“في نموذج العَيش الأندلسيّ”

Spread the love

بقلم: د. محمَّد حلمي عبد الوهَّاب _ كاتب وباحث من مصر/

إنَّ استحضار التَّجربة الأندلسيّة في التَّعايش – على الرُّغم مما أصابها في بعض الأحيان من توتّرات ومعارك – أمرٌ ينطوي على بُعدٍ تاريخيّ ورمزيّ ذي دلالة خاصّة، ليس بسبب البريق الـحضاري الذي تمثّله الـحقبة الأندلسيّة في الذهنيّة العربيّة الإسلاميّة المعاصرة فحسب، وإنَّما بسبب طول هذه الـتجربة على الـمستوى التاريخيّ من جهة، واتّساع رقعتها على الـمستوى الـجغرافيّ من جهة أخرى. أضف إلى ذلك البُعد المتعلّق بالـمجتمع الأندلسيّ ذاته، حيث كان يتكوَّن من عناصر متعدّدة سواء على الـمستوى العِرْقي/ الإثني، أم على المستوى الطبقيّ/ الاجتماعيّ، أو على المستوى الدِّينيّ/ الثقافيّ.

كانت الأندلس، حين فتحها المُسلمون، عامِرة بالسكّان الذين ينتمي أغلبهم إلى الدّيانة الـمسيحيّة. وكان بعضهم من العناصر الإيبيريّة (Iberos) التي هاجرتْ إليها من قديم الزَّمان من الـمغرب، فيما كان بعضها الآخر ينتمي إلى العناصر الكلتيّة (Celtos). وإلى جانب المسيحيّين اشتملت الأندلس على اليهود والقوط والرُّومان، فضلاً عن العناصر العربيّة الـمُصاحبة للفتح الإسلامي والبربر/ الأمازيغ، الذين سرعان ما اختلطوا بالعناصر الأصليّة، فنتج عن ذلك عنصر جديد عُرف في ما بعد باسم “الـمُولَّدين”.

فسيفساء من طراز فريد

إلى جانب ما سبق، ثمّة ما عُرف بـ “الـمستعربة” أو “الـمستعربين” (Mozarabes)”؛ والمقصود بهم العناصر الـمسيحيّة التي استعربتْ في لغتها وعاداتها، ولكنّها بقيت مُحافِظة على دينها، متمسّكة ببعض تراثها اللّغوي والـحضاري، وقد كفلتْ لهم الدَّولة الإسلاميّة حريّة العقيدة، فحافطوا على طقوسهم الدّينيّة التي كانت تُقام باللّاتينيّة. كما آثر هؤلاء العيش في الديار الإسلاميّة وعدم الانتقال إلى الـمناطق الشماليّة، حيث توجد الـمَمالك الـمسيحيّة، لِما ظلُّوا يتمتّعون به من حريّة في مُمارَسة مُعتقداتهم وشعائرهم الدينيّة، إذ تُركتْ لهم كنائسهم وأديرتهم ومَجامعهم الدينيّة وقضاؤهم الإكليريكي. في المقابل من ذلك طالَب الـمسلمون الـمُستعربين بإبداء روح الإخلاص والولاء للدولة الأندلسيّة.

أخيراً كان ثمّة عنصر آخر لعب دَوراً كبيراً في الـحياة الأندلسيّة – بخاصّة إبَّان عصر الإمارة – وهو عنصر “الصقالبة” الذين جُلبوا من أوروبا، وربُّوا تربية عسكريّة “إسلاميّة”، وانخرطوا على إثر ذلك في وظائف الـجيش والقصر، إلى جانب النورمانديّين – أو الفايكنج – الذين ينتمون إلى شمال أوروبا، وبالأخصّ الدنماركيّين الذين اعتنقوا الإسلام وتكوّنت منهم جاليات عدّة في غرب الأندلس على وجه الـخصوص. ونتيجة لذلك؛ ازدحمت الأندلس بالأجناس الـمُختلفة، وكان من الطبيعي أن تتَّصل هذه العناصر بعضها ببعض، سواء بالـمصاهرة، أم الـجوار، أم الـحرب، وأن يأخذ كلٌّ منهم عن الآخر، ممَّا كان له أثره المباشر في صهر هذه العقليّات الـمُختلفة في بوتقة واحدة، وتكوين الـمجتمع الإسباني العربي الذي لا نستطيع أن نطلق عليه إحدى هاتيْن التسميتيْن فقط.

إرادة التسامُح وتسامُح الإرادة

من الثابت تاريخيّاً أنّ العرب والـمُسلمين الفاتحين عندما نزلوا إلى أرض الأندلس، لم يقصدوا من وراء ذلك أن يعيشوا سادة مترفّعين عن السكّان المحليّين، بل استقرّوا معهم من دون أن يتدخّلوا في طرائق حياتهم الـخاصّة، أو يعمدوا إلى تغيير أديانهم. وتبعاً لذلك، لم يتدخّل المُسلمون في تنظيمات النصارى، ولم ينقلوا كرسي الـمطرانيّة الكُبرى من طُليطلة إلى العاصمة قرطبة، ولكنّهم قطعوا العلاقة بين هذه الـمطرانيّة وبين كنيسة روما، وجعلوا للنصرانيّة في الأندلس كياناً مستقلّاً بذاته. كما أبقى الـمُسلمون على الـمؤسّسات الـمسيحيّة كما هي من دون تغيير؛ كالأديرة والـمصلّيات العامّة والـخاصّة، واحتفظَ رجال الدّين بمَلابسهم الـخاصّة، وظلّت الكنائس تؤدّي وظائفها الاجتماعيّة إلى جانب وظائفها الدينيّة من دون تدخّل يُذكر.

ضمن هذا السياق، يُجمِع الـمؤرّخون الإسبان والأوروبيّون على أنّ الدولة الإسلاميّة في شبه الـجزيرة الإيبيريّة قد تعاملت مع إشكاليّة “التعدُّديّة الدينيّة والعرقيّة” بطريقة جديدة لم تعهدها الـمنطقة من قبل، منذ انتشار الدّين الـمسيحي إبّان الـمرحلة الأخيرة من العصر الروماني. فبعد أن كانت الطائفة الإسرائيليّة تتعرَّض للمُلاحَقة والإقصاء في عهد القُوطيّين (الشعوب الـجرْمانيّة التي اجتاحت جنوب أوروبا بُعيد انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة)، أصبحتْ تلك الطائفة تتعامل مع حكّامٍ مُسلمين لا يكنُّون لها العداء؛ بل يعترفون لها بحقّها في إدارة أمورها الـخاصّة ومُمارَسة شعائرها الدينيّة على أكمل وجه.

وقد دفع ذلك الأمر الـمؤرِّخ والفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (1823- 1892) – على الرّغم من تعصّبه الشديد للجنس الآري – لأن يقول: ” إنّه لم يحدث قطّ في التاريخ أنَّ فاتحاً فعَلَ ما فعله العرب في إسبانيا من تسامُحٍ واعتدالٍ مع الـمَغلوبين. لقد أصبحت اللّغة العربيّة منذ القرن العاشر لغةً مُشترَكة للمُسلمين واليهود والـمسيحيّين، فرأينا أسقفاً يؤلِّف القصائد مُلتزِماً بالعروض العربي. إنَّ الثقافة الأدبيّة لليهود في العصر الوسيط لم تكُن إلّا قبساً من الثقافة الإسلاميّة التي تُناسِب العبقريّة اليهوديّة أكثر من الـحضارة الـمسيحيّة”. أمّا على الـمستوى الاجتماعي، فمِن الـمُلاحَظ أنّ الـمُسلمين سرعان ما خالَطوا أهل الأندلس عبر الـمُصاهَرة، فامتزجتْ دماء الفاتحين الجُدد بدماء أهل البلاد الـمحليّين، وقد نتجَ عن ذلك جيلٌ جديدٌ هجَّن عُرف باسم “الـمولَّدين”. ونتيجة لذلك، لم يكد ينتهي عصر الولاة (92 – 138هـ / 710 – 755م) حتَّى كانت بلاد الأندلس إسلاميّة، بحيث استبحر فيها الدّين الإسلامي واستقرّت قواعده، فيما حافظ الـمسلمون على نصوص مُعاهداتهم، ولاسيّما معاهدات الصُّلح التي حدَّدتْ بشكل واضح طبيعة العلاقة الحاكِمة بينهما.

جاذبيّة النموذج الأندلسيّ وراهنيّته

يُمكن للنموذج الأندلسيّ أن يتَّسع في الوقت الرّاهن لتوظيفاتٍ عدّة، من ضمنها: الإعداد لإطارٍ نظري وتطبيقي في ما يخصّ قواعد الـحوار والتعايُش المُشترَك، وذلك بحكم أنَّ أجواء التسامُح والتعايُش السّلمي التي تميَّزت بهما التجربة السياسيّة والاجتماعيّة في الأندلس أثناء حقبة زمنيّة غير وجيزة، من شأنها أن تسلِّط الضوء على سلوكيّات بشريّة وحضاريّة لم تفقد براعتها وطاقتها الرمزيّة والفعليّة باعتبارها تمثِّل حافزاً متجدّداً لتطعيم دروس الـماضي في واقعنا الـمُعاصِر، وفي الـمستقبل الـمنظور أيضاً.

فالوضعيّة الـمميّزة لبلاد الأندلس قد فرضت، بحُكم طبيعتها، صيغاً مُختلفة للتعايُش والتعامُل مع أهل الذمَّة من اليهود والنصارى. ففضلاً عن التهديد الـمستمرّ للجيوش النصرانيّة، فضلاً عن الأوضاع الانقساميّة على المستوى السياسي، أسهمت تلك العوامل في تكوين الإطار الأليف لانتعاش العناصر اليهوديّة. والسبب في ذلك يعود إلى انشغال الدولة بالتهديدات النصرانيّة في الشمال، التي كانت تقابُلها مُهادَنة داخليّة لا تلبث أن تتحوَّل إلى تسامُح مُبالغ فيه تجاه أهل الذمَّة؛ وتجاه اليهود بصفة خاصّة. إلّا أنَّ الأمر لم يخلُ، بطبيعة الـحال، من حصول توتّرات كان مردُّها في بعض الأحيان إلى عزوف نصارى الأندلس عن مُمارَسة شعائرهم الدينيّة، وإقبالهم على تعلُّم اللّغة العربيّة.

ففي أيّام الـخليفة عبد الرّحمن الأوسط (176 – 238هـ/ 792 – 852م)، أعلنت القيادة الدينيّة للطائفة الـمسيحيّة عن استيائها الشديد من انحراف أبنائهم عن النصرانيّة، وتراخيهم في مُمارَسة شعائرهم الدينيّة، وانبهارهم بأنماط الـحياة العربيّة الـمُسلمة: فكريّاً واجتماعيّاً، ما دفعَ الرّاهبيْن: أولوخيو وألفارو، وغيرهما، إلى مُناشَدة إخوتهم في الدّين بضرورة التشبُّث بلغتهم وتقاليدهم وسنَنهم الأصيلة، وعندما باءت هذه الـمحاولات بالفشل شنَّ هؤلاء حملة دعائيّة ضدّ الإسلام وصلت إلى حدّ الإساءة إلى الـمُعتقدات الأساسيّة للمُسلمين، بما في ذلك سبّ الرَّسول الكريم – صلَّى اللَّه عليه وسلَّم – علناً في الساحات العامّة؛ “طلباً للشَّهادة”، ومن أجل تحريك ضمائر طائفتهم! ما استدعى تدخُّل السلطة في الأندلس وئداً للفتنة.

من ضمن هذا السياق، يسجِّل لنا تاريخ الأندلس نماذج واضحة تُبرهن على قدرة الـمُجتمعات الـمُسلمة على التعايُش والإسهام الـحضاري، كما هي الـحال بالنسبة إلى دول الطوائف (422 – 479هـ/ 1031 – 1087م) التي أُسِّست بُعيد انهيار الـخلافة الأمويّة في قرطبة إبَّان القرن الـخامس الـهجري/ الـحادي عشر الـميلادي، حيث صارت الأندلس محكومة من قبل ستّ وعشرين أسرة؛ أبرزها: أسرة بني عيَّاد في إشبيلية، وبني ذي النون في طُليلطة، وبني هود في سَرَقُسطة…إلخ.

وفي الأخير، أدَّت سياسة التسامُح التي اتّبعها أغلب حُكّام الـمُسلمين في بلاد الأندلس تجاه العناصر غير الإسلاميّة إلى إقبال المُستعرِبين الإسبان بصفة خاصّة على تلقّي العلوم الإسلاميّة وتعلُّم اللّغة العربيّة. أمّا على صعيد الـمولَّدين، أبناء البلد الـمتحوّلين إلى الإسلام، فإنّ الوثائق والأدلّة التاريخيّة تؤكِّد أنّهم لم يُجبروا على تعلُّم اللّغة العربيّة، حيث تمسَّكت أغلبيّتهم بلغتهم الرومانسيّة المشتقَّة عن اللّاتينيّة. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ كثيراً من المُصطلحات العربيّة كانت شائعة جدّاً في كلٍّ من: ليون وقشْتالة ونافار ومُختلف المَناطق الأخرى الشَّماليّة. كما استطاعت اللّغة العربيّة أيضاً أن تخترق اللّغة الرومانسيّة؛ وهي اللّغة الإسبانيّة القديمة الناتجة عن اللّهجات الإيبريّة التي كانت لا تزال في طور التكوين. وفي نهاية المطاف وجدت اللّغة الإسبانيّة نفسها مضطرّة – في ما يؤكّد الـمُستشرِق الفرنسي ليفي بروفنسال – طيلة مرحلة نموّها وحتّى القرن السابع الـهجري/ الثالث عشر الـميلادي على أقلّ تقدير، لأن تأخذ من العربيّة كلَّ ما ينقصها حتّى ذلك الوقت للتعبير عن الـمفاهيم الـجديدة، وبخاصّة في مضمار الـمؤسّسات والـحياة الـخاصّة.

لكنّ ذلك لا يمنع من القول إنّ التجربة الأندلسيّة لم تسلَم مع ذلك من سمات التعصُّب والتشدُّد العقائدي، ولاسيّما في بعض فترات دولتَي الـمُرابطين والـموحّدين اللّتَين تشكِّلان نوعاً من الـخروج على قواعد التسامُح الدّيني والاجتماعي الأندلسي، ليس على مستوى التعامُل مع الأقلّيات الدينيّة فحسب، وإنّما أيضاً على صعيد الروابط بين الـمُسلمين الإسبان والـحكَّام الـمَغاربة الـجُدد، الـمُعادين للمَدراس الفلسفيّة، والـمتحفّظين ضدّ الاسترخاء الدّيني للأندلسيّين.

ويبقى القول: إنَّ الـخبرة الأندلسيّة في التعايُش والتسامُح لا تزال تمثّل عاملَ جذبٍ حتّى اللّحظة الرّاهنة، وليس أدلّ على ذلك من الـخطاب التاريخي الشهير للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي ألقاه في حزيران (يونيو) 2009، وأشاد فيه بالتجربة الأندلسيّة باعتبارها تقدِّم مثالاً رائعاً – وربّما فريداً من نَوعه – على التعايُش السلمي بين الأديان، ولاسيّما أنّ “التسامُح تقليدٌ عريقٌ يفخرُ به الإسلام، وقد شاهدنا هذا التسامُح في تاريخ الأندلس وقرطبة خلال فترة مَحاكِم التفتيش”.

Optimized by Optimole