مآلات نظريات “الدولة الديمقراطية” ما بعد العولمة

Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم – نشرة أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي —

مرّ تطور الدولة بعدد من المراحل، بدءاً من مرحلة اعتبار الأمة دولة، الى مرحلة الإمبراطوريات، ثم الحكومات التي تستمد سلطتها من الإقطاع، ومرحلة الملكية المركزة، وغيرها من الأشكال. وفي بداية القرن العشرين، شهد العالم عدداً من الإمبراطوريات (الحرب العالمية الأولى)، لكن آخر نموذج لها كان إمبراطورية الاتحاد السوفياتي التي انهارت رسمياً عام 1991. بعد تلك الفترة، واجهت الدول وأنظمتها عدداً من التحديات كان أولها وأبرزها الهيمنة الأميركية على العالم، والثاني العولمة كالدخول في الاتحادات والتنظيمات كالمحكمة الجنائية الدولية ومنظمة التجارة العالمية.

يقول الباحثان جون س. درايزك وباتريك دنلفي، في كتابهما “نظريات الدولة الديمقراطية”( ترجمة: هاشم أحمد محمد – المركز القومي للترجمة – القاهرة – 2013)، إن بعض الباحثين السياسيين يرى أن النظام العالمي “فوضوي”، لم يحقق الكثير على مستوى النظام. لكن ظهور شكل الدولة الديمقراطية الليبرالية كان حدثاً لافتاً، وتحديداً بسبب السمات الديمقراطية التي يتمتع بها من تحديد لانتخابات دورية، مروراً باحترام الحقوق المدنية، وصولاً الى وضع الدساتير وتنظيم صلاحيات السلطات الموجودة داخل الدولة.

وقد ساهم انتصار الدول الحليفة في الحرب العالمية الثانية الى زيادة الديمقراطيات الليبرالية حول العالم. غير أن بعض الدول، كالصين مثلاً، لا تزال تقاوم بشدة الليبرالية الديمقراطية، بينما روسيا، في عهد بوتين 2000، جمعت بين الانتخابات التنافسية والسلطة المركزية. أما العالم الاسلامي، فيعتبر المنطقة الأكثر صعوبة للديمقراطية الليبرالية بسبب التعقيدات الموجودة في مكوّناته. ولقد اعتبر الكثيرون أنه مع انتشار الديمقراطية الليبرالية يجب أن تنتهي الحروب بين الدول، ولكن المفاجأة كانت بغرو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق عام 2003، الأمر الذي اعتُبر بمثابة دخول بعض الليبراليات الديمقراطية الحرب وذلك بعكس ما كان متصوّراً.

من التعددية الى الحوكمة

رأى أحد مطوري نظرية التعددية، تشارلز لندبلوم، أن السوق يعتبر “سجناً” يعيق ما يمكن أن تفعله الحكومة، فالتعددية تعمل في منطقة غير مسجونة من صنع السياسة. وكان مصطلح الحوكمة يرتبط بالحكومة، ولكن الاستعمال الأكثر حداثة للمصطلح يتضمن شيئاً مختلفاً نوعاً ما، وهو “إنتاج النتائج الجماعية (في سياق المشاكل العامة) التي لا تقع تحت سيطرة السلطة المركزية”. هذا النوع من الحوكمة ينشأ جزئياً من مضاعفة الفاعلين المؤثرين.

إن ظهور الحوكمة طرح بعض الأسئلة الرئيسية عن نظرية الدولة الديمقراطية الليبرالية، بشكل خاص سواء أكانت لا تزال حقاً ديمقراطية، أم لا تزال في الحقيقة دولة بالمعنى التقليدي. إن وجود الانتخابات التنافسية هو أقل مطلب لدولة تعتبر نفسها ديمقراطية. في المقابل، يعتبر منظرو النخبة الكلاسيكيون أنها حيل تشريعية لحكم النخب المستمر. وفي النهاية، تقرر أصوات الناخبين أصحاب المناصب، سواء أكانوا مشرّعين في جمعية أم روؤساء تنفيذيين. من هنا تبرز العديد من الأمور مثل مشاكل حكم الأغلبية، وتشكيل الائتلافات خصوصاً في أنظمة الانتخابات ذات التمثيل النسبي، والعمل على إصلاح بعض الأنظمة الانتخابية خصوصاً لجهة الحد من سيطرة وتأثير المال “الانتخابي” على العملية السياسية، وكيفية كبح جماح القوى الإعلامية التي قد تكون عاملاً مؤثراً في نتائج الانتخابات.

سياسة الهوية

تفتقد معظم نظريات الدولة الديموقراطية إلى ما هو أكثر أهمية للدولة الحديثة وهو أنها قبل كل شيء دولة قومية. من هنا، يعتبر القوميون بأن كل دولة يجب أن تتكون من أمة لها تاريخ، ومجتمع، ولغة أو انتماء عرقي. وتؤكد سياسة الهوية على دور الهويات الوطنية التي غالباً ما يشعر الناس بالتعاطف معها. فالهوية تشير الى من يكون الشخص بدلاً من ماذا يريد أو ماذا تريد الدولة، ومن ثم لا يمكن اختزال الهويات الى المصالح.

تتحدى سياسة الهوية بعض النظريات السياسية، فالماركسية تعتبر أن الهوية أصبحت شيئاً من الماضي، والصراع هو طبقي بامتياز. ويرى أصحاب نظرية ليبرالية السوق اتباع الأفراد لمصالحهم الشخصية المادية فقط، فسياسة الهوية لا تندرج في العالم الاقتصادي الليبرالي للسوق. ويرى البعض أنه إذا كانت هناك هوية مهيمنة يعتقد صانعو السياسة الرئيسيون أنها يجب أن ترافق الدولة، وتستطيع الحكومات إخضاعها، فهي “المواطنة” التي تعرَّف بأنها “مجموعة من الحقوق والامتيازات والالتزامات التي ترافق العضوية الكاملة لكيان سياسي مثل الدولة”.

ويرى بعض المنظرين السياسيين أنه ليس بالضروري أن تجري الأمور بشكل جيد مع الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة، خصوصاً مع وجود العديد من العيوب فيها، من سيطرة النخب على الحكم الى قلة معرفة المواطنين بالشؤون السياسية، مروراً بيروقراطيات تزيد ميزانياتها الخاصة على العامة، إضافة الى أمور أخرى كثيرة. لكن بالرغم من كل هذه العيوب، يؤكد الفيلسوف الأميركي جون ديوي (1927) بأن “علاج أمراض الديمقراطية هو مزيد من الديمقراطية.”

أما أبرز “العلاجات” فتكمن في التعليم المدني، وإنشاء ديمقراطيات تشاركية ضمن حكم جمهوري مدني، والديمقراطيات التبادلية وأبرزها يقع في الانتخابات التي تؤدي الى تداول السلطة وتجديدها.

المحافظون

المحافظون هم الذين يتبنون نظرية أخلاقية في السياسة التي غالباً ما تندمج مع تقدير قوي للدور الذي تلعبه تقاليد مجتمع معيّن في طمأنة التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي.

يعتقد المحافظون الحقيقيون بأن هناك شيئاً اسمه “مجتمع”، لذلك يتم التأكيد على الالتزام تجاه الجماعة قبل الأفراد. وقد تشارك في النظرية المحافظة العديد من المبادئ في العالم مثل الكونفوشيوسية في شرق آسيا، ودعاة “مذهب الطائفية” خصوصاً اؤلئك الموجودين في الولايات المتحدة الأميركية.

لم يلتزم المحافظون بأي نظرية تفسيرية معيّنة للدولة، ولم يكن لديهم تفسير عام عن كيفية صنع سياسة عامة تطبق حتى لو على دولة واحدة. وبالنسبة لهم، فإن العالم معقد جداً حتى يمكن أن ينتج أياً من هذه النظريات العامة.

مع حلول عام 2003، برزت “المحافظية الجديدة” في الولايات المتحدة الأميركية التي أراد معتنقوها تعميمها على العالم. أهدافها بدأت في نقد لفقدان الغرض الأخلاقي المشترك من العالم. ويعتنق أعضاؤها ليبرالية حديثة وديمقراطية بشكل انتقائي، ويريدون استعادة الجانب الأكثر بطولية من الليبرالية. جاء نقد نهج المحافظين الجدد من المحافظين أنفسهم. هذا كله وغيره أدى، في عام 2006، الى انقلاب الرأي العام الأميركي عليهم.

ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة ليست مجرد نظرة الى نظرية اجتماعية ونقد أدبي، إنها أيضاً تفترض الاستحواذ على شيء عن العصر الحالي. إن المناصرين لما بعد الحداثة، على خلاف المحافظين، يرون أهمية قليلة أو لا يرون أهمية على الإطلاق في أي تقاليد تميّز المجتمع ككل، وهم يرون أيضاً بأن مهمتهم الخاصة بشكل رئيسي تكمن من خلال عرقلة التفاهمات الثابتة من هذا النوع بدلاً من تعزيز هذه التفاهمات على طريقة المحافظين. إن أتباع ما بعد الحداثة غالباً ما يتمتعون بامتياز منظور أولئك المضطهدين من الأنظمة المهيمنة أياً كانوا، ولكن نادراً ما يكونون طبقة اجتماعية تابعة.

يشارك أتباع نظرية ما بعد الحداثة المحافظين والماركسيين في ازدراء الفكرة الليبرالية القائلة إن الأفراد الأحرار والعقلانيين هم وحدات بناء المجتمع والسياسة. وبدلاً من ذلك، يعتقدون أن الأفراد هم نتاج القوى الاجتماعية. ويظهر التحليل الأكثر شمولاً للسياسة والمجتمع في تعبير أنصار “ما بعد البنيوية”، وهي إحدى مذاهب ما بعد الحداثة، في فكرة أحد منظّريها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عن “الحكوماتية”. وهذا المفهوم له نتائج كبيرة لعلاقة الدولة بالمجتمع، ولكن ليس بأي طريقة تقليدية، لأنه يذوِّب الدولة والمجتمع في بعضهما البعض. وفي هذا المفهوم، لا تزال الدولة موجودة، لكنها تكون لا مركزية. فلم تعد الدولة مكان السلطة السياسية، وبدلاً من ذلك، الدولة مشبكة أيضاً في عمليات الحكوماتية الأوسع.

ويقلّل أنصار ما بعد الحداثة عادة من قيمة أهمية التركيب الرسمي المفصّل لمؤسسات الحكومة. ومع ذلك، لا يزال يمكن أن تُعامل المؤسسات وتُحلّل من ناحية المفاهيم المشتركة للناس التي تُفكر فيها، وهذه المفاهيم قد لا تكون مستقرة بمرور الزمن كمفهوم السيادة مثلاً.

إن نظرية ما بعد الحداثة، قادرة على توليد بعض الأفكار الفريدة والعميقة في طبيعة السياسة وعمل الدولة. وقد طوّرت “ما بعد البنيوية” بشكل خاص تحليلاً أصيلاً جداً لطبيعة السلطة التي يمكن أن توصل بشكل مثمر للعمل بالطريقة التي يمكن أن تحوّل بها شبكات الحكم الدولة.

العولمة

هي عملية دمج للنظم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ومن المحتمل السياسية، في نظام عالمي واحد يمتد عبر حدود الدول، ويزيد تكرار التفاعلات عبر حدود الدول من التفاعلات داخل الدول. لذا تعتبر العولمة سلسلة عمليات وليست إنجازاً.

تعكس العولمة العلاقة بين العوامل الداخلية والخارجية. وبالنسبة للعالميين (الذين يمكن تعريفهم بأنهم أؤلئك الملتزمون بدرجة أكبر أو أقل بأطروحة العولمة)، فإن التأثيرات الرئيسية على الدولة حالياً هي التأثيرات الدولية في أصولها، وبناء على ذلك، يقلّلون من أهمية القوى الداخلية. وبالرغم من أن الاقتصاد والمال هما الأساس في العولمة، إلا أن النظام العالمي لا يعتمد فقط على حركة السلع والاستثمار والمال، إذ تتضمن العولمة المعلومات أيضاً (الانترنت مثالاً)، كما يمكن أن تتضمن حركة الناس الثقافية والسياسية والاجتماعية.

ويفترض العالميون أن التأثير الجوهري لكل هذه القوى والعوامل يساهم في تقويض الشخصية السيادية للدولة، حيث يتم التخلي عنها الى الهيئات والمنظمات الدولية المتعددة. في المقابل، يرى البعض أن العولمة تدل على درجة من البناء المؤسساتي على المستويين العالمي والدولي، مع تغيّر في السلطة بعيداً عن الدولة وفي المؤسسات، ولكن هذا التغيّر لا يعني بالضرورة خسارة في السلطة الرسمية للدولة.

يرى المؤلفان أن أهمية السياسة الانتخابية تنعدم في العالم المعولم إذا تحولت السلطة على نحو متزايد نحو مؤسسات الدولة التي لم تنتخب؛ وأنه قد تشتد أهمية سياسة الهوية بسبب العولمة؛ كما أن أنصار المساواة بين الجنسين ينتقدون بعض سمات العولمة لأن النساء يعانين من تدني دولة الرفاه، والاستغلال في الأعمال التي تعطي أجوراً قليلة وظروف عمل سيئة خصوصاً في الشركات الدولية التي تنتج السلع؛

كما ينضم أنصار البيئة الى النقد المضاد للعولمة وتشير الى الدمار البيئي للرأأأأسمالية الدولية. ويفسّر أنصار ما بعد الحداثة حديث العولمة على أنه مجرد شكل من أشكال الظلم، يُكيّف الناس على التصرف بطريقة منضبطة تماماً تخدم النظام الرأسمالي الليبرالي. ويرى بعض الباحثين أن للعولمة نتائج رئيسية في غاية الأهمية قد تنعكس سلباً على الدولة وأهمها أنها قد تؤدي الى انحلال الدولة بالمطلق.

ويرى المؤلفان أنه رغم الصعود السياسي والفكري للديمقراطية الليبرالية في مطلع القرن الحادي والعشرين، لا يزال هناك العديد من الحكومات الاستبدادية حول العالم، وأن فرص الليبرالية الديمقراطية على المسرح العالمي ليست وردية، إذ تم التشكيك فيها بعد الغزو الأميركي – البريطاني للعراق عام 2003، واعتبار أن مؤيديها يريدون فرضها بالبندقية.

ويرى البعض بأن الحرب أصبحت نادرة بين الدول، بالرغم من إمكانيات حدوث اشتباكات عدوانية على الحدود. من هنا، أصبحت حاجة الدول لتنظيم عسكري أقل مما كانت عليه سابقاً. ويبقى الحيز الأهم في أخذ الدولة لدورها من خلال عملية إدارة العولمة. ويخلص الباحثان إلى أنه سوف تستمر التعددية في أن تكون قوة أساسية في التفكير؛ وسوف تبقى نظريتا النخبة والماركسية نقداً راديكالياً قوياً للتفاوت الاجتماعي والحكم الرأسمالي؛ وسوف يظهر وضع محافظ جديد، و”يمين جديد” متكامل مشابه الى يمين ثمانينات القرن العشرين.

*د. هيثم مزاحم رئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط.