في الفلسفة والأدب

Spread the love

حواس محمود _ كاتِب وباحث مُقيم في النرويج/

موضوع العلاقة بين الفلسفة والأدب والتداخُل والتفارُق بينهما موضوع مهمّ وحسّاس ويحظى باهتمام النقّاد والباحثين والأدباء والفلاسفة، وهو لا يخلو من المُتعة الفكريّة والتشويق المعرفيّ. ويُمكننا تناوُل هذه العلاقة والإشارة إلى توافُر نصوصٍ أدبيّة بمضامين فلسفيّة وأخرى فلسفيّة بلغةٍ وأسلوبٍ أدبيَّين؛ بحيث تهتمّ الفلسفة بالسؤال عن الكون والناس والموجودات والقيَم والعالَم، فتُناقِش الأسئلة الوجوديّة الكبرى، مثل الموت والحياة والسِّلم والحرب والتفكير والنَّفس، فضلاً عن التحوّلات السلوكيّة الكبرى منذ أكثر من عشرين قرناً إلى يومنا الرّاهن، كما يميل الخطاب الفلسفيّ إلى النقد والعقل، ويَبتعد عن الخيال والأحاسيس التي عادةً ما يتميّز بها الأدب.

أمّا الأدب، فهو أحد أشكال التعبير الإنساني عن أفكار الإنسان بأسلوبٍ نثري أو شعري، على شكلِ مقالةٍ أو قصّة أو رواية أو خاطِرة أو مسرح. وتختلف المَدراس الأدبيّة بحسب المَراحل الزمنيّة لتطوّر المسيرة الأدبيّة عبر العصور.

العلاقة بين الفلسفة والأدب

العلاقة بين الفلسفة والأدب هي علاقة غير وديّة منذ بدايتها، وبخاصّة مع أفلاطون الذي اعتبر الشعر إيهاماً وثورة على الأخلاق، فكان هذا الفيلسوف بذلك أوّل من وظَّف النقد الأخلاقي إذا ما صحّ التعبير. فهو يرى أنّ القصائد التي يكتبها الشعراء تحتوي على معرفة وهميّة لا تتطابق مع الإيدوس، ويستشهد في ذلك بقصائد هوميروس وهيزيود اللّذَين يرسمان برأيه الآلهة باعتبارها ساخرة وساحرة ولاهية وعابِثة، بل وخليعة أيضاً، ولا تهتمّ أبدا بما يقَع في العالم المحسوس.

في القرن العشرين استمرّت النظرة المُضادّة إلى الأدب، الرافِضة أيّ تَطابُق بينه وبين الفلسفة. وفي محاضرة له بعنوان “الفلسفة والشعر”، طرح الفيلسوف والناقد الأميركي جورج بواس هذه النظرة بصورتها الفظّة قائلاً: “تكون الأفكار في الشعر عادةً مُمتهَنة وغالباً زائفة”، فيما يرى ت. س إيليوت أن “لا شكسبير ولا دانتي قاما بأيّ تفكير حقيقي” (محمّد يوب “أدب .. فلسفة أيّ علاقة”، القدس العربي، نيسان/ أبريل 2015).

إلّا أنّ الفيلسوف الألماني “نيتشة” اختلف عن غيره من الفلاسفة عندما أشار في كِتابه “ولادة التراجيديا” إلى “ضرورة أن تتخلّى الفلسفة عن التفكير المنطقي الصارِم وأن تعود إلى ناحية الوجدان الذي يتمثّل في أسلوب السرد الروائي”. كما دعا إلى حلّ هذه المعضلة من خلال “العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائيّة للارتشاف من نبع العاطفة.. حتّى ولو أدّى ذلك إلى تحطيم الفكر التحليلي” (“بين الأدب والفلسفة أيّ علاقة”، موقع الجزيرة نت، 23/ 1 / 2017).

وكان مارتن هايدغر قد حاول إيجاد علاقة وطيدة بين الفلسفة والشعر عن طريق إحداث روابط بينهما، والوقوف عند اللّغة كأحد القَواسِم المُشترَكة بين الفلسفة والأدب بعامّة. فالشعر والفلسفة يؤسِّسان وجودهما بواسطة اللّغة، وهُما -بحسب محمّد يوب- مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، بحيث إنّ العلاقة بينهما هي علاقة عشق أبدي، وعلاقة حبّ حارِق، يَجعل كلّاً منهما عاجزاً عن العيش بعيداً عن الآخر.

وهناك مَن يشير إلى أنّ الفيلسوف هو صانِع الحقيقة وإلى أنّ الأديب هو صانِع الوَهم، وإلى أنّ الأديب فيلسوف والفيلسوف أديب، لأنّ الفيلسوف بـتأمّلاته ومنطقه يُنتح أدباً غنيّاً بالمعاني والدلالات والإيحاءات والحِكم، فيما يستطيع الأديب، إذا ما فتحَ المجال لأفكاره، أن يُنتح نصّاً أدبيّاً بمضامين فلسفيّة عميقة ومفيدة فكريّاً؛ كما أنّ هناك فلسفات تُعرَض بشكلٍ أدبيّ، وأعمالاً أدبيّة زاخرة بالأفكار والتحليلات الفلسفيّة.

ويقسِّم الفيلسوف المغربي طه عبد الرّحمن اللّغة إلى قسمَين: الأوّل هو الكلام العباري والثاني هو الكلام الإشاري، مُعتبِراً الفلسفة كلاماً عِباريّاً والأدب كلاماً إشاريّاً.

وبحسب طه عبد الرّحمن: “فإنّ كلّاً من الفلسفة والأدب يختلفان في ما بينهما بمقدار نصيب كلٍّ منهما من هذَين القسمَين البيانيَّين المُتعارضَين: العبارة والإشارة أو قوّة العقل وقوّة التخيّل”، وهنا لا يذهب طه عبد الرّحمن إلى الفصل بين الأسلوبَين فصلاً تامّاً، بل يشير إلى أنّ كلّاً من الفلسفة والأدب يشتملان على هذَين النّوعَين من البيان معاً، إلّا أنّه وبينما تنال الفلسفة قسماً أكبر من البيان العباري، فإنّ السرد الأدبي يحظى بالقسم الأكبر من البيان الإشاري.

في “الفكر المُعاصِر لم يعُد الأدب يتضمّن تأملات فلسفيّة، ولم تعُد الفلسفة تأخذ صيغاً أدبيّة، بل اندمج الأدب بالفلسفة ووحَّدا صفوفهما في حِلفٍ متين لإعلان كرامة الإنسان، وكان أوّل مظهر من هذا اللّقاء ما كشفت عنه فلسفة هنري برجسون” (اللّقاء بين الأدب والفلسفة في الفكر المُعاصر، دعوة الحقّ، العددان 108 و109).

النِّتاج الفلسفيّ الأدبيّ

هناك العديد من الفَلاسفة الذين صاغوا أفكارهم وتصوّراتهم الفلسفيّة الخالِصة بحيث تبدو بأسلوب أدبي. فالجاحظ -على سبيل المثال لا الحصر- كان يعرض أفكار المُعتزلة في قالبٍ أدبي، ولُقِّب أبو حيّان التوحيدي بأديب الفَلاسفة وفيلسوف الأدباء. وفي الجانب الآخر ثمّة أدباء تضمَّنت نصوصهم معاني وأفكاراً فلسفيّة جليّة، نذكر هنا أبو العلاء المعرّي والمتنبّي وأبو تمّام، الذين زخرت نتاجاتهم الشعريّة بألوانٍ من الفلسفة وضروبٍ من الحِكمة وأنواع من المعرفة الفلسفيّة والحياتيّة المهمّة. وُيشار إلى باولو كويليو الذي تميّزت كتاباته بالأسئلة الوجوديّة، وغابرييل غارسيا ماركيز في روايته “مائة عام من العزلة” وروايات أخرى، ومارسيل بروست في “البحث عن الزمن المفقود”، والروائي هيرمان هيسه في “سدّ هارتا”، والكاتِب اليوناني نيكوس كازنتزاكي في روايته “زوربا”، ودوستويفسكي في “الجريمة والعقاب”، وجبران خليل جبران في كِتابَيه “النبي” و”الأجنحة المتكسِّرة”، وجوستاين غاردر في “عالَم صوفي”.

وهناك بعض الأعمال المُتوافرة في المنطقة العازلة بين الأدب والفلسفة، فيما تزداد المشكلة تعقيداً حينما نُلاحِظ أنّ أكبر الأعمال الأدبيّة وأكبر المذاهب الفلسفيّة تتموقَع في منطقةِ الحدود تلك، وعلى هذا الأساس ينشأ الزعم بضرورة الفصل والتمييز بينهما، وهو الأمر الذي يحوِّل العلاقة بين الأدب والفلسفة الى علاقة إشكاليّة بامتياز، اللّهم إذا كنّا مُستعدّين للتبخيس في قيمة أعمال مُفكّرين كِبار من قبيل “خِطاب في المنهج” أو “التأمّلات الميتافيزيقيّة” لديكارت، وأعمال باسكال، وموليير، وكوريني، وروسّو، وفولتير، وديدرو… والقائمة طويلة… فهناك أعمالٌ أدبيّة تعجّ بالتحليلات الفلسفيّة ويتمّ عرضها بشكلٍ أدبي.

وختاما يُمكننا القول إنّ خطوط التماس الإبداعيّة تتقارب وتتباعد بين الأدب والفلسفة بحسب قدرة الكاتِب وإمكاناته الفكريّة والأدبيّة على مزج الأدب بالفلسفة أو الفلسفة بالأدب، أو بتعبير آخر على كتابة الفلسفة بلغة أدبيّة وكتابة الأدب بمضامين فلسفيّة.

Optimized by Optimole