جمال حمدان والنبوءات الثلاث

جمال حمدان
Spread the love

بقلم: حنّا عبّود* —

كانت الجغرافيا (والكلمة تعني وصف الأرض) مُلحقة بفعاليّة الفكر الغيبيّ، فأيّ إله أوليمبي يمكنه، بحسب المُعتقد القديم، أن ينقل الجبل من مكانٍ إلى مكان، أو ينفخ في الغيوم فتمطر حيث يريدها أن تمطر، فمشيئة الآلهة كانت أقوى في الفكر البشريّ من فعاليّة الأرض. ومع ذلك كان هناك اعتقاد سائد، أو شبه سائد في اليونان وغير اليونان أنّ “الأم الكبرى” (ماغنا ماتير Magna Mater وهناك أسماء كثيرة جدّاً أطلقت عليها) ليست سوى الأرض وحدها التي تلد وتُنتج، فمنها وُلد الآلهة والبشر والحيوان والنبات والوحوش والمياه والأنهار والبراكين والصخور …

استغلَّ الفلاسفة القدامى من طاليس حتّى أمبيدوقليس وهيراكليت …إلخ هذه الصورة الشاملة للأرض، وراحوا يبحثون فيها، في تركيبها، وتفاعلها مع أبنائها من جماد ونبات وأحياء وتقلّبات جوّيّة …إلخ. وبرزت العناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار، فأصبحت معتمداً أساسيّاً للتفكير الفلسفي؛ فحتّى أمزجة البشر تعود إلى هذه المكوّنات. بهذه الطريقة من التفكير بات المنطلق من الأرض لا من السماء، من الفكر لا من الميثولوجيا. ومع ذلك ظلّت الميثولوجيا فعّالة إلى يومنا هذا.

الماغنا ماتير

المتوقَّع أن يكون الرومان أكثر عقلانيّة في هذه الناحية، بعدما ظهرت لديهم القوانين العقلانيّة النّاظِمة، ولكنْ مرّت ظروفٌ ظهر فيها الرومان أنّهم أشدّ تمسّكاً بالميثولوجيا من أيّ شعب سابق. ففي الحرب البونيّة الثانية، وكان هانيبال على الأبواب، حدثت مجاعة ودبّ اليأس في قلوب الناس، فاستنجد مجلس الشيوخ المُرتبك بالبصّارين والعرّافين، فكانت نصيحة العرّافة سيبيل أن يذهبوا إلى اليونان لإحضار النيزك الذي هبط من السماء، وهو يمثّل الأرض (الماغنا ماتير). وذهبت بعثة ونجحت في جلب الماغنا ماتير، واختار مجلس الشيوخ أشرف نساء روما كلوديا كوينتا وأشرف رجالها سيبيو ناسيكا، لاستلام صنم الماغنا ماتير عندما تصل السفينة من البحر وتعبر نهر التيبر. وعلى الرّغم من طعن النساء المثرثرات بعفّة كلوديا- وكانت من عذارى الموقد- أصرّت أنّها ستأتي بالماغنا ماتير بنفسها، لتُثبت عفتها، على اعتبار أنّ الماغنا ماتير لا يُمكن أن تمسّها يدٌ مدنَّسة. ولمّا اقتربت السفينة أوقفتها رمال الشاطئ، وعجزَ الرجال عن سحب السفينة إلى ضفّة النهر، فقامت كلوديا بسحبها بيدٍ واحدة، فأثبتت براءتها، وازدادت الماغنا ماتير قدسيّة على قدسيّة، وصارت معبودة في كلّ الأقاليم، وتجلَّت صفاتها في سيبيلي وهيكاتي وإيزيس وديميتر …وكلّ الربّات الكبريات. وتغلَّبت روما على المجاعة وعلى هانيبال معاً. ومنذ ذلك الوقت صار للجبل ماغنا ماتيره، وكذلك الوادي والسهل والشجر والحيوان والإنسان… فارتقت الجغرافيا إلى مكانة رفيعة جدّاً، ولم يعُد يُنظَر إليها بعَين العقل وحده، بل امتزج ذلك باحترامٍ كبير، مع الشيء الكثير من التقديس والتبجيل الميثولوجيَّين، وأُقيمت لها المَعابد في كلّ مكان تقريباً، وانتشرت الدراسات الجغرافيّة في العالَم الروماني، فصار كلّ شيء مُرتبطاً ببُعده المكاني، حتّى الزمان نفسه.

داروين

نعتقد أنّ أعظم مطوِّر للجغرافيا هو داروين بمقولته الشهيرة صراع البقاء والبقاء للأصلح، فقد يتلاءم عصفورٌ صغير مع البيئة فيضمن البقاء، وقد يَهلك أقوى الوحوش الضارية. داروين ربط كلّ شيء بالمحيط Milieu- Surroundings فأسَّس بذلك لقيام عِلم الجغرافيا الشموليّة، فاجتمعت الجغرافيا الطبيعيّة والجغرافيا البشريّة والنباتيّة والإقليميّة والمناخيّة …إلخ في مَسارٍ واحد، فخضعت الظاهرة الواحدة لكلّ تلك المؤثّرات، بعدما كانت تدرس في محيطها الخاصّ.

البُعد المكانيّ عند جمال حمدان

ماذا نقول عن مُبادرة جمال حمدان في كُتبه، وبخاصّة في دراسته الموسوعيّة لشخصيّة مصر؟ هل نقول إنّها ابتعاثٌ لنظرة شموليّة، بعد أن اطَّلع على التراث الضخم لمسيرة الدراسات الجغرافيّة بهذا الكمّ الهائل؟ ولكن أليس في نظرته شيء من الميثولوجيا التي تضفي نوعاً من السحر على المكان؟

المُلاحَظ أنّه لم يَستخدم شيئاً من الميثولوجيا في كلّ ما كَتب، بل تقوم دراساته على الإحصاءات- وطالما تأفَّف من هذه الإحصاءات المُتباينة إلى درجة مزرية- والتوصيف الواقعي والنظرة المستقبليّة القائمة على توجّهات النشاط الحالي.

ولكن من جهة أخرى، أليست الأبعاد المكانيّة الثابتة لمصر نَوعاً من الميثولوجيا؟ فهي من أقدم الدول دونما شكّ، لكنّها الدولة الوحيدة التي احتفظت بأبعادها المكانيّة، فكلّ الدول الكبرى والصغرى تغيّرت أبعادها المكانيّة، ليس مرّة، بل مرّات عديدة … إلّا مصر. خُذ روسيا أو الصين أو الهند، وأنظر كَم عدد المرّات التي تغيّرت الأبعاد المكانيّة فيها …هذا إذا غضضنا الطرف عن الكثير من الدول الصغيرة الهشّة، التي زالَ بعضها نتيجة الاجتياحات في عصر الإمبراطوريّات القديمة، بينما بقيت مصر كما كانت منذ آلاف السنين. ولا نعتقد أنّ بقاءها كان بسبب الحدود “الطبيعيّة”، كما في الناحية الشماليّة منها، فحدودها الأخرى ليست من هذا القبيل، ومع ذلك لم تتغيّر. إنّها لم تبنِ سوراً لحماية حدودها من الغزاة كما فعلت الصين، وتعرَّضت لغزوات أكثر ممّا تعرَّضت له الصين، ومع ذلك لم تخسر من حدودها بوصة واحدة، على مرّ القرون. في التراث الشعبي يقولون إنّ عَين إيزيس- وهي الماغنا ماتير المصريّة- هي الراعية الأولى لمصر، ولكن في سجلّات حمدان نرى أنّ تفاعل البشر مع الأبعاد المكانيّة في مصر كان الماغنا ماتير التي تحمي حدودها. فهل تراه ترجمَ الميثولوجيا إلى لغة الواقع؟ ألا يعني أنّ الميثولوجيا كانت تعبيراً واقعيّاً برموز غير واقعيّة؟

النبوءات الثلاث

يُمكن للقارئ أن يستنتج نبوءات قائمة على الواقع الذي درسه في كُتبه “استراتيجيّة الاستعمار والتحرير” و”العالَم الإسلامي المُعاصر”، و”اليهود أنتروبولوجيّاً، وكلّ نبوءاته ناشئة من دراسته للبُعد المكاني، أو لنقل الماغنا ماتير التي أولاها الرومان أرفع مكانة.

فالاتّحاد السوفييتي تضخَّم بلا أساس لأيّ بُعد من أبعاد الماغنا ماتير، ما خلقَ نوعاً من البلبلة الداخليّة، فعمدت السلطة السوفييتيّة إلى إنماء القدرة العسكريّة الضخمة، وفي وهمها أنّ هذا سوف يحميها ويحول بينها وبين السقوط. وذهب حمدان إلى إنّ هذه المُخالَفة للماغنا ماتير ستؤدّي إلى المزيد من الضعف، على النقيض ممّا خطَّط له القادة، فقد انتُزعت من يد الجماهير القدرة الماديّة الضروريّة للاستمرار.

والولايات المتّحدة نَوع من “الاتّحاد السوفييتي” الجديد، فهذا التوسُّع الاستعماري لن يؤدّي إلّا إلى المزيد من الضعف. وإذا أستمرّ الأمر على هذه الحال، فإنّ الولايات المتّحدة ستُصبح عملاقاً عسكريّاً استعماريّاً، وستتراجع اقتصاديّاً أمام اقتصادات آسيا النامية، وبذلك تصبح مثل الاتّحاد السوفييتي: عملاقاً عسكريّاً وقزماً اقتصاديّاً.

ربطَ جمال حمدان مصير إسرائيل بمصير الولايات المتّحدة، بعد دراسات دقيقة في كِتابه “اليهود أنتروبولوجيّاً”، فأظهرَ أنّ اليهود لا يشكّلون سلالة أنتروبولوجيّة كما الحال في مصر، بل هُم شتات حقيقي، فلا يُعقل أن يكون هناك تجانس في شتات غابَ عن البُعد المكاني آلاف السنين. وقيام إسرائيل جزء من المشروع الاستعماري، وواشنطن هي العاصمة الفعّالة لإسرائيل. وأشار إلى أنّ اختيار اليهود للعواصم العالَميّة، وبعض المُدن الكبرى، يجعلهم أبعد من أن تكون لهم شخصيّة تصهرها “الماغنا ماتير”؛ فالوجود اليهودي في فلسطين وجودٌ بالقوّة وليس بالتكامل، وهو تهديد مباشر لشخصيّة مصر.

وفي العالَم الإسلامي المُعاصر يدرس جمال حمدان هذا العالَم الذي يكاد يشمل الكرة الأرضيّة، بدرجات شديدة التفاوت، فهو يشكِّل الدّين الثالث بعد البوذيّة والمسيحيّة، والدين الثاني في إنكلترا وفرنسا وألمانيا، بخاصّة بعد الحرب العالَميّة الثانية، لاحتياج هذه البلدان إلى الإعمار. والانفجار السكّاني في هذا العالَم سيجعله يسير في عكس ما سار عليه الاتّحاد السوفييتي والولايات المتّحدة، وفي حال لجوئه إلى إنشاء قوّة سلطويّة كما فعل الاتّحاد السوفييتي، فسيقع في ما وقع فيه، بسبب غياب البُعد المكاني، أو عدم القدرة على التفاعل.

أنطون سعادة

قليلة هي الدراسات “الحمدانيّة” قبل حمدان، ولكن لا بدّ أن نشير إلى دراسة أنطون سعادة في كِتابه “نشوء الأُمم”، قبل ثلاثة عقود من ظهور محاولة حمدان، حيث جعل البُعد الطبيعي سبباً لنشوء الأُمم، بل زاد على ذلك بجعله سبباً لانصهار الأعراق والحضارات الوافدة، بحيث تتشكّل مع الزمن ثقافة قوميّة واحدة.

وقد سبق حمدان في الإشارة إلى أنّ العرب يشكّلون عالَماً مترامي الأطراف، وليس أمّة ذات بُعد مكاني، كما في مصر عند حمدان، وكما في بلاد الشام عند سعادة. وقد جعلَ سعادة سورية الطبيعيّة درعاً للعالَم العربي، وكذلك فعلَ حمدان، إذ جعل مصر قلب العالَم العربي، ومصيره مرتبط بمصيرها.

أمّا بالنسبة إلى اليهود، فقد جعل سعادة اللّوم يقع على الكنعانيّين أنفسهم لنسيانهم البُعد المكاني، وهذا ما يشكِّل في رأيه إثماً سمّاه الإثم الكنعاني، بينما اتّجه حمدان إلى القول إنّ الشتات كفيل بمحو الشخصيّة اليهوديّة لافتقادها البُعد المكاني.

*ناقد وباحث من سوريا

المصدر: مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole