لماذا أخفق الحوار الليبي في تونس؟

Spread the love

بقلم: توفيق المديني* — رغم أن اتفاق الصخيرات الذي أبرم بالمغرب في 15 كانون الأول 2015، بين المكونات السياسية والقبلية الليبية، شكل بصيص أمل لليبيين الذين عانوا من الصراعات السياسية والعسكرية العبثية في بلادهم، ولا يزالون، من جراء تغييب المصلحة الوطنية، وعدم الوعي الكافي والضروري بإعادة بناء الدولة الوطنية الليبية على أسس جديدة وفق منطق العصر، وبما يخدم الأهداف الاستراتيجية للشعب الليبي في التحرر والوحدة والتنمية المستقلة فإن اجتماع الفرقاء الليبيين الموقعين على اتفاق الصخيرات، من لجنة الحوار أو أعضاء برلمان وأعضاء المجلس الأعلى للدولة وأعضاء المجلس الرئاسي والنشطاء الليبيين والأعيان وممثلي المناطق، وتحت إشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر، اختتم في ضاحية «قمرت»، شمال تونس العاصمة، قبل ثلاثة أيام، من دون التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة الليبية، فالذين تابعوا مجريات الحوار لمسوا أن أغلب الجلسات، كانت أقرب لمساءلة المجلس الرئاسي الذي يترأسه فايز السراج من قبل فريق الحوار السياسي، حول إنجازاته منذ أن استلم مهامه بداية العام الجاري، ومدى تطبيقة لاتفاق الصخيرات. كما تم تداول آليات تشكيل الحكومة المقبلة، التي من المفترض أن يعرضها المجلس الرئاسي على البرلمان المنعقد في طبرق بعد أن رفض الأخير، الحكومة السابقة التي عرضها السراج على مجلس النواب.
فبرلمان طبرق المنعقد شرق ليبيا رفض منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني، الشهر الماضي، لأنه يطالب بتقديم تشكيلة وزارية مصغرة في أقرب وقت كفرصة أخيرة لمجلس الرئاسة، إذ صوت 61 عضواً على رفض منح الثقة للحكومة التي ضمت 18 وزيراً، بينما وافق عليها 12 عضواً، وامتنع 28 عن التصويت من أصل 101 حضروا الجلسة. وكان رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج أكد أن الحكومة المقبلة ستأخذ في الحسبان الملاحظات التي سبق أن قدمها مجلس النواب وهي أن يكون الفريق الحكومي مصغراً وذا كفاءة، وأن تمثل التشكيلة الحكومية مختلف المناطق الليبية.
هناك عقبات بنيوية تحول دون بلورة مرجعية وطنية ليبية تنجدل تحتها كل المكونات الليبية السياسية والقبلية والعسكرية، ومنها:
أولاً: تعقيد الأزمة الليبية منذ انطلاقتها في سنة 2011، بعد التدخل العسكري لحلف الأطلسي لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، إضافة إلى عسكرة «الانتفاضة» المدعومة من الدول الخليجية وحلف شمال الأطلسي، لأنها كانت تخدم مصلحة المجموعات الإسلاموية لكن الإنقلاب في المواقف حصل بصورة أكثر جذرية عندما وصلت حركات الإسلام السياسي المتحدرة من «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في كل من تونس ومصر والمغرب، التي باتت تدعو بحماس التدخل الأطلسي في ليبيا الداعم لما بات يعرف في ذلك الوقت بـ«الثوار الليبيين». وازداد هذا الموقف وضوحاً عندما بدأت الدول الخليجية، في مقدمتها السعودية وقطر، تدعم بقوة «المعارضة» المسلحة الليبية بالمال والسلاح، والإعلام، وزيادة الانفتاح الأميركي الجديد والكبير على حركات «الإخوان المسلمين» في زمن ما عرف بـ «الربيع العربي»، الذي كان يدخل في سيرورة عملية استبدال النخب العربية في علاقات تبعيتها للغرب فقد استند هذا «التحالف» الجديد بين الولايات المتحدة الأميركية وحركات الإسلام السياسي في العالم العربي إلى مرجعية «التحالف» الأميركي- التركي، ولاسيما أن النموذج التركي بات يستهوي تقريباً حركات «الإخوان المسلمين» فالغرب ليس مع الديموقراطية الحقيقية التي تقود إلى بناء دولة عربية وطنية قادرة على أن تتعامل معه من موقع النديّة والشراكة المتكافئة. الغرب يهدف إلى إبقاء سيطرته على ليبيا من أجل تدفق النفط والغاز، وهو لا يبحث في إيجاد تسوية سياسية حقيقية للأزمة الليبية.
ثانياً: إن من تداعيات التدخل العسكري الغربي في ليبيا، أنه خلّف بعد إسقاط نظام العقيد القذافي ميليشيات إسلاموية مسلحة مستعدة لتقسيم البلاد بين قبائل الشرق وقبائل الغرب، إضافة إلى حرب أهلية متواصلة تغذّيها الخلافات القبلية، وارتباط القوى السياسية الليبية بالمحاور الإقليمية والدولية، التي عادة ما تتعارض مصالحها، ولا شك أن الانتشار الفوضوي للسلاح الذي بدأ مع اقتحام الثكنات الليبية بعد انهيار سلطة القذافي وتمكن أفراد وميليشيات من السيطرة عليها بالتزامن مع حالة الفراغ الحاصل في المشهد الليبي، ليس سوى جزء من الحقيقة، لأن مسألة انتشار السلاح في ليبيا تتجاوز مخازن القذافي بكثير، والمسؤولية لا تتوقف بالتالي عند حدود الأطراف المسلحة المتناحرة على السلطة في ليبيا ولكن تتجاوزها إلى أبعد من ذلك..
فالتدخل العسكري الأطلسي قاد إلى انهيار مؤسسات الدولة والتي بانهيارها تحولت ليبيا إلى مرتع للميليشيات، وانتشار 42 مليون قطعة من السلاح في بلد هو أحوج إلى توافر الدواء والغذاء، لكن القوى الدولية والإقليمية اعتمدت تقديم الدعم لطرف ليبي على حساب طرف آخر، فأغرقت المتناحرين بالسلاح وهو خيار وجدت فيه دول مصدرة للسلاح ضالتها لترويج ما تنتجه مصانعها من أدوات الخراب والدمار والاستفادة بالتالي من مآسي الشعوب بينما كان التحديان الأكبر أمام دولة ليبيا المقبلة، ولا يزالان، يتمثلان في فرض الأمن وإعادة بناء الدولة الوطنية، وتخطي الصعوبات الاقتصادية.
ثالثأً: إن اتفاق الصخيرات لم يشكل مرجعية وطنية لجميع الأطراف الليبية، بل إن المخولين بالتوقيع من الجسمين «المؤتمر الوطني العام» (أو برلمان طرابلس)، و«البرلمان» (برلمان طبرق) أعلنا في وقتها أنهما في حِلّ من هذا الاتفاق، لِيوقَّع بعدها بأعضاء من كليهما بمخالفةٍ للجسم الأم، معتمدين على مبدأ المغالبة والأمر الواقع، وليس التوافق، ليصير بعدها أمراً واقعاً، تتعامل بمقتضاه الدول الداعمة له، والتي غضّت النظر، ولو جزئياً عن الاختلاف الناشئ عنه، وبدأت تتعامل مع المجلس الرئاسي المنبثق عنه، كسلطة تنفيذية وحيدة في البلاد فالأطراف السياسية التي لها دور فاعل في المشهد السياسي لم تنظر للأزمة الليبية من زاوية الابتعاد عن المصالح الضيقة، وجعل المصلحة الوطنية العليا أمراً استراتيجياً حقيقياً، ورفض ارتهان ليبيا وزمام أمرها في أشخاص معينين والعمل على جعل روح التوافق والبعد عن الجدل ركيزة العمل الوطني للخروج من الأزمة.
فـي حيـن كــان الاتفــاق عنــد التــوقيــع أن يكــون اعتمــاد الحكــومة والتصــديق عليهــا مــن البــرلمــان بمنزلة تحصيل حاصل وإجراء روتيني متفق عليه مسبقاً ومن ناحية تضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري ليكون جزءاً منه، لم يحدّد الاتفاق من يَضمنه، فتارةً يكون المجلس الأعلى للدولة المنبثق عن أعضاء من «المؤتمر الوطني العام» المؤيد للاتفاق هو من يفعل ذلك. وهذا ما كان، وتارة أخرى يلزمون مجلس النواب بذلك لا غيره والحصيلة في هذا المحدّد «المؤتمر والبرلمان»، أي الأطراف الداخلية في الحوار، لم يكن بينهم توافق، ولا حتى اتفاق، وهذا ما آل إليه الوضع المتردّي للاتفاق خصوصاً وللبلاد عامة غير أن اتفاق الصخيرات نجح في تَحييد «المؤتمر الوطني العام» وحكومته في أحيان كثيرة، بل وهُدد بالعقوبات الخارجية لمعرقلي الحوار من المؤتمر الوطني العام وحكومة الإنقاذ، في حين أن البرلمان المعرقل للاتفاق لعدة شهور لم يكن له نصيب من هذا التهديد، لنرى ازدواجية المعايير الأممية وغيرها في التعامل مع الأطراف الليبية المختلفة، حسب رأي الباحث الليبي الفيتوري شعيب.
رابعاً: لا يخفى على أحد الدور الإيجابي الذي تلعبه تونس حكومة وشعباً من أجل ضمان حلّ حقيقي للأزمة الليبية واحتضان تونس للعديد من المؤتمرات المتعلقة بالحوار السياسي الليبي والمؤتمرات والملتقيات المتعلقة بالمصالحة الوطنية هو دليل واضح على حسن نيات الدولة التونسية الرافضة للتدخل العسكري الغربي في ليبيا، والحريصة على توحيد القوى السياسية الليبية حول مرجعية وطنية واحدة غير أن هناك دولاً أخرى ترى في الاتفاق بكل أنواعه الداخلي، أو ما كان بوساطةٍ أمميةٍ يشكل خطراً عليها، إذا لم يتماشَ مع مخططاتها وهذه الدول لم يكن لها رادع من الدول الكبرى التي تدعم الاتفاق في الكف عن التدخل في الشأن الليبي، وكأن دورها لم يكتمل إلى الآن! وهذا نموذج آخر من ازدواجية المعايير الأممية في الأزمة الليبية.
فقـد كــان العــنوان المعلن لاجتمــاع تـــونس برعاية الأمم المتحدة هو الاتفاق بشأن تشكيل جيش وطني ليبي موحد وهو هدف مطلوب ومنشود، ولكن غير محسوم بالنظر إلى تضارب مصالح الأطراف الليبية الواقعة تحت تأثير أطراف إقليمية ودولية مختلفة تتعدد حساباتها وتتباين أولوياتها، وتالياً فإن حرصها الظاهر على تجاوز المرحلة الراهنة مسألة تفرضها متطلبات اللعبة وليس الحرص على إنقاذ المصلحة الوطنية التي تظل في جزء كبير منها بأيدي أطراف خارجية تتولى العبث بالمشهد السياسي الليبي، فالمطلوب من الدول الغربية، وموفد الأمين العام للأمم المتحدة مارتن كوبلر وأعضائه وبقية المسؤولين الأمميين والليبيين المشاركين في الحوار، أن يتحركوا بنسق أسرع لإنجاح محاولات حقن الدماء في كامل ليبيا وتوفير الشروط الرئيسة لإنجاح جهود التسوية السلمية للخلافات والنزاعات الليبية – الليبية والتمهيد قولاً وفعلاً للمصالحة بين الأطراف السياسية، ولدعم السلطات المركزية في العاصمة طرابلس ولبناء مؤسسات دولة موحدة وديمقراطية في مختلف جهات ليبيا شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وترجيح سيناريوهات التسوية السياسية على فرضيات الاقتتال والحرب والصراعات المسلحة والعنيفة، وانتهاج استراتيجية الإدماج التي ترفض إقصاء أي طرف فاعل أو التورط في صراعات جديدة..
إنّ الحل في ليبيا لا بد أن يكون داخلياً، وعن طريق التوافق بين جميع الليبيين، وأن حكومة الوفاق الوطني الحالية يجب أن تضع في حسبانها أن التشكيلة الحكومية لن تنجح إن لم تكن متوازنة، وعليها أن تحتكم إلى الكفاءات، وليس إلى الجهويات أو إلى اعتبارات أخرى، وأن تعتمد على مبدأ المواطنة، لأن ليبيا لجميع الليبيين، وبالنسبة لمختلف القوى السياسية الليبية فينبغي عليها أن تقاوم أي تدخل أجنبي في ليبيا، وتقحم مجلس القبائل في أي تسوية سياسية، لأن الصراع في ليبيا ليس صراعاً سياسياً، بقدر ما هو صراع جهوي أيديولوجي قبلي، وهو ما يستدعي حواراً شاملاً، ومصالحة اجتماعية تتبناها القبائل، ويتبناها كذلك المجلس الأعلى للقبائل الذي يبقى له دور هام في التنسيق بين المدن، وكذلك مع دول الجوار، في محاربة الإرهاب، وحماية الحدود، ودعم حكومة الوفاق الوطني، والمطالبة بعودة المهجّرين، والاحتكام إلى الصندوق، ورفع الغطاء عن جميع الميليشيات المسلحة، ولابدّ من هذه التسوية التي باتت ضرورة لحل الأزمة في ليبيا حتى لا تكون عرضة للإنقسام ولمزيدٍ من الضياع.
* كاتب تونسي

المصدر: صحيفة تشرين

Optimized by Optimole