ماذا فعل الاستعمار بنساء أفريقيا؟

Spread the love

د. رفيف رضا صيداوي —

في عددها الصادر في 14- 20 آذار (مارس) 2019، نَشرت دوريّة “كورييه أنترناسيونال” الفرنسيّة مُقتطفاً من تحقيق مطوّل حول النساء بقلم الصحافيّة والكاتبة الإسبانيّة أنجيلي جورادو Ángeles Jurado بعنوان: “نحن الأفريقيّات” Nous,les Africaines، وذلك نقلاً عن الدوريّة الإسبانيّة “إسغلوبال Esglobal “، وفيه أنّ النساء الأفريقيّات كنّ يشغلن مراكز سلطة في المجتمعات التقليديّة، لكنّ وصول المُستعمرين أو المُحتلّين إلى أفريقيا وضعَ حدّاً لتحرّرهنّ في القارّة.

في هذه المقالة من دوريّة “أفق”، نقوم بترجمة أبرز ما جاء في هذا التحقيق، الذي يُعيد الاعتبار للفكر النِسويّ الأفريقيّ ويدقّ إسفيناً في مركزيّة النسويّة الغربيّة، وبما يخدم الفكر النِسويّ العالَميّ والتوق إلى رفع المظلوميّة عن كلّ فئة إنسانيّة يُطاولها القهر، أنّى كانت، وأينما وُجدت.

تستهلّ هذا المقالة/ التحقيق موضوعها بنقض الفكرة السائدة في أنّ النسويّة غير موجودة في أفريقيا؛ إذ إنّ قصّة تحرُّر النساء ونضالهنّ من أجل المساواة، كما تورِد الكاتِبة، بدأت منذ مرحلة ما قبل الاستعمار؛ بحيث خلَّفت المُجتمعات الأموميّة، أو ذات النسب الأمومي، آثاراً في القارّة الأفريقيّة قبل تجارة الرقيق والاستعمار. ففي بعض هذه المُجتمعات، تميّزت الأدوار المنوطة بالرجال والنساء بتقلّبها وبمرونتها. لكنّ هذه المرونة لم تصمد أمام الصلابة المفروضة من المُستعمِر، المُسلَّح ببندقيّته، وبفكرة مُحدَّدة ومحصورة عن العلاقات بين الرجال والنساء. يكفي أن نعرف أنّ النساء في المناطق المعروفة اليوم على أنّها الكاميرون أو سيراليون، كنّ رئيسات لعشائرهنّ ولقُراهنّ، وأنّهنّ قُدن هجرات الزولو (أشهر القبائل في إفريقيا الجنوبيّة) في القرن التاسع عشر، وشكَّلن فِرقهنّ الخاصّة من ضمن الجيش الجرّار للإمبراطور شاكا Chaka، وأنّهنّ شكَّلن أيضاً الحرس المقرَّب من الملك داهومي Dahomey (جمهوريّة بنين الحاليّة).

تُشير المعلومات أيضاً وأيضاً إلى المَلكات الأفريقيّات المُقاتلات في ذلك العصر، مثل ياها أزنتيوا Yaa Asentewaa (في مَملكة أسهانتي Ashanti، وهي غانا الحاليّة)، وآنا نزينغا Ana Nzinga (في مَملكتَي ندونغو Ndongo وماتامبا Matamba، وهُما أنغولا الحاليّة)، أو سارّاونيا ( ملكة جماعة أزنا Azna، نيجر الحاليّة)، وقد جعلتهنّ الأساطير التي تختلط بالفلكلور مع مرور الزمن مثالاً أعلى. ولا يُمكننا إهمال السلطة السياسيّة التي تمتّعت بها مَلكات مصريّات مثل كليوباترا، ونفرتيتي أو حاتشبسوت، أو الملكة أمينة في نيجيريا…إلخ. ولا يُمكننا كذلك إنكار أنّ النساء في الماضي مثَّلن سلطة دينيّة في عدد من القرى الأفريقيّة، وأنّهنّ كنّ يتمتّعن بسلطة واسعة ويحظين بالاحترام في جماعاتهنّ.

تُشير الروائيّة والنسويّة النيجيريّة شيماماندا نغوزي أديشي Ngozi Adichie Chimamanda إلى أنّ نساء الإغبو (إغبولاند) تولّين نشاط التجارة، وكنّ نحّاتات وعاملات في السيراميك، وأنّهنّ لم يكُنّ استثناءً في القارّة الأفريقيّة، ولا في الأراضي النيجيريّة.

الاستعمار الاقتصادي والسياسي والدّيني للقارّة الأفريقيّة (بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر) أدّى إلى عزل القائدات السياسيّات والدينيّات، وإلى احتواء النساء في المجال الخاصّ. غير أنّ الأفريقيّات لَعبن دَوراً أساسيّاً في إنهاء الاستعمار من خلال الكِفاح المسلَّح (جوزينا ماشيل Machel Josina مثلاً، قاتلَت من أجل تحرير الموزمبيق من البرتغاليّين) ومن خلال العصيان السِّلمي في آن ( والأمثلة في هذا الإطار عديدة، من ذلك مثلاً ما قامت به ماري كوريه Marie Koré والنساء اللّواتي تظاهرن في غران- بسّام Grand-Bassam، في شاطئ العاج، من أجل إطلاق سراح أبناء بلدهنّ المُحتجزين من الفرنسيّين).

حين انتُزعت السلطة السياسيّة من النساء

عندما حصلت البلدان الأفريقيّة على استقلالها بين ستينيّات القرن الفائت وثمانينيّاته، انتقلت السلطة السياسيّة، التي انتزعها المُستعمِرون من النساء للاستئثار بها، إلى الرجال، بعدما قام هؤلاء المُستعمرون بمَنْح فتات من هذه السلطة للمُتعاونات معهنّ من النساء الأفريقيّات؛ بحيث تقاسَم الرجال المسؤوليّات من ضمن الحكومات الجديدة، عبر إدماجهم أنماط تفكير المُستعمِر وإعادة إنتاجها بغية فرضها على النساء.

لذا أشارت كاتبة هذا التحقيق Ángeles Jurado إلى أنّ نِسويات كثيرات، من السود أو من المحسوبات على “عرق” أو “سلالة” معيّنة، يُشبّهنَ النسويّة المُسيطِرة بالعبء الزائد الواقع على أكتافهنّ، لأنّها – أي النسويّة المُسيطرة- تستبعد في أحيانٍ كثيرة الحقائق التي لا تتناسب مع نموذجها الغربي، مُعتبرةً أنّها الناطقة بلسان نساء الكوكب. وتستشهد كاتبة المقالة كذلك بتصريحات عددٍ من الكاتِبات والناشطات الأفريقيّات في هذا الصدد، يؤكّدن من خلالها أنّ النسويّات البيض يَفدن من امتيازٍ مرتبطٍ بلَون بشرتهنّ، في حين أنّ أخواتهنّ السود يخضعن لاضطّهاد مزدوج نتيجة العنصريّة والبطريركيّة معاً.

تقول الكاتِبة والناشِطة الفلنديّة- النيجيريّة مينّا سالامي Minna Salami في هذا الصدد: ” إنّ ما لم يفهمه جمْعٌ كبير من المنضوين في تيّار النسويّة البيضاء، هو أنّ المجتمع الأبوي أو البطريركي في بلادهم تأسَّس على استغلال أشخاص ملوّنين في بلدان أخرى. فإذا لم تنضمّ النسويّة الغربيّة إلى الكِفاح ضدّ العنصريّة، والإمبرياليّة واستغلال البلدان الأجنبيّة، فإنّها لا تكون والحالة هذه في صدد النضال ضدّ المجتمع الأبوي”.

وتستشهد كاتبة المقالة أيضاً بآراء أكاديميّات نسويّات أفريقيّات، بيَّنَّ كيف أنّ الروائيّة المصريّة نوال السعداوي وعالِمة الاجتماع المغربيّة فاطمة المرنيسي، سبق لهما أثناء ندوة عالَميّة عُقدت في العام 1976 في إنكلترا، أن تصدّتا وعارضَتا إرادة النسويّات الغربيّات في تحديد النسويّة العالَميّة من وجهة نظرهنّ فقط.

النسويّة كانت دائماً موجودة في أفريقيا

أسماء نسائيّة كثيرة من أفريقيا حفرت مَوقعاً لها في الحركة النسويّة العالميّة، منهنّ: جاكلين كي زيربو Jacqueline Ki -Zerbo من بوركينا فاسو، وجان مارتن سيسي Jeanne Martin Cissé من غينيا، وأنجي بروكز Angie Brooks من ليبيريا، وأنّا تيبايجوكا Anna Tibaijuka وآشا روز ميجيرو Asha-Rose Migiro وجيرترود مونجيلا Gertrude Mongella من تنزانيا، وعائدة جندي Aida Gindy وعزيزة حسين Aziza Hussein من مصر، وفيلومينا ستيدي Filomena Steady من سيراليون. لكنّ النسويّة لطالما كانت موجودة في أفريقيا، غير انّها تُعيد الآن اختراع نفسها وتوسيع آفاقها، وتتّجه إلى التنوّع بتأثيرٍ من الأفارقة الموزّعين في العالَم، والمتحدّرين من أصل أفريقي. ففي سياق استمراريّة تقليد كان قائماً قبل إنهاء الاستعمار، نَجد الخيال النسائي الأفريقي مُشبعاً بشخصيّات نسائيّة غدت رموزاً ونماذجَ تاريخيّة.

المُشاركة السياسيّة للنساء تبدو مسألة أساسيّة أيضاً؛ حيث تشكِّل النساء في البرلمان الرواندي نحو 62 %، أي النسبة الأعلى تقريباً في العالَم. أمّا بالنسبة إلى رئاسة البلاد، وحدها بلدان مثل ليبيريا، وجمهوريّة أفريقيا الوسطى، وجمهوريّة مالاوي، وجزيرة موريس نصَّبت امرأة في هذا المَركز. لكنْ في المقابل، تشغل النساء نصف المَراكز في مفوّضيّة الاتّحاد الأفريقي، مقابل الثلث فقط في المفوّضية الأوروبيّة. فقد تولَّت الجنوب أفريقيّة نكوسازانا دلاميني زوما Nkosasana Dlamini Zuma رئاسة مفوّضيّة الاتّحاد الأفريقي لمدّة خمس سنوات، في حين أنّ الرجال وحدهم هُم الذين تولّوا رئاسة المفوضيّة الأوروبيّة منذ إنشائها. ثمّ إنّ الأنظار كلّها تتجّه صوب أثيوبيا، حيث تمّ في تشرين الأوّل (أكتوبر) الفائت انتخاب الرئيسة الأفريقيّة الوحيدة، وتبع ذلك إصلاحٌ تاريخي للحكومة من قبل رئيسها آبي أحمد، الذي قرَّر أن يُدار نصف الوزارات من العنصر النسائي، بما في ذلك وزارة الدفاع.

في أفريقيا 80 % من الغذاء تُنتجه النساء، الفقيرات عموماً. كما أنّ الاقتصاد غير الرسمي هو في الأساس نسائي بامتياز، وإن كانت السلطة الاقتصاديّة مخصَّصة دائماً للرجال. ذلك أنّ المساواة الكاملة بين الجنسَين لم تتحقّق بعد: قوانين الميراث في القارّة الأفريقيّة كلّها لا تزال غير مواتية للنساء، والاستقلال الاجتماعي- الاقتصادي لا يزال صعب المنال بالنسبة إليهنّ، ومعدّلات التحاق الفتيات بالتعليم يبقى في الغالب ضعيفاً. وكأنّ هذا لا يكفي، على حدّ تعبير كاتبة المقالة، فإنّ بعض المنظّمات غير الحكوميّة الغربيّة تستفيد من خطاب ينزع الصفة السياسيّة أحياناً عن صراع النساء ويختزله إلى موضوعات مثل تشويه الأعضاء التناسليّة للنساء، لأنّ تسليط الضوء على مثل هذا الموضوع يجذب التمويل الأجنبي، لكنّه يُضعف الحركات المحلّية للنساء، ويُسهم في دعم الصور النمطيّة السلبيّة عن الحياة في أفريقيا.

على الرّغم من ذلك كلّه، فإنّ الحركات النسائيّة الأفريقيّة تقترح أفكاراً، تَبتدع مساحاتٍ مميّزة، وتُحسِّن مجتمعاتها. يتمّ ذلك في الغالب عبر تجاهُل النِسويّة، بحسب تحديدها أو تعريفها القائم في الغرب. امّا النسويّة الغربيّة، فيُمكنها أن تكسَب القوّة والتخيّل والأهمّية في حال كانت تأخذ بعَين الاعتبار ما يحدث في أفريقيا.

المصدر: مؤسّسة الفكر العربي

Optimized by Optimole