عِلم العمران البشريّ الخلدونيّ في ميزان الفِكر العِلميّ

Spread the love

بقلم: د. محمود الذوّادي* — يرى فلاسفة العلوم أنّ تقدّم مسيرة العِلم البشريّ يتمّ عموماً بطريقتَيْن: أوّلاً طريقة تراكم الاكتشافات العلميّة ومعطياتها عبر السنين والعقود والقرون، ويسمّي توماس كون هذا السبيل الطريقة العاديّة لتقدّم العِلم؛ ثانياً طريقة الثورات العلميّة التي تتمثّل في اكتشافات غير تراكميّة. درس توماس كون الاكتشافات العلميّة الجديدة المُفاجئة أو الثورات العلميّة التي لا يُنتظر وقوعها كنتيجة لتراكم المعرفة عبر فترات طويلة، فرأى أنّ مسيرة العِلم تتمّ عبر ما يسمّيه منظومة “البرادايم” باللّغة الإنكليزية أو الأُطر الفكريّة أو النماذج الإرشاديّة باللّغة العربيّة. تمثِّل هذه الأخيرة طُرقاً معيّنة للقيام بإنشاء العِلم وتطويره. وهي أُطر تستند إلى رؤى أو نظريّات خاصّة. فمسيرة العِلم العادي هي عبارة عن اختبارٍ متواصل ومتجدّد لتلك الأُطر الفكريّة (البراديمات) التي لم تؤدِّ إلى تطوّر كبير في حركة تقدّم العِلم. أمّا لحظات الاكتشافات العلميّة المُفاجئة أو الثوريّة فتحدث عندما يتجاوز شخصٌ ما البردايم السائد لحلّ أزمة العِلم العادي، ما يؤدّي إلى كسب رهان بردايم جديد يمثِّل ثورة علميّة وفقا لاصطلاح توماس كون.

في مقابل ما ذُكر، وقع هجوم على فكرة النموذج المثالي لمسيرة العِلم المذكورة من طرف الدراسات التاريخية للمناهج العلمية التي قام بها بول فايرأبند 1975 Paul Feyerabend أحد فلاسفة العلوم الكبار في العصر الحديث. فجادل هذا الأخير في أنّ كثيراً من الاكتشافات الثورية في العِلم ليست لها علاقة بالمنهج العلمي السائد. ويخلص بول فايرأبند إلى القول إنّ هناك مبدأ واحداً مهمّاً فقط للمنهج العلمي يتمثّل في التالي: “كلّ شيء جائز”. فبتشجيع الانحراف عن النموذج العِلمي المعمول به يُمكن كسب الابتكار. لأنّ البقاء الثابت على منهجٍ واحد من دون تغيير هو مجرّد وصفة للركود وفقدان التقدّم في العِلم.

اعتباراً للمقولات السابقة، من المناسب النظر إلى فكر “مقدّمة” ابن خلدون المبشِّرة باكتشاف عِلم جديد ألا وهو عِلم العمران البشري. نقتصر هنا على ذكر بعض المَعالِم التي ترشّح ابن خلدون لابتكار عِلم جديد وهي : أزمة عِلم التاريخ العربي والقطيعة الفكرية لعِلم العمران البشري مع ما سبقه من العلوم وإنشاء هذا العِلم لقوانين تتحكّم في تفسير الظواهر والحُكم على صحّتها أو بطلانها.

ثانياً: أزمة عِلم التاريخ العربيّ

وكما ذكرنا، يرى توماس كون أنّ الثورات العلمية تحدُث عندما تتعرّض الأُطر الفكرية (البردايمات) في فترات معيّنة إلى أزمات. وإنّ عِلم التاريخ العربي عرف أزمة في عهد ابن خلدون وقبل ذلك. يعبِّر صاحب “المقدّمة” عن تلك الأزمة في عِلم كتابة أحداث التاريخ العربي الإسلامي بعبارات شفّافة نكتفي بذكر عيّنة منها تصف الأزمة وتطرح أسبابها ومن ثمّ حلولها:

1- “وأنّ فحول المؤرّخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهمّوا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعّفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثيرُ ممّن بعدهم واتّبعوها. وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها. فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل. والتقليد عريق في الآدميّين وسليل…”.

2- فإذن “يحتاج صاحبُ هذا الفنّ (التاريخ) إلى العِلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأُمم والبقاع والأعصار في السِيَر والأخلاق والعوائد والنِحَل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومُماثَلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون بينهما من الخلاف، و تعليل المتّفق منها والمُختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتّى يكون مستوعِباً لأسباب كلّ حادث، واقفاً على أصول كلّ خبر. وحينئذ يعرض خبرَ المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإنْ وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً، وإلّا زيّفه واستغنى عنه. وما استكبر القدماء علمَ التاريخ إلّا لذلك، حتّى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحق من قبلهما ، وأمثالهم من علماء الأمّة . وقد ذهل الكثير عن هذا السرّ فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخفّ العوام ومَن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفّل عليه، فاختلط المرعي بالهَمَل واللّباب بالقشر، والصادق بالكاذب…”.

3- “ومن الغلط الخفيّ في التاريخ الذهول عن تبدّل الأحوال في الأُمم والأجيال بتبدّل الأعصار ومرور الأيّام، وهو داء دويّ شديد الخفاء إذ لا يقع إلّا بعد أحقابٍ متطاولة، فلا يكاد يتفطّن له إلّا الآحاد من أهل الخليقة. وذلك أنّ أحوال العالَم والأُمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، إنّما هو اختلاف على الأيّام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول”.

ثالثا: قطيعة فكر ابن خلدون مع العلوم الأخرى

يتحدّث ابن خلدون عن أوجه اختلاف عِلم العمران البشري الجديد عمّا سبقه من المؤلّفات لدى العجم والعرب فيقول:

“وفي الكِتاب المنسوب لأرسطو في السّياسة، المتداوَل بين النّاس جزء صالح منه، إلّا أنّه غير مستوفٍ ولا معطي حقّه من البراهين ومختلط بغيره، وقد أشار في ذلك الكِتاب إلى هذه الكلمات الّتي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان، وجعلها في الدّائرة القريبة الّتي أعظم القول فيها، هو قوله: «العالم بستان سياجه الدّولة والدّولة سلطان تحيى به السنّة والسنّة سياسة يسوسها الملك والملك نظام يعضده الجند والجند أعوان يكفلهم المال والمال رزق تجمعه الرعيّة والرعيّة عبيد يكنفهم العدل والعدل مألوف وبه قوام العالم والعالم بستان…”، ثمّ ترجع إلى أوّل الكلام. فهذه ثمان كلمات حكميّة سياسيّة ارتبط بعضها ببعض، وارتدّت أعجازها إلى صدورها، واتّصلت في دائرة لا يتعيّن طرفها، فخر بعثوره عليها وعظّم. أمّلت كلامنا في فصل الدّول والملك، وأعطيته حقّه من التّصفّح والتّفهّم، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان. وكذلك تجد في كلام ابن المقفّع، وما يستطرد في رسائله من ذكر السّياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهنّاه، إنّما يجليها في الذّكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسّل وبلاغة الكلام. وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطرطوشيّ في كِتاب سراج الملوك، وبوّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنّه لم يصادف فيه الرّمية ولا أصاب الشّاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلّة، إنّما يبوّب الباب للمسألة ثمّ يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرّقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التّحقيق قناعاً ولا يرفع البراهين الطبيعيّة حجاباً…”.

رابعاً: اكتشاف عِلم العمران البشريّ وبعض قوانينه

يُبرز ابن خلدون مواصفات علمه الجديد المُبتكر. نذكر منها عيّنة من الفقرات التي أوضَح فيها معالِم طبيعة عِلم العمران البشريّ وجملةً من قوانينه:

1- ” واعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مُستحدَث الصّنعة، غريب النّزعة، غزير الفائدة، أعثَرَ عليه البحث وأدّى إليه الغوص. وليس من عِلم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقيّة، فإنّ موضوع الخطابة إنّما هو الأقوال المقنعة النّافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدّهم عنه. ولا هو أيضاً من عِلم السّياسة المدنية، إذ السّياسة المدنيّة هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النّوع وبقاؤه. فقد خالف موضوعه موضوع هذَين الفنَّين اللّذَين ربّما يشبهانه”.

2- “وكأنّه عِلم مستنبط النّشأة. ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة”.

3- “ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاماً، وأعثَرنَا على عِلم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره. فإنْ كنتُ قد استوفيتُ مسائله، وميّزتُ عن سائر الصّنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية. وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللنّاظر المحقّق إصلاحه، ولي الفضل لأنّي نهجت له السّبيل وأوضحت له الطّريق. والله يهدي بنوره مَن يشاء”.

4- ” وأمّا الأخبار عن الواقعات فلا بدّ من صدقها وصحّتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن يُنظر في إمكان وقوعه (…) وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشكّ فيه. وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معياراً صحيحا يتحرّى به المؤرّخون طريق الصدق والصواب في ما ينقلونه. وهذا هو غرض هذا الكِتاب الأوّل من تأليفنا”.

وينبغي ذكر بعض المقولات الخلدونية الأخرى التي تشبه القوانين العمرانية المذكورة في فصول “المقدّمة”. فأشهر مقولة بهذا الصدد هي مقولة ابن خلدون حول العصبيّة: “في أنّ العصبيّة إنّما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه. وذلك لأنّ صلة الرحم طبيعي في البشر إلّا في الأقلّ. ومن صلتها النُّعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة. فإنّ القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريب أو العداء عليه، ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا”.

على هذا، تمثّل المنهجية الدقيقة إحدى سمات الروح العلميّة لدى ابن خلدون، لذا فصَّل صاحبُ “المقدّمة” القولَ العلميّ في الموضوعات الدقيقة التي يدرسها عِلم العمران البشري الخلدوني. فكتب قائلاً: “ونحن الآن نبيّن في هذا الكِتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصّنائع بوجوه برهانيّة يتّضح بها التّحقيق في معارف الخاصّة والعامّة، وتدفع بها الأوهام وترفع الشّكوك ونقول (…) فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكِتاب في ستّة فصول…”؛ ويتابع مفنّداً موضوعاته ومبرِّراً أسباب التطرّق إليها وترتيبها بما يشير إلى منهجيّته العلميّة.

*عالم اجتماع – جامعة تونس

المصدر: نشرة أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.

Optimized by Optimole