قسطنطين زريق.. مرجعيّة العرب الجامِعة

Spread the love

أحمد فرحات _ مؤسّسة الفكر العربي/

كنت أزوره دوريّاً في منزله في منطقة الحمرا في بيروت، وبناءً على إلحاح بالغ اللّطف منه، للالتقاء بنُخبٍ فكريّة وثقافيّة كانت تجتمع في كنف ضيافته الكريمة، وتُناقِش أموراً فكريّة وقوميّة ملحّة، تفرضها طبيعة الظروف التي كانت تعصف بلبنان والعالَم العربيّ في مرحلة الثمانينيّات من القرن الماضي.

وكان د. قسطنطين زريق (1909 – 2000) محطّ ثقة كلّ جلّاسه والمُتناقشين معه في مختلف القضايا التي كانت تُطرح أمامه، وعلى رأسها آخر تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة، والصراع العربيّ – الإسرائيليّ، وحال المُجتمعات العربيّة التي لا تُحسد عليها، سياسيّاً واقتصاديّاً وتنمويّاً، فضلاً عن الحريّات العامّة والخاصّة، وذلك كلّه من منطلقٍ عروبيّ حضاريّ عميق ومُتجاوز.

ربّما لهذا السبب أسبغوا عليه ألقاباً من مثل: “مرجعيّة العرب”، “داعية العقلانيّة في الفكر العربي الحديث”، “مرشد الوحدويّين”، “العروبي النموذجي”، “فارس الوعي العربي”؛ واللّقب الأخير جاءه، بحسب المفكّر د. رغيد الصلح، بُعيد ذيوع خبر صموده في بيروت في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال أوّل عاصمة عربيّة في العام 1982.

على طول خطّ بيانه الفكري والحياتي، انشغل د. قسطنطين زريق بالمسألة القوميّة، ونظّر لها، وكَتَبَ في أفقها، ورَسَمَ في سياسات توحيد الأقطار العربيّة، وتجديد الوعي العربي، وانبعاث قوى الأمّة من بوّابة العِلم والتكنولوجيا والانخراط المُباشر في فضائهما، رؤىً وابتكاراً. علاوة على التثقيف القومي بوجوهه المُختلفة: التاريخي منه، والثقافي والحضاري، ثمّ مُعالجة شؤون الحاضر والمستقبل، والاستفادة من الماضي كقوّة دفْع في الحاضر والمستقبل، ودائماً من خلال ما سمّاه “الوعاء الديمقراطي”. ولذلك كانت كُتبه التي ألّفها تندرج بالتتابع وفق سياق العناوين الآتية: “الوعي القومي”(1939)،”معنى النكبة”(1948)، “أيّ غد؟”(1957)، “نحن والتاريخ”(1959)، “هذا العصر المتفجّر”(1963)، “في معركة الحضارة”(1964)،”نحن والمستقبل”(1977)، “مَطالب المستقبل العربي”(1983)، “ما العمل؟”(1998)…إلخ. ولا عجب، في المناسبة، أن يُعَدّ كِتابه الأوّل والحامل عنوان: “الكتاب الأحمر”(1933) بمثابة ميثاق خاصّ بالقوميّة العربيّة، والذي على أساسه، كما يقول المفكّر الفلسطيني الكبير أنيس الصايغ، قامت جمعيّات وحركات وأحزاب قوميّة نشأت في بلاد الشام والعراق، مثل “نادي المثنّى بن حارث الشيباني” في بغداد، و”النادي العربي” في دمشق، و”جمعيّة العروة الوثقى” و”عصبة العمل القومي”، و”حزب النداء القومي”، و”النادي الثقافي العربي” في بيروت (ولا يزال النادي الأخير ينشط بدأب إلى يومنا هذا).

في كِتابه “الوعي القومي” يُشدّد قسطنطين زريق على تجذير الوعي القومي وعقْلَنة مَساراته، بخاصّة في ظلّ الفوضى العارمة التي تجتاحنا عرباً؛ فكلّنا، بحسب رأيه، يشعر بالتيّارات المُختلفة التي تتقاذفنا، وبالنزعات المُتباينة التي تتجاذب نواحي حياتنا، وكلّنا يحسّ هذا الهيجان الفكري العاطفي الذي طغى علينا، والذي وزّعنا فرقاً مُتنازِعة، وأحزاباً مُتناحرِة، لا تعرف لها هدفاً بيّناً أو غاية صريحة.

في مثل هذه المَوقف الدقيق، يترتّب على مفكّري الأمّة وقادتها، بحسب د. زريق، أن يُواجِهوا هذه الفوضى بعقلٍ هادىء، وقلبٍ مُطمئِن، ويعمدوا إلى تحليل عواملها، والكشف عن مَنابعها، ومَصادرها الخفيّة، وأن يتطلّعوا من خلال أمواجها المُتلاطمة إلى الأُفق البعيد، ليتبيّنوا قبس نور يهتدون به، وشاطئاً أميناً يقودون الأمّة إليه. ذلك هو واجبهم، وتلك هي رسالتهم، فإنْ لم يقوموا بهذا الواجب، ويُترجموا تلك الرسالة، فسيكونون في حُكم الجاني على أمّتهم جناية لا تُغتفر.

ومن منظور د. زريق، أنّ العامل الأكبر في هذه الفوضى الصاخبة على المستوى العربي، يعود إلى فقداننا الشعور القومي الصحيح الذي من شأنه أن يُوحِّد جهودنا، ويُنظِّم قِوانا الروحيّة، ويفيض على نفوسنا صفاءً واطمئناناً. ولقد يُعجب البعض من هذا الأمر، إذ يلتفت حواليه، فيرى شؤون الأمّة العامّة على كلّ لسان، يتحدّث بها الكبير والصغير، والغنيّ والفقير، ويسمع أسماء قادة الأمّة وزعمائها تتردّد في المجالس الخاصّة، والمَحافل العامّة، ويلمس في جوّ البلاد اهتزازات وتيّارات مفعمة بمظاهر القوّة والحياة. أفننكُر بعد هذا كلّه الشعور القَومي، وسريانه في قلوب الأمّة ونفوسها؟!.

في وضعيّة المسيحيّين العرب

جدير بالذكر، أنّه وعلى الرّغم من سلسلة الهزائم التي مُنينا بها عرباً، وثقافة الإحباط التي أصابتنا، ولا تزال تصيبنا، ظلّ د. قسطنطين زريق مُتفائلاً بالمستقبل، وبتلكم الوحدة الضروريّة التي ستبنيها أجيالنا المُقبلة. إنّه يوقن بأنّ العرب، وكما استطاعوا في العصور الغابرة أن يهضموا مدنيّات اليونان والرومان والفرس والهند ويمتصّوها بعقولهم النشيطة، ونفوسهم الظمأى، ثمّ يخرجوها إلى العالَم وحدةً مُنسجِمة، غنيّة المادّة، باهرة اللّون؛ كذلك ستكون مهمّة العرب في الأعصر الآتية، أن يتشرّبوا عِلم الغرب، ويجمعوا إليه العناصر المُختلفة التي تنشأ في الغرب والشرق كردّ فعل له، ويؤلّفوا بينها كلّها في وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المُقبلة، يفيض بها العرب على العالَم، كما فاضوا عليه بعلومهم وآدابهم وفلسفاتهم ومدنيّتهم الباهرة في القرون الماضية.

من جهة أخرى، وعلى مستوى المسيحيّين العرب، ليس قسطنطين زريق وحده مَن تكلَّم في الوجه القومي أو العروبي العميق والأصيل لهؤلاء، بل ثمّة مفكّرون عرب مسيحيّون كثر تكلّموا في الموضوع، ومن مَوقع انتمائي هُووي حضاري خالص، وعلى رأس هؤلاء: الأبّ جرمانوس فرحات، وناصيف اليازجي، وإبراهيم اليازجي، والأبّ أنستاس الكرملي، ومارون عبّود، وأمين الريحاني، ود. أدمون ربّاط، والمطران جورج خضر، والأبّ إلياس زحلاوي وغيرهم.. وغيرهم ممَّن تحدّثوا عن تجذُّر المسيحيّين في أرض الجزيرة العربيّة كلّها، وليس في شمالها فقط.

ومن الملفت القول إنّ د. قسطنطين زريق كان يتعامل مع موضوعة المسيحيّين العرب، ليس من مَوقع المسيحي الأقلّوي في مقابل المُسلم الأكثري.. أو العكس، وإنّما من مَوقع أنّهم جزء لا يتجزّأ في التاريخ والحاضر (وبالطبع في المستقبل) من المجتمع العربي الواحد، لهم ما له وعليهم ما عليه.

لكنْ، وعلى الرّغم من ذلك يقول د. زريق إنّ مشكلة المسيحيّين العرب، هي مشكلة تَشترك في مسؤوليّتها الأكثريّة والأقليّة، ولا يُمكن أن تُحَلّ حلّاً سحريّاً جذريّاً إلّا بتحوّلاتٍ جذريّة في الجانبَين معاً.

وإنّ في مقدّمة هذه التحوّلات، الإقبال على بناء مجتمع قومي على أساس مصلحة الشعب ومُنجزات العِلم والحضارة والمساواة القانونيّة والعمليّة بين المُواطنين، والعدالة بين فئاتهم وطبقاتهم، والتحوّل من “تسييس” الدّين إلى تقصّي جوهره الروحي رابطة حيّة بين المرء وخالِقه ومَنبع فضائل ترقي كيان الإنسان وتغني عطاءه الوطني والحضاري.

ثمّ إنّ الانسجام المطلوب في المجتمع العربي الجديد الذي على أساسه وحده يُمكن أن تُبنى قوميّة صحيحة، لا ينفي التعدّديّة، ولكنّه يستبدل بالتعدّديّة الطائفيّة، تعدّديّة التوجّهات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة في جوّ من الحريّة السليمة والديمقراطيّة الشامِلة.

ولا بدّ من اقتناع الأكثريّة بأنّ مسؤوليّتها تتضخّم بضخامة حجمها، وأنّ ميزتها تقوم آخر الأمر، لا على الكمّ، بل على النَّوع، أي على رقيّ الإنسان وتقدّمه وتحرّره، فهُما الضامن الأقوى للانسجام الاجتماعي، وبالتالي القومي المنشود.

وعلى الأقليّة، في المُقابل، أن توقن أنّ سلامتها وحيويّتها لا تُضمَنان بحماية من الخارج، بل بتقوية مناعتها الذاتيّة المُستمَدّة هنا أيضاً من نوع الإنسان الذي تُمثّله، وبتمْتين جذورها في مُجتمعها، وإغناء عطائها له.

ويخلص د. قسطنطين إلى أنّ الحديث عن المسيحيّين العرب والمستقبل، يفتح قضيّة العرب بكاملها، وقضايا المُستقبل بمجموعها. على أنّه ينتهي، آخر الأمر، كما ينتهي أيّ تحرٍّ صادق، إلى تحدٍّ شخصي لكلٍّ منّا. يقول المثل الفرنسي:” قلْ لي مَن تُعاشِر، أقلْ لكَ مَن أنتَ”.. ألا فلْيُسائِل كلٌّ منّا نفسه، في أيّ جبهة يَقف؟ وأي اتّجاه مُستقبلي يَختار؟ وبأيّ اقتناعٍ وعزمٍ يُقدِم على هذا الاختيار؟

إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تُحدّد قيمتنا كأفراد، مُسلمين ومسيحيّين، وتُقرِّر كما يردف د. زريق، مدى صلاحيّتنا (كأمّة) للتقدّم والرقي، بل لمجرّد البقاء في المستقبل الآتي.

على ما تقدّم أقول، إنّ كلّ مَن عرف د. قسطنطين زريق عن قرب، كان يجد فيه تلكم القامة المهيبة الطافرة بالفكر والمعرفة. والأفكار عنده، أي في كُتبه جميعاً، تتميّز بقوّة الربط والإحكام المنهجي ونجاعة الأسلوب وانسيابيّة اللّغة. إنّه يعرف كيف “يقصّ” عليكَ أفكاره.. هكذا، بلا تكلّف ولا تأنّق ولا التماس إلّا للعقل وقوّة منطق العقلانيّة.

Optimized by Optimole