كورونا.. رحلة في بلاد العجائب

كورونا
Spread the love

فارقليط بن إدريس _ كاتب من الهند/

خمسة أشهر والعالَم يعيش على مزاج كورونا، مُذ دَخَلَ مدينة يوهان الصينيّة وانتشرَ في أكثر من 200 بلدٍ، مُخلِّفاً وراءه أكثر من مليونَيْ حالة إصابة ومائة وخمسين ألف حالة وفاة حتّى الآن، ويُدخِل العالَمَ في إقامةٍ جبريّةٍ يعيشها قهراً، حيث مُجتمعات بشريّة بأكملها في البيوت، لا فَرْقَ بين رئيسٍ ومرؤوسٍ أو وزيرٍ وغفير، الكلّ أمام كورونا سواء.

تكبَّد العالَمُ خسائرَ بتريليونات الدولارات، وتهاوَت البورصات العالَميّة، وهبطت أسعار النفط الخامّ في الأسواق الدوليّة إلى أدنى مستوياتٍ لها في التاريخ، وخسرَ مئات الملايين وظائفهم في العالَم، وهُم يُواجهون خطر المَجاعة جرّاء توقُّف النشاطات الاقتصاديّة، في الوقت الذي فتكَ الفيروس بالولايات المتّحدة، أقوى دولة في العالَم، مُخلِّفاً مئات الألوف من الإصابات والوفيّات.

لا أحد حتّى الآن يستطيع العيش حياة عاديّة من دون أن يتوجَّس من الكائنات المجهريّة على مقبضِ بابٍ، أو ثلّاجةٍ، أو جوّالٍ، أو كيسِ خضار، ومن دون أن يتخيَّل أنّ هذه الكائنات تتهيّأ لتغزو رئاتنا وتُحيلنا جثثاً هامِدة.

رحلة فيروس كورونا في الهند أخذت مَساراً مُغايراً عنه في البلدان الأخرى. فقد تنقَّل هذا الفيروس المجهري بين بلدان القارّات كافّة، غير آبه بدينٍ أو بعرقٍ أو جنسيّة، ووصل إلى بلاد العجائب، أي الهند، بلد الـ 1.38 مليار نسمة. وعلى حين غرّة صارت هويّة الفيروس إسلاميّة جهاديّة، ووصفَه الإعلام الهندي على أنّه سلاحٌ إسلاميّ لنشْر الإرهاب الفيروسي، وبات وسيلةً لنشْر الكراهيّة والبغضاء ومُمارَسة “التباعُد الاجتماعي” بحقّ المُسلمين. ولم تتردَّد وسائل التواصُل الاجتماعي والقنوات الإخباريّة في نشْر أخبارٍ مزوَّرة بحقّ المُسلمين، إلى حدّ أنّ الأستاذ “أسوك سوين” من جامعة أوبسالا السويديّة صرَّح قائلاً: “أضحت عصابات الهندوس المُتطرّفين أكثر خطراً على المُسلمين في الهند من فيروس كورونا المُستجِدّ”.

كانت الساعة 8 مساءً من يوم 24 آذار (مارس) حين أعلن رئيس الوزراء السيّد ناريندرا مودي أنّ الهند ستخضع كلّها للإغلاق التامّ لثلاثة أسابيع متتالية، بما في ذلك المحلّات التجاريّة والمَدارِس والجامِعات، ما عدا مَنافِذ التموين الأساسيّة. وفي 14 نيسان (إبريل)، تمّ تمديد الإغلاق حتّى الثالث من شهر أيّار (مايو).

وقعَ أمرُ الإغلاق التامّ كالصاعقة على ملايين الفقراء والعمّال الذين يكسبون قوتهم بالكدّ اليومي. فقد خسروا وظائفهم، ولم يبقَ أمامهم من مَصدرٍ للرزق إلّا الإعانات الحكوميّة، والتي ليست بالقدر الكافي. كما سعت الجمعيّات الخيريّة لايصال المَوادّ الغذائيّة إلى المُحتاجين والمعوزين، على الرّغم من صعوبات الوصول إلى المناطق النائية، وندرة الإحصائيّات الدقيقة عن المَجاعة والفيروس.

في 26 آذار (مارس)، أَطلَقَ وزير الماليّة “نيرمالا سيثارامان” حزمةَ دعْمٍ قدرها 24 مليار دولار لمُساعدة المُتضرّرين من الحظر، في مُحاولةٍ لتوفير وسائل الأمن الغذائي للعائلات الفقيرة عبر التحويلات النقديّة المباشرة وتقديم حبوب القمح المجانيّة وغاز الطهي لمدّة ثلاثة أشهر، فضلاً عن توفير تغطية تأمينيّة للعاملين الطبيّين.

أعلن البنك الاحتياطي الهندي يوم 27 آذار (مارس) عن مجموعة من الإجراءات للمُساعدة على تخفيف الآثار الاقتصاديّة السلبيّة الناجمة عن الحجْر الصحّي. لكنّ هذه التدابير بدأت في وقتٍ متأخّر جدّاً في الهند، في الوقت الذي كانت الصين تُحارِب فيه تفشّي الفيروس بدءاً من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، وفي ظلّ انشغال الهند بحركة شعبيّة عارمة مُناوِئة لقانون المُواطَنة الجديد الذي أقرّه البرلمان، والمعروف بتعسُّفه ضدّ المُسلمين.

ظهرت أول حالة إصابة بفيروس كوفيد-19 في الهند في 30 كانون الثاني (يناير) 2020، وأوّل حالة وفاة كانت في 12 آذار (مارس) بينما كان يُمكن القيام بالكثير خلال تلك الفترة لاحتواء الوباء، كفحْص الوافدين إلى الهند والحجْر عليهم صحيّاً. لكن، وعلى الرّغم من هذا الإهمال، تمّت في المقابل انتخابات المجلس التشريعي في دلهي التي أدّت إلى اضطراباتٍ طائفيّة في شرق المدينة تزامنت مع وجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب فيها، وذهب ضحيّتها أكثر من خسمين شخصاً معظمهم من المُسلمين الذين أُحرقت بيوتهم ومَتاجرهم وحتّى مَساجدهم، ما اضطُّرَ الآلآف منهم للّجوء إلى المُخيّمات.

هكذا، وبمضيّ أوّل أسبوعَين من شهر آذار (مارس) من دون أن تلتفت الحكومة إلى خطر انتشار الوباء، وعلى الرّغم من وصْف منظّمة الصحّة العالَميّة فيروس كوفيد-19 بالجائحة في الحادي عشر من آذار (مارس)، صرَّحت وزارة الصحّة الهنديّة بعد يومَين بأنّ فيروس كورونا لا يُمثِّل “حالة طوارئ صحيّة”.

لكنّ إعلان الحظر التامّ في الهند من طرف رئيس وزراء الهند جاء مُفاجئاً، ومن دون إعداد مسبق أو استشارة رؤساء وزراء الولايات؛ وبذلك وقع الحظر كالصاعقة على ملايين العُمّال المُهاجرين في المُدن الكبرى كدلهي ومومباي وغيرها، فاضطروا للتجمُّع عند محطّة حافلات “آنند ويهار” في دلهي. وبعد تعليق رحلات القطارات والحافلات، اضطرّ مئات الألوف منهم للسَّير على الأقدام، هُم ونساؤهم، قاطعين مئات من الأميال للوصول إلى منازلهم، ما أعاد إلى الأذهان صُور العُمّال الأميركيّين في رواية “عناقيد الغضب” لصاحبها جون شتاينبيك، التي كُتبت في أعقاب الكساد الكبير الذي ضربَ أميركا في العام 1932، ما دفع ألوفاً من العُمّال الفقراء المُشتغلين في مَزارِع التفّاح آنذاك إلى الهجرة والتشرُّد، فضلاً عن مُعاناتهم من المَجاعة إثر توقُّف الأنشطة الزراعيّة.

شهادة أكثر من حيّة

أُغلقت المَتاجِر والمَطاعِم والمَصانِع وشركات البناء كافّة، ما أفضى إلى الاستغناء عن العُمّال المُهاجرين، الذين عادوا إلى ضواحيهم وقراهم وذويهم بعيداً من زحمة المُدن الكبرى التي لا ترحم، ولاقوا في أثناء هروبهم صنوفاً من العذاب، تتراوح بين الجوع وقمْع الشرطة التي تعاملت معهم كمُجرمين، فيما أغلقت السلطات التّابعة للولايات حدودها لإيقاف المُشاة على الحدود، والزجّ بهم في مُخيّماتٍ أقيمت على ضواحي المُدن، ما أثار ذكريات الهجرة إبّان تقسيم الهند إلى دولتَين: الهند وباكستان: الموسرون يقضون الحجْر في بيوتهم، والمُشرَّدون والفقراء محشورون في “الصناديق الضيّقة” في الأحياء الفقيرة.

إزاء سوء الأحوال هذه، صرَّحت الكاتِبة والناشطة السياسيّة الهنديّة “أروندهاتي روي” قائلة: “كان المشهد مروّعاً، فقد كَشفت الهند نفسها في صورةٍ مُخزية، وبيَّنت اللّامُساواة الهيكليّة والوحشيّة فيها، والتردّي الاجتماعي والاقتصادي، واللّامُبالاة القاسية بمُعاناة البشر”.

حتّى صباح 21 نيسان (إبريل) كان عدد الإصابات بالفيروس في الهند قد وصلَ إلى 18539 إصابة، وعدد الوفيّات إلى 592 حالة. أمّا المناطق التي برزت كبؤرٍ ساخنة، فكانت مومباي وولاية تاميل نادو، ومدينة دلهي.

هذه أرقام مشجِّعة بالنسبة إلى بلدٍ كبير مثل الهند ذي كثافة سكانيّة هائلة، لكنّ الهند هي في ذَيل قائمة الدول التي يخضع أفرادها للفحص، حيث يتمّ فحص 150 شخصاً من كلّ مليون فيما تقوم الولايات المتّحدة مثلاً بفحْص 5355 شخصاً من كلّ مليون، ويصل العدد في النرويج إلى 11465. لذا يشير الخبراء إلى أنّ الإصابات في الهند مُمكن أن تكون أكثر من الإحصاءات الرسميّة، كما أنّ أحد التحدّيات أمام الهند يكمن في نقْص المعدّات والأجهزة الواقية لموظّفي الصحّة.

وقد نَجحت شركة “نيو لايف كير” الهنديّة المَملوكة لأحد المُسلمين في إعداد جهازٍ رخيص للفحص لا يتجاوز سعره 600 روبيّة، ومعه يتوقَّع زيادة نسبة الفحص في الهند إلى حدّ كبير.

في 20 نيسان (إبريل) رفعت الحكومة الحظر عن بعض الأنشطة الاقتصاديّة الرئيسة شريطة مُراعاة قواعد التباعُد الاجتماعي، وهو الأمر الذي يُتوقَّع منه أن يُخفِّف من الوطأة الاقتصاديّة لكورونا وتداعياتها في الهند إلى حدّ ما.

الخطر الأكبر

لكنّ من أخطر الأمور التي تجري حاليّاً في الهند هو التصعيد الطائفي، حيث ردَّ الإعلامُ انتشارَ الوباء إلى تجمُّع أعضاء جماعة الدعوة والتبليغ الإسلاميّة في مركزهم في حيّ نظام الدّين في نيو دلهي في شهر آذار (مارس) الماضي، بمُشارَكة مندوبين أجانب كان بعضهم مُصاباً بالفيروس.

ولئن كان خطأ الجماعة المذكورة ودَورها في زيادة انتشار الوباء لا يُنكر، ولاسيّما أنّ أعلى نسبة إصابة بالفيروس وُجدت بين مُسلمي هذه الجماعة، إلّا أنّ إلقاء اللَّوم كاملاً على المُسلمين وتفسير الإعلام الحدث من منظور طائفي يؤجّجان العداء ضدّ المُسلمين. وقد وردَ في تقريرٍ نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركيّة أنّ انتشار الوباء بات أداةً لتغذية الكراهيّة الدينيّة ضدّ المُسلمين، وأنّ مجموعة اعتداءت ضدّ المُسلمين وقعت في الهند، بعدما لامت وزارة الصحّة الهنديّة بشكلٍ مُتكرِّر حركةً إسلاميّة بنشْر الفيروس، وبعدما اتّهَمَهم الإعلام بأنّهم “قنابل بشريّة”، وأنّهم يخوضون “جهاد الكورونا”، مُتغاضياً عن تجمّعات دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة كثيرة لغير المُسلمين قامت في الفترة نفسها وبعدها. ونتيجة لذلك سُجِّل ارتفاعٌ في حوادث العنف ضدّ المُسلمين، وأُطلقت نداءاتٌ لمُقاطَعة المُسلمين اجتماعيّاً واقتصاديّاً.

الجدير ذكره أنّ رئيس الحزب الحاكِم، حزب بهارتيا جاناتا، حذَّر الإعلامَ من إلقاء اللّوم على فئة اجتماعيّة معيّنة بسبب انتشار الفيروس، ومع ذلك استمرّ الإعلام في تغطيته المُنحازة ضدّ المُسلمين. وناشدَ رئيسُ الوزراء الشعبَ في تغريدة له مؤخَّراً تحقيق التضامُن والتعاضُد في معركة مُحارَبة الوباء.

وأكَّد أحد زعماء المُسلمين أنّ جائحة كورونا قد تنتهي قريباً، لكنْ من الصعب الحدّ من التعصّب الطائفي الذي يُذكيه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ضدّ المُسلمين. وقال الناشط الاجتماعي هيمانشو، إنّ الهدف من هذه الحملة هو صرف انتباه الشعب عن فشل الحكومة في مُجابَهة الوباء، وإنّ هذه الخطوة ستأتي بعواقب وخيمة على البلد.

في خضمّ اليأس الرهيب الذي يُحيط بنا، يقدِّم لنا فيروس كورونا فرصةً لإعادة التفكير في الآلة الرهيبة التي بنيناها لأنفسنا، إذ بات واضحاً أنّه لا خيار أمام الإنسانيّة إلّا العَودة إلى الحياة الطبيعيّة. فعلى مرّ التاريخ، أَجبرت الأوبئةُ البشرَ على الانفصال عن الماضي وتخيُّل عالَمٍ جديد أفضل. لذا فإنّ هذا الوباء سيُغيِّر العالَم حتماً، ويُصبح هناك عالَمُ ما قبل كورونا وعالَمُ ما بعده، ناهيك بتغيُّر موازين القوى العالَميّة.

Optimized by Optimole