مفهوم التنمية في التجربة الاسلامية

Spread the love

بقلم: حسين معلوم — تعتبر مشكلة توزيع الثروة بين الناس من أهم المشكلات التي يعانيها أي مجتمع، لاسيما في العصر الحديث، وذلك لما يترتب عليها من انقسام المجتمع إلى فريق من الأغنياء القادرين على إشباع حاجاتهم، أو تحقيق رغباتهم، وفريق آخر من الفقراء، العاجزين عن تحقيق تلك الرغبات، أو في أحوال كثيرة إشباع حاجاتهم الأساسية. هذا، فضلاً عن استطاعة الأغنياء، بما لديهم من ثروة، أن يكونوا أصحاب النفوذ والسيطرة.
وفي ما يبدو، هكذا، فإن مشكلة الاقتصاد الوطني في أي مجتمع، تتمحور – بالأساس- حول الاختلال في كيفية توزيع الثروات والدخول بين أفراده. وبالتالي، فإن إصلاح النظام الاقتصادي لا يتم، ولا يمكن أن يتم، إلا عبر تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمع. بل، لا نغالي إذا قلنا إن هذا هو أحد الأسس من وراء عملية التنمية.
ولأن الأمر كذلك، فإن الإسلام يُقرر- منذ البدء- أنه يتعين أولاً ضمان ما تستقيم به حياة الفرد ويُصلح أمره، ويكون ذلك بإشباع حاجاته التي تجعله يعيش في مستوى المعيشة اللائق تبعاً لظروف المجتمع الذي يعيش فيه وإمكاناته… أي: ضمان «حد الكفاية». ومن ثم، يأتي تأكيد التنزيل الحكيم على العدل، وربط هذا العدل بالقسط وبالتقوى، بل وبالعمل. يقول سبحانه وتعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المائدة: 8). ولنا أن نلاحظ، في هذه الآية الكريمة، كيف وردت لفظتا اعدلوا واتقوا معطوفتين، وفي صيغة فعل الأمر، دلالة على مدى الارتباط بينهما، ثم، كيف وردت لفظتا القسط والتقوى مُعرفتين للدلالة على التحديد والتعيين، في حين وردت لفظتا عدل وعمل دونما تحديد الكيفية للدلالة على العمومية في كل من العدل والعمل، وأخيراً، كيف جاء ختام الآية: «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».
وإذا كانت سمة الإسلام هي العدل، في كل ما يتصل بأمور الحياة الإنسانية، ومن بينها العدل في التوزيع، فإن أبرز صور هذا العدل هي حفظ التوازن الاقتصادي بين الأفراد داخل المجتمع الإسلامي. ويبدو هذا بوضوح، من خلال تأكيد الإسلام «حق أفراد الجماعة كافة في موارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه»، لأن هذه المصادر وتلك الموارد قد «خُلِقت»، للجماعة كلها. يقول سبحانه وتعالى: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِوي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ…» (الحشر: 7). ولنا أن نلاحظ، هنا، كيف أشارت الآية الكريمة إلى تشريع «العمومية» في الفيء، ووجوب تسخير هذه العمومية لمصلحة فئات المجتمع كافة، ومن بينهم ذوو القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل، هذا، بالإضافة إلى تأكيد منع احتكار بعض أفراد الجماعة الثروة «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ».
بيد أن الذي نود التشديد عليه، أن أساس الثروة والغنى في الإسلام هو العمل، فالله سبحانه وتعالى إذ يقول: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ…» (النحل: 71).. نجده سبحانه يقول: «وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (الأحقاف: 19)، وهو ما يشير إلى كيفية ارتباط الدرجات بالعمل، من حيث كون هذا الأخير هو مناط الجزاء. أيضاً، فإنه تعالى يقول: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (البقرة: 215). ولنا أن نلاحظ، كيف تم التأكيد في هذه الآية الكريمة، تماماً مثل التأكيد الذي ورد في سورة الحشر، للأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، للارتفاع بهؤلاء – كـ «ضرورة» – إلى المستوى اللائق للمعيشة، ومن ثم، جاء الربط بين الإنفاق وبين أنه في هذا الاتجاه هو «فعل خير».
اغتناء الناس، إذًا، وتفاوتهم في أرزاقهم ومعيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وتفضيل بعضهم على بعض، ليست اعتباطاً، وإنما هي بقدر ما يبذلونه من جهد وعمل صالح، وصدق الله العظيم، حين قال: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ٭ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ٭ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى» (النجم: 39 – 41).
وإذا كان الناس يتفاوتون في كفايتهم، وفي مقدار ما يبذلونه من جهد، فإنه من المنطقي أن يتفاوتوا في مقدار ما يحصلونه من دخل ويكونونه من ثروة، إلا أن التفاوت الذي يسمح به الإسلام هو «التفاوت المنضبط أو المتوازن»، أي: بالقدر الذي لا يكون فيه التفاوت مخلاً، أو أن يكون المال متداولاً بين فئة قليلة من الناس، أو أن تستأثر أقلية بخيرات المجتمع، ما يفقده توازنه ويمحق تماسكه. يقول سبحانه وتعالى: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (النحل: 71). ولنا أن نلاحظ، هنا، أن الآية الكريمة وإن كانت أوضحت أن التفاضل في الرزق هو تفضيل إلهي، فهي، في الوقت نفسه، أكدت أن البشر في ذلك «سواء»، فالتفاضل في الرزق حقيقة مشروطة بأن يأتي «من أسباب مشروعة»، ولا يسوغ فيه الجشع والاستئثار وترسيخ الفوارق بين الناس، بما يهمش البعض من أفراد المجتمع.
من هنا، يمكن الاستنتاج أن الإسلام وهو يعالج مسألة «التوازن الاقتصادي»، فإنه انطلق في هذه المعالجة من قاعدة «التوازن الاجتماعي»، ليضع من هذه الأخيرة مبدأً للدولة – بوصفها «راعية اجتماعية، أو: مؤسسة منوبة عن المجتمع، الإسلامي، في إدارة شؤونه» – في سياستها الاقتصادية، تجاه أفراد المجتمع.
قاعدة «التوازن الاجتماعي»، هذه، تعتمد في الإسلام على حقيقتين: أولاهما، حقيقة «اجتماعية»، وهي تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات النفسية والفكرية والجسدية. يقول الله سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ» (الأنعام: 165). ولعل هذا ما يؤكد، من جديد، أن الاختلاف في الدرجات بين البشر، حقيقة إنسانية، إلا أن هذا التفاوت، على رغم ذلك، ليس ناتجاً، في رأي الإسلام، من أحداث عرضية في تاريخ الإنسان، كما يزعم هواة العامل الاقتصادي. فالاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة لنظام اجتماعي يمكن إلغاؤه في تشريع أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعية. فالآية الكريمة تؤكد الاختلاف في الدرجات كـ «حقيقة وابتلاء» في آن.
أما الحقيقة الأخرى، فهي «حقيقة مذهبية»، مؤداها أن العمل هو أساس الملكية، ومالها من حقوق، بما يعني أن الملكية هي نتيجة عمل سابق ولو كانت موروثة. يقول سبحانه وتعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف: 32). ولنا أن نلاحظ، في هذه الآية الكريمة، كيف وردت لفظة «بعض» أربع مرات، وكيف جاءت في جميعها غير معرفة للدلالة على صفة العموم، ويكفي أن نتأمل موقع أي إنسان في أية مهنة يمتهنها، لنعرف أنه يأتي كحلقة في منظومة، تسبقها حلقات وتليها حلقات أخرى، ولنعرف، أيضاً، أن «سخرياً» لا تعني الطبقية كما يدعي أصحـاب المناهج الماديــة، بــقدر ما تؤشر إلى طاعـة الأوامــر، أو التوجيهات، الخاصة بالمنظومة الموجود بداخلها الإنسان.
وهكذا، تبدو بوضوح قاعدة «التوازن الاجتماعي». بيد أن هذا لا يعني أن الإسلام يوجب فرض هذه الحالة من التوازن، وإيجادها، في لحظة… وإنما يعني جعل «التوازن الاجتماعي» في مستوى المعيشة، هدفاً تسعى الدولة، في حدود صلاحيتها، إلى تحقيقه والوصول إليه، بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها.

المصدر: الحياة

Optimized by Optimole