الذي نعيشُ فيه.
مسارُ التاريخ يُشبهُ إلى حدٍّ ما رحلة أشعة الشّمس الّتي تنشرُ ريشتها الذّهبية على الأرض، ببزوغها من الشرق، إلى أنْ تبتلعها الجبال ويتلاشى نورها في الغرب، إنْ كان هذا يدلُّ على شيءٍ فإنّه يدلُّ على أنّ التاريخ تكونُ بدايتهُ من آسيا وشبه جزيرة الأناضول، واكتماله، أو بالأحرى نهايتهُ، يكون في أوروبا. التاريخ في نظر هيغل مرَّ بثلاثة مراحل رئيسيّة: مرحلة الطفولة، ومرحلة الصبا، وتأتي بعدها مرحلةُ المراهقة التي تجسّدت في اليونان، هنا كانَ البدءُ العظيم كما قال “مارتن هايدغر”، ثم مرحلتي الرُّجولة، والشيخوخة. مرحلة الشيخوخة تحيلُ إلى الانتهاء الرسمي للتاريخ، الذي سينتهي في أوروبا، وفي ألمانيا على وجه التحديد، ونفهم من ذلك، أنّ الشيخوخة هنا ليست مُرادِفاً للضعف والهرم، بل تُحيلُ إلى النّضج والقوة والاكتمال.
نستشفُّ من هذه المراحل، ولا سيّما المرحلة الأخيرة (مرحلة الشيخوخة)، أنّ هيغل تجتاحهُ نزعة عرقية أدّت به إلى تعصبٍ حضاري، هذا التعصب يندى له الجبين، ولم يكتفِ بهذا فقط، بل أقرّ ـــ وبإقرارٍ شديد ـــ على أنّ ألمانيا (الطبيعة الجرمانيّة) هي مركز الكون.
ابتدع هيغل في خضمِّ فلسفة التاريخ مفهوما يحومُ حوله لبس كبير، هذا المفهوم هو “مكر التاريخ”، هكذا يُسمّى في بعض الأحيان، وحينة أخرى يُطلق عليه “دهاء العقل”، الترجمة هي التي تُغيّر هذه المفاهيم وتخونُ الأصل خيانةً غير مشروعة، دهاء العقل هو مفهومٌ خاطئ ابتدعهُ المشارِقة، أن أعتبرهُ خاطئاً فهذا لا يعني أنْ نضرب بجهدهم الجاد في نقل ما جاد به الفكر الغربي إلى اللغة العربية عرض الحائط، لكن معظم الباحثين المتخصصين في الفكر الألماني نبّهوا لهذه المسألة. أوجد هيغل هذا المفهوم خلال القرن الثامن عشر، ويُقصدُ بمكر التاريخ، أنّ للتاريخ مُستويين اثنين: الأوّل ظاهريٌّ، والمستوى الثاني هو باطني وخفي. مكر التاريخ هي مقولة هيغيليّة خالصة، هذه المقولة تُحوِّلُ هذا التيه إلى فعاليّة تتجلّى عبرها القدرة الإنسانيّة في إخضاع الطبيعة البشريّة والمصير الإنساني لعقلٍ أحكم سيطرتهُ على مُختلف مناحي الإنسانيّة.
يعتقدُ هيغل اعتقاداً راسخاً أنّ التاريخ لا يُسيّرهُ الأفراد بل هو الّذي يتحكّم فيهم ويقودهم، وبالتالي لا يوجدُ شخصٌ ما هو صانع التاريخ، التاريخ هو الصانع لكلِّ شيء. ردّد هيغل باستمرار عبارة مكر التاريخ، لأنّه عاصر نابليون بونابرت، ورأى ذلك الدمار الذي خلّفته ديكتاتورية الفرنسي نابليون، هنا عارض هيغل هذه التصرفات المتغطرسة والمشينة، والتي انقلبت على فلسفة الأنوار، نفس الشيء بالنِّسبة لفيخته وآخرون. كان هدف نابليون من غزو أوروبا وبعض دول شمال إفريقيا هو إحكامُ قبضته على العالم، ويصبح كل شيء تحت إمرَته، لكن مخططهُ ذاك فشلَ فشلاً ذريعاً. نفس الاستراتيجيّة اعتمد عليها هتلر خلال الحرب العالميّة الثانية، هي أيضاً لم تتحقّق. أراد نابليون أنْ يُوقف التاريخ، ويجعلهُ جامداً، وفي نهاية حياة نابليون اتّضح أنّ التاريخ الظاهري والسطحي لعصر نابليون هو القتل وسفك الدماء وحز الرؤوس، وتوحيد أوروبا وتُصبح تابعةً له، كل هذا لم يتحقّق، أمّا التاريخ الباطني كان هو انسلال أفكار الثورة الفرنسيّة سنة 1789م، هذه الأفكار هي التي جعلت العالم البشري ينفتحُ على تجربةٍ كونيّة، ومن بين هذه الأفكار أذكرُ (الحريّة، الديمقراطية، العقلانيّة، المساواة، الإخاء).
ارتبط التاريخ عند هيغل ارتباطاً وطيدا بالرُّوح، واعتبر الروح نفسها هي التاريخ، وهي تضعُ ذاتها على مسار تقدُّمه، فالتاريخ إذن هو عَرْضٌ للرُّوح، وتعملُ على اكتساب المعرفة بما تُكوّنهُ بالقوة، والتاريخ هو كمسرح الذي تشاهد الروح عليه وتكشفُ عن نفسها.
ويعتقد هيغل أن روح التاريخ واحد لأن قصد التاريخ الانساني العام هو تحقيق الحرية، فحين تغادر الروح دولة لتحل في دولة أخرى فإنها تنتقل من حرية إلى حرية أعلى، وحين يُهاجر روح التاريخ ثقافة ما فلأن ظروف حرية أكبر تواجدت في غيرها من الثقافات. وهكذا يحكم على كل حقبة تاريخية اعتماداً على معيارين متكاملين: معيارها الخاص بها ومعيار عام هو روح التاريخ الشامل الذي يُشخص المطلق.
التاريخ عند هيغل أساسهُ هو العقل، ويقول هيغل في هذا الصدد: “إذا كان العقل هو جوهر الطبيعة على هذا النّحو فإنّه جوهر التاريخ البشري، مع فارق هام جداً، وهو أن العقل الذي يحكمُ التاريخ هو عقلٌ واعٍ بذاته أعني هو العقل البشري الذي يعي ويُدرك ما يفعل”. العقل في التاريخ” . لكن قولنا إنّ العقل يحكمُ التاريخ لا يعني أنْ نُقحم أفكاراً فلسفية على علم التاريخ الذي ينبغي أنْ يظلّ ـــ كما يقولون ـــ عِلماً تجريبياً.
اقتنع هيغل اقتناعاً أساسيّاً أصيلاً ثابتاً بأن التاريخ وحدهُ مجال الفكر، الفكرُ لا يكونُ هو نفسه إلاّ إذا تخلّص من سكون الماضي. التاريخ إذن عند هيغل هو ما يهدفُ إلى استمراره هو نفسه في حدّ ذاته، بحيث يلحق نهايتهُ ويبلغ غايتهُ من خلال تطوُّره.
هناك ثلاثة أفكار رئيسيّة تؤسِّسُ فلسفة التاريخ عند هيغل:
ـــ فكرة المصير: أوّلُ تجربةٍ عاشتها البشريّة هي تجربة دينيّة، وبالضبط تجربة البعث. للتاريخ بداية ونهاية.
ـــ فكرة روح الشّعب: أوّل مظهر من مظاهر الكليّة هو الشعب عند هيغل. وأول خلية للشعب هي الأسرة، والأسرة هي الشكل الكلي الذي تصلُ إليه الطبيعة.
ـــ فكرة الوعي الشقي: الإنسانُ كفردٍ مُتناهي يؤدي حتماً إلى الوعي الشّقي.
يقول هيغل في كتابه الشهير العقل في التاريخ: “موضوع التاريخ هو الحياةُ البشرية في امتدادها الزمني في الأرض، وما يحكُمُها هذه الحياة من عوامل فإنّ التاريخ لا يبدأُ في المراحل التي يكونُ فيها الإنسان مُتّحداً مع الطبيعة، عاجزاً عن التعرُّف على ذاته، إذْ لابدّ أنْ ينفصل الإنسان عن الطبيعة بحيث يُصبحُ واعياً بنفسه”. نُلاحظُ هنا بأنّ هيغل يُلمّحُ إلى حريّة الإنسان، وأنه من الواجب أنْ يكون حُرّاً، وغير خاضع لسلطةِ الطبيعة، أي منفلتاً منها.
فلسفة التاريخ تضمُّ عدّة خيوط تَنظِمُها، لعلّ أبرز خيطٍ هو الحريّة، وتطرّقتُ لها سلفاً والخيط الثاني، والأهم، هو الدولة عند هيغل، وطموحهُ في تغيير الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها بروسيا سابقاً، ألمانيا حالياً. اعترف هيغل بتناقضٍ شبه مؤقّت بين الدولة والفرد، من هنا برزت أحكامه مزدوجة في مَواطن مُختلفة، واعتبر أن كل دولة تجهلُ حرية الوجدان، هي دولة ناقصة، على حد تعبيره. يقول هيغل في كتابه فلسفة القانون:” عندما نقرُّ ونقبلُ أنه من واجب الإرادة الفردية أن تُوجد ما هو ضروري عقلاً في المجتمع وفي الدولة، عندئذ نكون قد حددنا تحديداً علمياً ما يعبر عنه عامة بالحرية”.
فَكَّر هيغل في شؤون ألمانيا كثيرا، وكان يتأسفُ على واقعها، ويقارن أحوالها بأحوال فرنسا التي كانت مُنتشيةً بالثورة الفرنسية المجيدة، وإنجلترا انتعش اقتصادها، أما ألمانيا فقد تردت أوضاعها في شتى الميادين، وأصبحت متخلِّفة تاريخياً، هنا أقصد الأدلوجة ومعناها في تلك الفترة، الشعور المُشترك بالتأخر التاريخي. استخلصَ هيغل من هذه المقارنة، كما جاء في كتاب مفهوم الدولة لعبد الله العروي:” لا تستحقُّ أن تُسمى دولة إنها مجتمع، مجموعة إنسانية، كيّان غير مكتمل، وليست دولة عقلية”.
ما قاله هيغل في تلك الفترة عن الدولة، قاله الدستور الألماني أيضاً، فقد وضع عبارةً تشبه عبارة هيغل شكلاً ومضمونا، ونقرأ في دستور ألمانيا:” لا تستحقُّ مجموعة إنسانيّة أنْ تُسمى دولة إلاّ إذا كانت مُتّحدة لأجل الدفاع الجماعي عن كلِّ مُمتلكاتها”. هذا تعريف قانوني وتاريخي. وردت هذه العبارة في كتاب مفهوم الدولة، والعروي ربّما هو من نَقلها للعربيّة.
انطلاقاً من هيغل، وهو كما قلنا نقطة الالتقاء والتحوّل بين القديم والحديث، القديم هنا إحالة إلى تصور القديس أوغسطين للدولة من خلال إخراج الإنسان من الظروف الإنسانية، وتصور الحرية خارج الدولة، هذه أسطورة طوبوية، نجدُ نقده لأدلوجة الوجدان التي تكتسي شكلا دينياً وميتافيزيقياً عند أوغسطين، ونقد أيضا الشكل الثاني ليبرالي أخلاقي الذي يتجلى عند كانط. نظرية الدولة إذن هي نقد دولة الأخلاق والمُثل المُتعالية، ونقد الطوبى التي تستلزمُ انقراض الإنسان.
الدولة والحريّة والتاريخ عند هيغل، هي مفاهيم متلازمة ومرتبطة فيما بينها، الدولة يجبُ أن تتأسّس على الحريّة واحترامها، والحريّة هي الهدف الأوّل والأخير للتاريخ، فهيغل نادى كثيراً بالحرية، لأنّه كان من أشد المُعجبين بالثورة الفرنسيّة، وهذه الثورة اندلعت من أجل حريّة الإنسان. يقول هيغل في كِتابه “تمهيد الفلسفة”: “إنّ حرية الكائن الفرد هي في عُمقها مطابقة الماهية للذات، يعني أنها في عمقها من طبيعة إلهية”. الحرية البشرية والحريّة الإلهية لهما نفسُ المعنى في نظر هيغل، فإذا وضعنا أنفسنا في النُّقطة الزمنية التي ينتهي فيها التاريخ.
لم تبقَ الحرية البشرية من توابع الحرية الإلهية بل أصبحت صورة من صورها عن تعيين المطلق Absolu، في الفرد وتحقيق الحقيقة المجردة في التاريخ.
لا يُمكننا أن نتحدّث عن أحد المفاهيم ونترك الأخرى جانباً، لأن المفاهيم الهيغيلية مُرتبطة فيما بينها ارتباطاً عُضوياً، وهذا راجعٌ لسببٍ نعرفه جيّداً، وهو نسقيّة هيغل، فهذا الرّجل نسقيٌّ لدرجة كبيرة، وهذا يبدو بشكلٍ واضح في مؤلّفاته.

لائحة المصادر والمراجع:
ـــ العروي، عبد الله، مفهوم الحريّة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 1993.
ـــ العروي، عبد الله، مفهوم الإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثامنة، 2012.
ـــ العروي، عبد الله، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة التاسعة، 2011.
ـــ النّابلسي، شاكر، “خواطر ومعانٍ في مكر التاريخ عند هيغل”، صحيفة الوطن، 2012.
ـــ بوعبيد، محمد سيّد، “مفهوم الضيافة الكونيّة عند كانط لتأسيس المُواطن العالمي”، مقال نُشِر في مجلّة الاستغراب، خريف 2017.
ـــ هيغل، فريديريش، العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثالثة، 2008، عدد الصفحات 196.

Optimized by Optimole